الليلُ "أيّوبٌ" حزينٌ فوق مئذنةِ المدينةِ
|
والمقاهي وقتها مرٌ كأوراقِ الخريفِ
|
يقيمُ عزلتها على حجرِ الفراغِ اليائسونْ.
|
يتمرّسونَ بطعمِ علقهما الأحدِّ
|
ويلقمُ التنباكُ حلمته المريرةَ
|
للشفاهِ البله في سأمٍ
|
فيبكي الوقتُ صفرته
|
على صوتِ النراجيلِ الضريرةِ
|
ثم يذبلُ في العيونْ.
|
لم يبقَ في أرجائها
|
غيرُ احتضارٍ أسود القمصانِ
|
يحملهُ هواءٌ مالحٌ
|
كالنعشِ في طرقاتها الكسلى
|
ويمشي خلفه المتسكّعونْ.
|
وَهَنَتْ كهولتها
|
فمالتْ كي تحالفَ وحشةَ الأصنامِ..
|
إمرأةٌ تنصّبُ قلبها البدويَّ قدّيساً
|
على الأشواكِ..
|
لا قمراً لينفخَ من بقايا الروحِ
|
في ظلمائها السوداءِ
|
لا ناياً ليغمسَ كالشموعِ الخضرِ
|
في ساعاتها الجرداءِ إصبعه الصغيرةَ
|
كي يعكّرَ ماءها الساجي
|
بدمعاتِ العيونْ.
|
لا بائعُ الآسِ العجوزُ (مشرَّدٌ)
|
في شارعِ العشاقِ
|
لا امرأة تطرّزُ من ضفائرها
|
أهازيجاً لأيلولَ الكئيبِ..
|
سوى خيولِ الدمعِ
|
تركضُ خلفَ أشجارِ الخريفِ جريحةً
|
والناسُ في أوقاتهم مثل الدمى مستبهمونْ.
|
لا صوتَ أغنيةٍ يطيّر بُلبلاً
|
في زرقة الروحِ الحزينةِ
|
كي يفكّرَ عاشقٌ بالانتحارِ
|
على ضفائرِ من يحبّ..
|
ولا حمائم كي يطيّرها رسائلَ للغيابِ
|
العاشقونْ.
|
فقط ارتجالٌ ضائعُ الأصوات
|
يرفعهُ ندامى اليأسِ كالكهّانِ
|
في الأفقِ المضرّجِ بالفراقِ الصعبِ..
|
والحزنُ المراوغُ يقتفي أعمارهم كالذئبِ
|
في برّيةِ الشمس التي غربت،
|
ويعوي في ظلامٍ لا يخونْ.
|
الليلُ أيوبٌ حزينٌ والمراثي
|
كلها نضبتْ وأبلاها الذبولُ..
|
وعندّ أطرافِ البحيرةِ
|
يجلسُ الرجلُ المصابُ بشهوة الموتِ
|
العميقةِ
|
شاخصاً في آخرِ الأمواجِ..
|
يستبكي زماناً ضائعاً..
|
بين الحقيقةِ والجنونْ!
|
فيرى يداً بيضاءَ
|
تطلعُ من شقوقِ الغيمِ
|
رافعةً قناديلَ الكآبةِ
|
فوق مئذنةِ الخليقةِ
|
ثم تغرقُ في دمِ الحنّاءِ
|
مطبقةً أصابعها على شمسٍ
|
تغّيبها الظنونْ.
|
ويرى على شجر الأسى العالي
|
حمامةَ (مريمٍ) مذبوحةً بالنايِ
|
والحزنِ الأشفّ..
|
يضيئها قمرُ العشيّاتِ الجريحُ
|
بضوئهِ المشلولِ...
|
والغيماتُ تحملها على كفّ الندامةِ
|
كي يطّيرها إلى مدنِ الشقاءِ اليائسونْ!
|
هرمٌ كنسرٍ
|
لم يعدْ يلوي على شيءٍ
|
سوى التحديقِ في صحرائهِ الجرداءِ..
|
في الشمس التي مالت لتغربَ في انفرادٍ
|
يائسٍ
|
-لم تبقَ غيرُ ضريبةٍ للحزنِ باهظة الأسى..
|
وتغورُ في البئرِ الحياةُ، ويستريح الشاغرونْ!
|
ويدقُ ناقوسُ العشيّةِ نادباً
|
في وحشةِ الآحادِ أصداءَ الكهولةِ:
|
لم تكنْ هذي الحياةُ سوى
|
انتظارٍ ناقصٍ، ونداءِ حبّ خادع..
|
والناسُ في ظلماتها مستوحشونْ!
|
لم ينفعِ التحديقُ عن بُعدٍ
|
بأنصابِ الغيابِ،
|
ووقتها المنهوبِ بالخسرانِ يا أبتي!
|
... ويجلسُ عند أطراف البحيرةِ منشداً:
|
كلّ الذين رأوا الحقيقةَ في كهانتهمْ
|
أصابهمُ الجنونْ!
|