حجر الفراغ

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : طالب همّاش | المصدر : www.adab.com

 

الليلُ "أيّوبٌ" حزينٌ فوق مئذنةِ المدينةِ‏

والمقاهي وقتها مرٌ كأوراقِ الخريفِ‏

يقيمُ عزلتها على حجرِ الفراغِ اليائسونْ.‏

يتمرّسونَ بطعمِ علقهما الأحدِّ‏

ويلقمُ التنباكُ حلمته المريرةَ‏

للشفاهِ البله في سأمٍ‏

فيبكي الوقتُ صفرته‏

على صوتِ النراجيلِ الضريرةِ‏

ثم يذبلُ في العيونْ.‏

لم يبقَ في أرجائها‏

غيرُ احتضارٍ أسود القمصانِ‏

يحملهُ هواءٌ مالحٌ‏

كالنعشِ في طرقاتها الكسلى‏

ويمشي خلفه المتسكّعونْ.‏

وَهَنَتْ كهولتها‏

فمالتْ كي تحالفَ وحشةَ الأصنامِ..‏

إمرأةٌ تنصّبُ قلبها البدويَّ قدّيساً‏

على الأشواكِ..‏

لا قمراً لينفخَ من بقايا الروحِ‏

في ظلمائها السوداءِ‏

لا ناياً ليغمسَ كالشموعِ الخضرِ‏

في ساعاتها الجرداءِ إصبعه الصغيرةَ‏

كي يعكّرَ ماءها الساجي‏

بدمعاتِ العيونْ.‏

لا بائعُ الآسِ العجوزُ (مشرَّدٌ)‏

في شارعِ العشاقِ‏

لا امرأة تطرّزُ من ضفائرها‏

أهازيجاً لأيلولَ الكئيبِ..‏

سوى خيولِ الدمعِ‏

تركضُ خلفَ أشجارِ الخريفِ جريحةً‏

والناسُ في أوقاتهم مثل الدمى مستبهمونْ.‏

لا صوتَ أغنيةٍ يطيّر بُلبلاً‏

في زرقة الروحِ الحزينةِ‏

كي يفكّرَ عاشقٌ بالانتحارِ‏

على ضفائرِ من يحبّ..‏

ولا حمائم كي يطيّرها رسائلَ للغيابِ‏

العاشقونْ.‏

فقط ارتجالٌ ضائعُ الأصوات‏

يرفعهُ ندامى اليأسِ كالكهّانِ‏

في الأفقِ المضرّجِ بالفراقِ الصعبِ..‏

والحزنُ المراوغُ يقتفي أعمارهم كالذئبِ‏

في برّيةِ الشمس التي غربت،‏

ويعوي في ظلامٍ لا يخونْ.‏

الليلُ أيوبٌ حزينٌ والمراثي‏

كلها نضبتْ وأبلاها الذبولُ..‏

وعندّ أطرافِ البحيرةِ‏

يجلسُ الرجلُ المصابُ بشهوة الموتِ‏

العميقةِ‏

شاخصاً في آخرِ الأمواجِ..‏

يستبكي زماناً ضائعاً..‏

بين الحقيقةِ والجنونْ!‏

فيرى يداً بيضاءَ‏

تطلعُ من شقوقِ الغيمِ‏

رافعةً قناديلَ الكآبةِ‏

فوق مئذنةِ الخليقةِ‏

ثم تغرقُ في دمِ الحنّاءِ‏

مطبقةً أصابعها على شمسٍ‏

تغّيبها الظنونْ.‏

ويرى على شجر الأسى العالي‏

حمامةَ (مريمٍ) مذبوحةً بالنايِ‏

والحزنِ الأشفّ..‏

يضيئها قمرُ العشيّاتِ الجريحُ‏

بضوئهِ المشلولِ...‏

والغيماتُ تحملها على كفّ الندامةِ‏

كي يطّيرها إلى مدنِ الشقاءِ اليائسونْ!‏

هرمٌ كنسرٍ‏

لم يعدْ يلوي على شيءٍ‏

سوى التحديقِ في صحرائهِ الجرداءِ..‏

في الشمس التي مالت لتغربَ في انفرادٍ‏

يائسٍ‏

-لم تبقَ غيرُ ضريبةٍ للحزنِ باهظة الأسى..‏

وتغورُ في البئرِ الحياةُ، ويستريح الشاغرونْ!‏

ويدقُ ناقوسُ العشيّةِ نادباً‏

في وحشةِ الآحادِ أصداءَ الكهولةِ:‏

لم تكنْ هذي الحياةُ سوى‏

انتظارٍ ناقصٍ، ونداءِ حبّ خادع..‏

والناسُ في ظلماتها مستوحشونْ!‏

لم ينفعِ التحديقُ عن بُعدٍ‏

بأنصابِ الغيابِ،‏

ووقتها المنهوبِ بالخسرانِ يا أبتي!‏

... ويجلسُ عند أطراف البحيرةِ منشداً:‏

كلّ الذين رأوا الحقيقةَ في كهانتهمْ‏

أصابهمُ الجنونْ!