بتـــــاريخ : 9/10/2008 11:42:05 AM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1455 0


    صفحات منسية

    الناقل : elmasry | العمر :42 | الكاتب الأصلى : محمد الثالث | المصدر : www.egyptsons.com

    كلمات مفتاحية  :
    تاريخ صفحات منسية

    يعتبر يوسف بن تاشفين بحق واحداً من عظماء المسلمين الذين جدّدوا للأمة أمر دينها ولم يأخذ حقه من الاهتمام التاريخي إلا قليلاً.
    وشخصية يوسف بن تاشفين شخصية إسلامية متميزة استجمعت من خصائل الخير
    وجوامع الفضيلة ما ندر أن يوجد مثلها في شخص مثله. فيوسف بن تاشفين «أبو
    يعقوب» لا يقل عظمة عن يوسف بن أيوب الملقب بصلاح الدين الأيوبي، وإذا كان
    الأخير قد ذاع صيته في المشرق الإسلامي وهو يقارع الصليبيين ويوحد
    المسلمين، فإن الأول قد انتشر أمره في المغرب الإسلامي وهو يقارع الإسبان
    والمارقين من الدين وملوك الطوائف ويوحد المسلمين في زمن كان المسلمون فيه
    أحوج ما يكونون إلى أمثاله.

    نشأ يوسف بن تاشفين في جنوب بلاد المغرب (موريتانيا حالياً) نشأة إيمانية
    جهادية، وأصله من قبائل «سنهاجه اللثام» ويقال بأنه حميري عربي وفي روايات
    أخرى بربري.


    كانت الظروف السياسية السائدة في زمنه غاية في التعقيد وغلب عليها تعدد
    الولاءات وانقسام العالم الإسلامي وسيطرة قوى متناقضة على شعوبه. ففي
    بغداد كانت الخلافة العباسية من الضعف بمكان بحيث لا تسيطر على معظم
    ولاياتها، وفي مصر ساد الحكم الفاطمي الفاسد، وفي بلاد الشام بدأت بواكير
    الحملات الصليبية بالنزول في سواحل الشام، وفي الأندلس استعرت الخصومة
    والخيانة وعم الفساد بين ملوك طوائفها، وأما في بلاد المغرب الإسلامي حيث
    نشأ وترعرع فكانت قبائل مارقة من الدين تسيطر على الشمال المغربي، وتحصن
    مواقعها في ا لمدن الساحلية كسبتة وطنجة ومليلة، وهي من آثار الدولة
    العبيدية الفاطمية التي تركت آثاراً عقيدية منحرفة تمثلت في جزء منها
    بإمارة تسمى الإمارة البرغواطية سيطرت على شمال المغرب وبنت أسطولاً قوياً
    لها وحصنت قواتها البحرية المطلة على مضيق جبل طارق.



    وفي عام 445هـ أسّس عبد اللـه بن ياسين حركة المرابطية (الرباط في سبيل
    اللـه)، وبعد عشر سنوات تسلم قيادة الحركة يوسف بن تاشفين، فبدأ بتعمير
    البلاد وحكمها بالعدل، وكان يختار رجالاً من أهل الفقه والقضاء لتطبيق
    الإسلام على الناس، واهتم ببناء المساجد باعتبارها مراكز دعوة وانطلاق
    وتوحيد للمسلمين تحت إمارته، ثم بدأ يتوسع شرقاً وجنوباً وشمالاً فكانت
    المواجهة بينه وبين الإمارة البرغواطية الضالة أمراً لا مفر منه.


    إستعان ابن تاشفين في البداية بالمعتمد بن عباد - وهو أحد أمراء الأندلس
    الصالحين - لمحاربة البرغواطيين، فأمدّه المعتمد بقوة بحرية ساعدته في
    القضاء على الإمارة الضالة، وهكذا استطاع أن يوحد كل المغرب حتى مدينة
    الجزائر شرقاً، وحتى غانة جنوباً، وكان ذلك عام 476هـ. وبعد أن قوي ساعده
    واستقرت دولته وتوسعت، لجأ إليه مسلمو الأندلس طالبين الغوث والنجدة، حيث
    كانت أحوال الأندلس تسوء يوماً بعد يوم، فملوك الطوائف لقبوا أنفسهم
    بالخلفاء، وخطبوا لأنفسهم على المنابر، وضربوا النقود بأسمائهم، وصار كل
    واحدٍ منهم يسعى للاستيلاء على ممتلكات صاحبه، لا يضره الاستعانة بالإسبان
    النصارى أعداء المسلمين لتحقيق أهدافه، واستنابوا الفساق، واستنجدوا
    بالنصارى وتنازلوا لهم عن مداخل البلاد ومخارجها. وأدرك النصارى حقيقة
    ضعفهم فطلبوا منهم المزيد.



    ولقد استجاب ابن تاشفين لطلب المسلمين المستضعفين، وفي ذلك يقول الفقيه
    ابن العربي: «فلبّاهم أمير المسلمين ومنحه اللـه النصر، وألجم الكفار
    السيف، واستولى على من قدر عليه من الرؤساء من البلاد والمعاقل، وبقيت
    طائفة من رؤساء الثغر الشرقي للأندلس تحالفوا مع النصارى، فدعاهم أمير
    المسلمين إلى الجهاد والدخول في بيعة الجمهور، فقالوا: لا جهاد إلا مع
    إمام من قريش ولستَ به، أو مع نائبه وما أنت ذلك، فقال: أنا خادم الإمام
    العباسي، فقالوا له: أظهر لنا تقديمه إليك، فقال: أو ليست الخطبة في جميع
    بلادي له؟ فقالوا: ذلك احتيال، ومردوا على النفاق».



    وحتى يكون ابن تاشفين أميراً شرعياً أرسل إلى الخليفة العباسي يطلب منه
    توليته. ويقول السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء: «وفي سنة تسع وسبعين أرسل
    يوسف بن تاشفين صاحب سبتة ومراكش إلى المقتدي يطلب أن يسلطنه وأن يقلده ما
    بيده من البلاد فبعث إليه الـخُلَعَ والأَعلام والتقليدَ ولقّبه بأمير
    المسلمين، ففرح بذلك وسُر به فقهاء المغرب».


    وبعد أن زاد ضغط النصارى الإسبان القادمين من الشمال استنجد بابن تاشفين
    المعتمد بن عباد، ونُقِلَ عنه في كتاب دراسات في الدولة العربية في المغرب
    والأندلس أنه قال: «رعي الـجِمال عندي خير من رعي الخنازير» وذلك كناية عن
    تفضيله للسيادة الإسلامية، ودخل المعتمد مع ابن تاشفين الأندلس شمالاً
    وقاد ابن تاشفين الجيوش الإسلامية وقاتل النصارى قتالاً شديداً وكانت
    موقعة الزلاّقة من أكبر المعارك التي انتصر فيها المسلمون انتصاراً كبيراً
    على الإسبان، وهُزم ملكهم الفونسو السادس هزيمة منكرة.



    وعلى أثر هذه الموقعة خَلَعَ ابنُ تاشفين جميعَ ملوك الطوائف من مناصبهم
    ووحّد الأندلس مع المغرب في ولاية واحدة لتصبح: أكبر ولاية إسلامية في
    دولة الخلافة.
    يقول صاحب الـحُلَل الـمَوْشِيّة: (ولما ضخمت مملكة يوسف بن تاشفين واتسعت
    عمالته، اجتمعت إليه أشياع قبيلته، وأعيان دولته، وقالت له: أنت خليفة
    اللـه في أرضه، وحقك أكبر من أن تدعى بالأمير، بل ندعوك بأمير المؤمنين.
    فقال لهم: حاشا للـه أن نتسمى بهذا الاسم، إنما يتسمى به خلفاء بني العباس
    لكونهم من تلك السلالة الكريمة، ولأنهم ملوك الحرمين مكة والمدينة، وأنا
    راجلهم والقائم بدعوتهم، فقالوا له: لا بد من اسم تمتاز به، فأجاب إلى
    «أمير المسلمين وناصر الدين» وخطب لهم بذلك في المنابر وخوطب به من
    العُدْوَتَيْن - أي المغرب والأندلس -).



    يقول السلامي الناصري في الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى: «إنما احتاج
    أمير المسلمين إلى التقليد من الخليفة العباسي مع أنه كان بعيداً عنه،
    وأقوى شوكة منه، لتكون ولايته مستندة إلى الشرع... وإنما تسمى بأمير
    المسلمين دون أمير المؤمنين أدباً مع الخليفة حتى لا يشاركه في لقبه، لأن
    لقب أمير المؤمنين خاص بالخليفة، والخليفة من قريش».


    ومن علامات التقوى والتمسك بأهداب الدين تمسك الأمراء والحكام بالنقد
    الشرعي، وفي ذلك يقول ابن الخطيب في كتابه الإحاطة: (كان درهمه فضة،
    وديناره تبراً محضاً، في إحدى صفحتيه «لا إله إلا اللـه محمد رسول اللـه»،
    وتحت ذلك «أمير المسلمين يوسف بن تاشفين»، وفي الدائر ومن يبتغ غير
    الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، وفي الصفحة
    الأخرى «الإمام عبد اللـه أمير المؤمنين» وفي الدائرة «تاريخ ضربه وموضع
    سكه»). وعبد اللـه اصطلاحاً هو كنية يصلح لاسم كل خليفة عباسي. واتخذ يوسف
    السواد شعاراً للمرابطين، وهو نفس شعار الدولة العباسية، ورفع شعار السواد
    يدل على التمسك بالسنة والتمسك بالوحدة وعدم شق جماعة المسلمين، إضافة إلى
    أن راية رسول اللـه صلى الله عليه وسلم كانت سوداء.



    لقد ذاع صيت ابن تاشفين بين العلماء والقضاة بشكل خاص وبين الناس بشكل عام
    فتناقلوا أخباره وصفاته، وتواتر عنهم نقل صفات الجهاد والعدل والزهد
    والإخلاص والتمسك بالإسلام وبدولة المسلمين الشرعية، حتى أثنى عليه معظم
    العلماء والفقهاء.


    جاء في الخطاب المطول الذي رفعه الفقيه المعروف بابن العربي واسمه عبد
    اللـه بن عمر: «... الأمير أبو يعقوب يوسف بن تاشفين المتحرك بالجهاد،
    المتجهز إلى المسلمين باستئصال فئة العناد، ولمة الفساد، قام بدعوة
    الإمامة العباسية والناس أشياع، وقد غلب عليهم قوم دعوا إلى أنفسهم ليسوا
    من الرهط الكريم ولا من شعبه الطاهر الصميم، فنبّه جميع من كان في أفق
    قيامه بالدعوة الإمامية العباسية، وقاتل من توقف عنها منذ أربعين عاماً
    إلى أن صار جميع من في جهة المغارب على سعتها وامتدادها له طاعة،



    واجتمعت بحمد اللـه على دعوته الموفقة الجماعة، فيخطب الآن للخلافة، بسط اللـه
    أنوارها، وأعلى منارها على أكثر من ألفي منبر وخمسمائة منبر، فإن طاعته
    ضاعفها اللـه من أول بلاد اللـه الإفرنج، استأصل اللـه شأفتهم، ودمّر
    جملتهم إلى آخر بلاد السوس مما يلي غانة، وهي بلاد معادن الذهب، والحافة
    بين الحدين المذكورين مسيرة خمسة أشهر، وله وقائع في جميع أصناف الشرك من
    الإفرنج وغيرهم،



    قد فللت غربهم، وقللت حزبهم، وألفت مجموعة حربهم، وهو مستمر على مجاهدتهم
    ومضايقتهم في كل أفق، وعلى كل الطرق، ولقد وصل إلى ديار المشرق في هذا
    العام قاضٍ من قضاة المغرب يعرف بابن القاسم، ذكر من حال هذا الأمير ما
    يؤكد ما ذكرته، ويؤيد ما شرحته، وقد خصّه اللـه بفضائل، منها الدين
    المتين، والعدل المستبين، وطاعة الإمام، وابتداء جهاده بالمحاربة على
    إظهار دعوته، وجمع المسلمين على طاعته، والارتباط بحماية الثغور، وهو ممن
    يقسم بالسوية، ويعدل في الرعية، وواللـه ما في طاعته مع سعتها دانٍ منه،
    ولا ناءٍ عنه من البلاد ما يجري فيه على أحد من المسلمين رسم مَكْسٍ، وسبل
    المسلمين آمنة، ونقوده من الذهب والفضة سليمة من الشرب، مطرزة باسم
    الخلافة ضاعف اللـه تعظيمها وجلالها. هذه حقيقة حاله واللـه يعلم أني ما
    أسهبت ولا لغوت بل لعلي أغفلت أو قصرت».



    وجاء رد الخليفة بخط يده وبمداد ممسك: «... إن ذلك الولي الذي أضحى بحبل
    الإخلاص معتصماً، ولشرطه ملتزماً، وإلى أداء فروضه مسابقاً، وكل فعله فيما
    هو بصدده للتوفيق مساوقاً، لا ريبة في اعتقاده، ولا شك في تقلده من
    الولاء، طويل نجاده، إذا كان من غدا بالدين تمسكه، وفي الزيادة عنه مسلكه،
    حقيقاً بأن يستتب صلاح النظام على يده، ويستشف من يومه حسن العقبى في غده،
    وأفضل من نحاه، وعليه من الاجتهاد دار رحاه، جهاد من يليه من الكفار،
    وإتيان ما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار، اتباعاً لقوله تعالى: ﴿قاتلوا
    الذين يلونكم من الكفار﴾ فهذا هو الواجب اعتماده، الذي يقوم به الشرع
    عماده».


    وللغزالي قول فيه رد على طلب ابن العربي منه لفتوى بحقه نقتبس منه: «لقد
    سمعت من لسانه -ابن العربي- وهو الموثوق به، الذي يستغنى مع شهادته عن
    غيره، وعن طبقة من ثقاة المغرب الفقهاء وغيرهم من سيرة هذا الأمير أكثر
    اللـه في الأمراء أمثاله، ما أوجب الدعاء لأمثاله، فلقد أصاب الحق في
    إظهار الشعار الإمام المستظهري، وإذا نادى الملك المستولي بشعار الخلافة
    العباسية وجب على كل الرعايا والرؤساء الإذعان والانقياد، ولزمهم السمع
    والطاعة، وعليهم أن يعتقدوا أن طاعته هي طاعة الإمام، ومخالفته مخالفة
    الإمام، وكل من تمرد واستعصى وسل يده عن الطاعة فحكمه حكم الباغي،



    وقد قال اللـه تعالى: ﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت
    إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تـفـيء إلى أمر اللـه﴾ والفيئـة
    إلى أمـر اللـه الرجوع إلى السلطان العادل المتمسك بولاء الإمام الحق
    المنتسب إلى الخلافة العباسية، فكل متمرد على الحق فإنه مردود بالسيف إلى
    الحق، فيجب على الأمير وأشياعه قتال هؤلاء المتمردة عن طاعته لا سيما وقد
    استنجدوا بالنصارى المشركين أوليائهم،



    وهم أعداء اللـه في مقابلة المسلمين الذين هم أولياء اللـه، فمن أعظم
    القربات قتالهم إلى أن يعودوا إلى طاعة الأمير العادل المتمسك بطاعة
    الخلافة العباسية، ومهما تركوا المخالفة وجب الكف عنهم، وإذا قاتلوا لم
    يجز أن يتبع مدبرهم، ولا أن (ينزف) على جريحهم.... وأما من يظفر به من
    أموالهم فمردود عليهم أو على ورثتهم، وما يؤخذ من نسائهم وذراريهم في
    القتال مهدرة لا ضمان فيها... ويجب على حضرة الخليفة التقليد فإن الإمام
    الحق عاقلة أهل الإسلام، ولا يحل له أن يترك في أقطار الأرض فتنة ثائرة
    إلا ويسعى في إطفائها بكل ممكن. قال عمر رضي اللـه عنه: «لو تركت جرباء
    على ضفة الفرات لم تُطل بالهناء -القِطر- فأنا المسؤول عنها يوم القيامة».
    فقال عمر بن عبد العزيز: «خصماؤك يا أمير المؤمنين»، يعني أنك مسؤول عن كل
    واحد منهم إن ضيعت حق اللـه فيهم أو أقمته فلا رخصة في التوقف عن إطفاء
    الفتنة في قرية تحوي عشرة فكيف في أقاليم». انتهى كلام الغزالي.
     

    معركة أليس 'نهر الدم'

    هذه المعركة رسالة شديدة الوضوح، ظاهرة الدلالة لهؤلاء الحمقى والمغفلين الذين يتحدثون عن الوثن الكبير المسمى 'بالقومية العربية' إلى هؤلاء الأشقياء الذين يقولون :'إن الدين يفرقنا، والعروبة تجمعنا'
    والذين جعلوا القومية العربية بديلاً عن عقيدة الولاء والبراء الناصعة،
    التي تجمع تحت لوائها كل مسلم في شتى بقاع الأرض، وإن نأت دياره، واستعجم
    لسانه، وتطرد عنها غير المسلم وإن كان من ذوى الأرحام، أو من أقرب
    الجيران، هذه المعركة تظهر المشاعر الحقيقية لغير المسلمين تجاه المسلمين،
    وإن كانوا من بنى جلدتهم، ويتحدثون بلسانهم، ولا عزاء للقوميين العرب في
    كل مكان وزمان ‍‍‍‍.

    التحالف المجوسي الصليبي :

    بعد
    الانتصار الباهر الذي حققه المسلمون على 'الفرس' في معركة 'ذات السلاسل'
    و'المذار'، وسقوط مدينة 'الأبلة' منفذ 'الفرس' الوحيد على الخليج العربي
    أمرت القيادة العليا لفارس بإعداد جيشين من أقوى الجيوش الفارسية يقودهما
    أمهر القادة 'الفرس' وهما [1] 'الأندر زغر' [2] 'بهمن جاذوية'،
    وأمرهما كسرى بالتوجه سريعاً إلى منطقة 'الولجة' للوقوف في طريق 'خالد بن
    الوليد'، حتى لا يستولي على 'الحيرة' عاصمة العراق العربية، وانضمت قبائل
    'بكر بن وائل' العربية وأغلبها نصارى إلى الجيش الفارسي، وانضم نصارى
    'الحيرة' ونصارى 'تغلب' للجيش الفارسي .


    استطاعت
    الاستخبارات العسكرية أن تنقل الأخبار للقائد 'خالد بن الوليد' عن حقيقة
    المخطط الفارسي الذي يقوم على فكرة الكماشة، وتلك المعلومات جعلت 'خالد'
    يعيد ترتيب أوراقه ، ويغير خطط السير، حيث سلك طرقاً مختلفة، ويعكس اتجاه
    السير عدة مرات، حتى لا يتضح اتجاه سيره، ثم اتجه إلى الجنوب، ووضع
    الحاميات القوية في المناطق المفتوحة، وأمرهم أن يقوموا بحماية ظهره من
    العدوان .


    الغلطة العسكرية :


    كانت
    الخطة التي رسمها كسرى لجيوشه تقتضي أن يتبع 'بهمن' الطريق الذي يسير فيه
    'الأندر زغر'، والاتحاد عند الاصطدام مع المسلمين، وبقدر الله عز وجل
    يرتكب القائد 'بهمن' غلطة عسكرية شنيعة، حيث يخالف الأوامر، ويسلك طريقاً
    مخالفاً للخطة، على أمل أن يوقع المسلمين في الكماشة، ولكن 'خالداً'
    بذكائه العسكري الفذ استطاع أن يفلت من هذه المصيدة، ويسلك طريقاً طويلاً،
    ولكنه خال من الكمائن الفارسية، في حين أن 'بهمن جاذوية' بمحاولته هذه قد
    سار في طريق بعيد عن 'الولجة'، مما سهل 'لخالد' مهمته في الانفراد بجيش
    'الأندر زغر' .


    كان
    جيش 'الأندر زغر' عظيم التسليح، ضخم الحجم، يوجد به معظم نصارى العراق،
    وقد دفعه غروره وضخامة جيشه إلى التفكير في محاولة استرجاع المناطق
    المفتوحة من قبل المسلمين، ووصلت هذه الأخبار للقائد الفطن 'خالد بن
    الوليد' عبر سلاح الاستخبارات الإسلامية .


    **[وهذا
    يوضح أهمية الحذر، والأخذ بالأسباب، والفطنة الدائمة لقادة المسلمين في
    تعاملهم مع عدوهم، ليس حال الحرب فقط ولكن حال السلم أيضاً، عملاً بقوله
    عز وجل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا} [71] سورة النساء.]


    قام
    'خالد' بتعبئة جيوشه، ونصب كمينين خلفه من ناحية اليمين واليسار وطلب
    منهما ألا يدخلا في القتال إلا قبل النهاية بقليل، وعندما تظهر بوادر
    الضعف على 'الفرس'، واستطاع 'خالد' بخطته العسكرية العبقرية أن ينفرد بجيش
    'الأندر زغر'، ويصطدم معه في 22 صفر سنة 12 هجرية، وثبت 'الفرس' ثباتاً
    هائلاً أمام الصدمة الإسلامية، حتى خشي المسلمون من الهزيمة، وفى اللحظة
    الحاسمة ينقض الكمين الإسلامي من ناحية اليمين ثم الشمال، ويقع 'الفرس'
    بين فكي الأسد، ويفر الكثيرون من أرض المعركة هائمين على وجوههم في
    الصحراء، وعلى رأسهم القائد 'الأندر زغر' الذي مات عطشاً في الصحراء، وقتل
    كثير من النصارى في هذا الصدام: منهم ابني أكبر زعماء النصارى العرب 'جابر
    بن بجير' و'عبد الأسود' .


    الحقد الصليبي :


    كانت
    الصدمة والصفعة الشديدة التي نالها النصارى من المسلمين في القتال السابق
    قاسية، لدرجة أن صوابهم قد طاش، من كثرة ما فقدوه من القتلى، من خيرة
    شبابهم، فاشتعلت قلوبهم حقداً وغلاً على المسلمين رغم رابطة العروبة
    والجوار، إلا أنهم فضلوا الانضواء تحت لواء 'الفرس' الذين كانوا يحتقرون
    العرب جداً، ورغم ذلك فضلوا الانضمام إليهم لا لشيء إلا لعداوتهم للإسلام،
    وقرر زعماء نصارى العراق التجمع بأعداد كبيرة واستغاثوا بكسرى، وطلبوا منه
    الإمدادات، فانتعشت آمال كسرى وفرح بكتاب نصارى 'أليس' له، وكتب لقائده
    'بهمن جاذوية'،[ وقد بقى بالمنطقة مرابطاً بجيشه بعد غلطته الفظيعة، والتي
    أتت على جيش 'الأندر زغر'] للانضمام إلى نصارى العراق في حربهم ضد
    المسلمين، ثم عاد كسرى وطلب من 'بهمن جاذوية' أن يعود سريعاً إلى
    'المدائن'، لوجود اضطرابات داخلية بها، وعين مكانه في قيادة الجيش القائد
    'جابان'، وكان رجلاً محنكاً، ولكنه ضعيف الشخصية .


    عاقبة الغرور :


    كانت
    الإمدادات الفارسية أقرب إلى منطقة تجمع الجيش الصليبي 'بأليس' من جيوش
    المسلمين، فوصلت قبلها، ورتب 'جابان' جيوشه ترتيباً جيداً، واستعد للقتال،
    وكان الجيش 'المجو صليبي' كبير العدد جداً، حيث بلغ عدد مقاتليه مائة
    وخمسين ألفاً، مما جعل الغرور يملأ القلوب والنفوس، وكذا جعل الثقة بحتمية
    النصر أكيدة، ووصل المسلمون بجيشهم الذي لا يتجاوز الثمانية عشر ألفاً،
    وصادف قدوم المسلمين وجود الجيوش 'المجوصليبية' على موائد الطعام في وقت
    الغداء، وفى الحال أمرهم القائد العام 'جابان' بترك الطعام والتهيؤ للقتال
    ضد المسلمين، ولكن الغرور والكبر منعهم من الاستماع لصوت العقل وظنوا أنهم
    لا يغلبون، فخالفوا أمر قائدهم العام، واستمروا في تناول الطعام، ثم عاد
    'جابان' وأمرهم بوضع السم في الطعام، فإن دارت الدائرة عليهم، وغنم
    المسلمون الطعام وأكلوه ماتوا من السم، وهو رأى لا يصدر إلا من رجل داهية
    حقاً، ولكنهم أيضاً خالفوه وتكبروا، وسول لهم الشيطان سوء أعمالهم، وبخلوا
    حتى بطعامهم !


    نهر الدم


    أدرك
    'خالد' وجنوده أن عدوهم مغرور متكبر، فأصدر 'خالد' أوامره المباشرة
    بالهجوم فوراً وبكل القوة والثقل على هؤلاء المغترين، وبالفعل هجم
    المسلمون عليهم، وهم مازالوا على موائدهم الأخيرة، وبدأ القتال الذي ينتقل
    من طور إلى آخر أشد منه، لقوة وشراسة الحقد الصليبي على المسلمين، وأيضاً
    صبر 'الفرس' في القتال، وعلى أمل أن يصل القائد 'بهمن جاذوية' بالإمدادات
    من المدائن، ولقي المسلمون مقاومة عنيفة جداً من التحالف 'المجوصليبي'
    وعندها دعا القائد 'خالد بن الوليد' ربه، ونذر فقال : 'اللهم إن لك على إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقى منهم أحداً قدرنا عليه، حتى أجرى نهرهم بدمائهم' .
    حمى المسلمون بعد ذلك النذر في القتال، وازدادت قوتهم – خاصة مسلمي قبيلة 'بكر بن وائل' – حيث كانوا أشد الناس على نصارى قبيلتهم .


    **[مما
    يبين حقيقة فهم المسلمين الأوائل لعقيدة الولاء والبراء، حيث تنقطع كل
    الروابط من رحم، وقرابة، ومصاهرة، وجوار أمام رابطة الإسلام وحبل العقيدة،
    كما قال الحق في محكم التنزيل:{ {لَا
    تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ
    مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ
    أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ
    فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ
    جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ
    اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ
    حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [22] سورة المجادلة


    لم
    يطل الأمر كثيراً حتى انتصر المسلمون انتصاراً باهراً، وأمر 'خالد' بإمساك
    الأسرى، وأخذهم جميعاً عند نهر 'أليس'، وسد عنه الماء، ومكث يوماً وليلة
    يضرب أعناقهم، حتى يجرى النهر بدمائهم وفاءً بنذره لله عز وجل، ومع ذلك لم
    يجر النهر بدمائهم، فقال له 'القعقاع بن عمرو': 'لو أنك قتلت أهل الأرض
    جميعاً لم تجر دماؤهم- ذلك لأن الدم سريع التجلط كما هو معروف طبياً-
    فأرسل الماء على الدماء، يجرى النهر بدمائهم' ففعل 'خالد' ذلك فسمى النهر
    من يومها 'نهر الدم' وقتل يومها أكثر من سبعين ألفاً من جنود التحالف
    'المجوصليبي' .


    **[وليس
    في ذلك قسوة ولا دموية كما قد يظن البعض، لأن هؤلاء كانوا من مجرمي الحرب،
    وليس لهم أن يدخلوا الحرب أصلاً ضد المسلمين، فهي ليست حربهم، ولا هم طرف
    فيها، وهم الذين بدأوا المسلمين بالعداوة، واتحدوا مع عباد النار من أجل
    إفناء المسلمين، ومن يقع من المسلمين بأيديهم كانوا يمثلون بجثته،
    ويقتلونه شر قتلة، فهؤلاء وأمثالهم ممن تمتلئ قلوبهم بكره وبغض المسلمين
    ينطبق عليهم قول الله عز وجل : {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [4] سورة محمد ، وقوله عز وجل : {يَا
    أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ
    الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ
    مَعَ الْمُتَّقِينَ} [123] سورة التوبة
    عندما وصلت الأخبار بالنصر للخليفة 'أبى بكر الصديق' قال كلمته الشهيرة :[يا معشر 'قريش' عدا أسدكم- يعنى 'خالداً'- على الأسد- يعنى كسرى- فغلبه على خراذيله- أى على فريسته- عجزت النساء أن ينشئن مثل 'خالد' ] .

    كلمات مفتاحية  :
    تاريخ صفحات منسية

    تعليقات الزوار ()