الحمد لله الذي هدانا لاتباع سيد المرسلين، وأيّدنا بالهداية إلى دعائم الدين، ويسّر لنا اقتفاء آثار السلف الصالحين، حتى امتلأت قلوبنا بأنوار علم الشرع وقواطع الحق المبين، وطهّر سرائرنا من حدث الحوادث والابتداع في الدين.
أحمده على ما منَّ به من أنوار اليقين، وأشكره على ما أسداه من التمسك بالحبل المتين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، صلاة دائمة إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد تكرر سؤال جماعة من المُباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول، ويسمونه "المولد": هل له أصل في الشرع؟ أو هو بدعة وحدث في الدين؟
وقصدوا الجواب عن ذلك مٌبيَّنًا، والإيضاح عنه معينًا.
فقلت وبالله التوفيق: لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدّمين، بل هو بِدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفسٍ اغتنى بها الأكالون، بدليل أنَّا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا:
إما أن يكون واجبًا، أو مندوبًا، أو مباحًا، أو مكروهًا، أو محرمًا.
وهو ليس بواجب إجماعًا، ولا بمندوب؛ لأن حقيقة المندوب: ما طلبه الشرع من غير ذمّ على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة، ولا التابعون ولا العلماء المتدينون -فيما علمت- وهذا جوابي عنه بين يدي الله إن عنه سئلت.
ولا جائز أن يكون مباحًا؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحًا بإجماع المسلمين.
فلم يبق إلا أن يكون مكروهًا، أو حرامًا، وحينئذٍ يكون الكلام فيه في فصلين، والتفرقة بين حالين:
أحدهما: أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله، لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئًا من الآثام: فهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة، إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة، الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام، سُرُجُ الأزمنة وزَيْن الأمكنة.
والثاني: أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية، حتى يُعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه، وقلبه يؤلمه ويوجعه؛ لما يجد من ألم الحيف، وقد قال العلماء رحمهم الله تعالى: آخذ المال بالحياء كآخذه بالسيف، لا سيّما إن انضاف إلى ذلك شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل، من الدفوف والشبابات واجتماع الرجال مع الشباب المرد، والنساء الفاتنات، إما مختلطات بهم أو مشرفات، والرقص بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف.
وكذا النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهنيك والتطريب في الإنشاد، والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع والأمر المعتاد، غافلات عن قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14].
وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان، وإنما يَحِلُّ ذلك بنفوس موتى القلوب، وغير المستقلّين من الآثام والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات، لا من الأمور المنكرات المحرمات، فإنّا لله وإنا إليه راجعون، «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ».
ولله در شيخنا القشيري حيث يقول فيما أجازَناه:
قد عرّف المنكر واستنكر
المعروف في أيامنا الصعبة
وصار أهل العلم في
وهدةٍ وصار أهل الجهل في رتبة
حادوا عن الحق فما للذي
سادوا به فيما مضى نسبة
فقلت للأبرار أهل التقى
والدين لما اشتدت الكربة
لا تنكروا أحوالكم قد أتت
نوبتكم في زمن الغربة
ولقد أحسن أبو عمرو بن العلاء حيث يقول: "لا يزال الناس بخير ما تُعُجِّبَ من العجب"، هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم -وهو ربيع الأول- هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح بأولى من الحزن فيه.
وهذا ما علينا أن نقول، ومن الله تعالى نرجو حسن القبول.
الشيخ الإمام أبي حفص تاج الدين الفاكهاني رحمه الله - 734 هـ.