الحمد لله الذي علّم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد.
فهذه كلمات تدور حول تقويم الطالب على ضوء ما يُلْقَى إليه في مدرسته من اختبارات وما يترتب عليها.
من حكمة الله تعالى أن جعل بين عباده تفاوتاً في الأفكار والعقول، كما جعل ذلك التفاوت أيضا في أرزاقهم وآجالهم إظهاراً للنعمة على من مَنّ الله بها عليه، ليشكره عند النظر إلى من حُرِمَها أو حُرمَ بعضها كما قال تعالى: ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ). وهذا معنى إجابة الله لأبي البشر آدم عليه السلام لما قال: ( يا رب؛ لم جعلت أحدهم ضعيفاً والآخر قوياً؟! وأحدهم مبتلى والآخر معافىً؟! ) قال: ( لأُشكر ).
وهذا التفاضل في العلم والتحصيل للحقائق العلمية لا يحصل إلا بإجراء ما يتوقف عليه الحكم بالعقل والسمع والرواية.
وذلك لا يتسنى إلا بواسطة الاختبارات المختلفة التي تقيس كافّة الجوانب التحصيلية والعقليّة والنفسية للطلاب حتى يُستطاع من خلالها التفريق بينهم في التحصيل العلمي والإدراك والفهم. وهذا هو الهدف الأساسي من تقويم الطالب لمعرفة المستوى الذي وصل إليه.
ولذلك فإن اختبار الذكاء الذي يصدُق في قياسه غير صادق في قياسه لقوة السمع واختباره، واختبار قوة السمع غير صادق لقياس الذكاء، بينما يصدق في قياسه على قوة السمع.
فالصدق الذي نعنيه هو قدرة الاختبار على القياس الفعليّ للقدرة التي وُضع أصلاً لقياسها. وهذا الصدق مع غيره من العوامل كالموضوعية والثبات وسهولة التطبيق والتمييز... إلخ، تعتبر عوامل أساسية في نجاح تلك الاختبارات النفسية.
يقول الصبّاغ: الامتحانات بأنواعها المختلفة من أهم وسائل القياس الذي نستطيع به معرفة خبرات التلاميذ ومعلوماتهم ومبلغ مهاراتهم أو تخلفهم في دروسهم اليومية أو الدورين المؤقتين أو النهائيين.
ومع أن القياس ليس صحيحاً من كل الوجوه لما يكتنف نفسيات التلاميذ من أمور بعضها شديد الغموض بعيد الغور لا يمكن الإحاطة به، إلا أن المعلم لم يتوصل إلى طريقة يمكن الحصول بها في دقّة وسلامة ضبط على المدى الذي بلغه التلميذ في حياته التعليمية، ولذا قد يمر التلميذ في السنة الواحدة بأطوار من الصعود والهبوط في مادة واحدة، وبين دورة وأخرى، وبين سنة إلى سنة، وقد لمستُ هذه الطريقة بين ثلاثة طلاب فوجدت الفروق بينهم تصير عكسيّة عندما يُنظر إليها وتقارن فيما بعد.
ويقول الأستاذ أديب يوسف في كتابه أصول التربية والتعليم ما نصه نقلا عن الصباغ: إنّ توفير الشروط في إصلاح الامتحان لمن أصعب الأمور، ولكن على المعلم أن يبذل ما في وسعه لتحقيق هذه الشروط لكي يحقق الامتحان الفائدة المرجوة فيه والإرشادات الآتية تفيد كثيراً:
1/ يجب على المعلم أن يَعيَ مقدماً: ماذا يريد أن يختبر؟ هل يريد اختبار معلومات التلميذ؟ أو يريد اختبار قدرته على التفكير؟ أو يريد اكتشاف نقاط الضعف فيه؟.
2/ هل تتلاءم أسئلة الاختبار مع الهدف من تدريس المادة؟.
3/ يجب على المعلم أن ينتبه إلى العوامل الداخلية كالصعوبات اللفظية والتعقيد في صياغة الأسئلة، وعليه أن يجعل أسئلته واضحة مفهومة غير مضللة.
4/ إذا لم تكن غايات الامتحان قياس سرعة الطالب في الإجابة، أو قياس المهارات التي تتدخل فيها السرعة فيجب ألا تدع عنصر الوقت يؤثر على نتائج الامتحان.
5/ أن يُعطى التلاميذ التوجيهات والإرشادات اللازمة عن الامتحان وعن الإجابة المعيّنة المنتظرة منهم، كأن يعلم التلميذ مقدماً إذا كان المعلم سيحاسبه على الترتيب والنظام وجودة الخط أو لا. وكأن يعلم أنّ المعلم يؤكد على صحة الطريقة المعينة أكثر من تأكيده على صحة النتائج كما هو الحال في الحساب مثلاً. علماً أن التمارين الدراسية اليومية تكون سبيلاً إلى تثبيت العلوم واكتساب المهارات في استخدام المعلومات، وتصريفها ثم تطبيقها. وذلك بمراعاة الشروط التالية:
1/ التدرج من السهل إلى الصعب.
2/ استعمال الطريقتين الشفهية والتحريرية.
3/ أن يكون خاصاً لواحد من المقررات، وعاماً يتناول جميع أجزاء ما سبق تعليمها من المواد.
4/ التيقّظ لنقاط الضعف الفردية والجماعيّة ومعاودة التكرار والتعقيب.
علماً أن الامتحان يتأثر تأثراً كثيراً بالحالة التي يعيشها الطالب. ولذلك يقول الدكتور فؤاد البهي السيّد: فالاختبار يتأثر تأثراً كثيراً بعدد الأسئلة، كما أنه قد يكون لحالة الفرد الصحية والنفسية أثرها المباشر على ثبات نتائج الاختبار، لأن المرض والتَّعب والتوتر الانفعاليّ تغيّر أداء الفرد. فيتغير بذلك ثبات نتائج اختباره.
فالاختبار لا يخضع في الحقيقة في الأغلب للضبط الدقيق، فهذه الاختبارات تنميّ عاطفة الذات وتميّز المستوى الذي يصل إليه كل واحد منهم.
كما أشار إلى ذلك مصطفى فهمي في كتابه الدوافع النفسية، فقال تحت عنوان: بعض العوامل التي تنمي عاطفة اعتبار الذات قال منها:
1/ تقدير مجهودات التلاميذ وتشجيعهم.
2/ أن يغرس في نفوسهم الالتزام بالواجبات والشعور بالمسئوليات. وذلك من شأنه أن ينمي فيهم انفصالاً إزائها.
ولكن هناك ما يفرض نفسه على محيط المدرسة وعلى المدرس والطالب بغية النجاح في الامتحان.
ولما كان جل همّ الطالب غير معتبر بما هو مطلوب منه صار بذلك يفكر في الحصول على طريقة تؤهله للنجاح.وعدم الاعتبار بالعلم والاهتمام بمادة العلم التي هي أساس في تقوية الطالب وإظهار الفروق بين الطلاب ولم تقتصر تلك الخصلة على الطلاب فقط، بل أنّ ذلك صار عند المدرس نفسه فصار في الغالب همه نجاح طلابه في الامتحان، فيبقى هو بعيداً عن الانتقاد أو محط أنظار الناس الآخرين. فهذا ما يصرف الأنظار عن التعمق في المادة. لذا نجد الطالب إذا أراد أن يدرس يفكر مرة وأخرى في ماذا يدرس؟ ليحاول حصر جهوده فيما يعد للامتحان فقط.
وإذا أراد المدرس أن يُطيل في الشرح للفائدة اعترضت عليه فكرة في نفسه تماثل فكرة الطالب وهي: مادام أنّ هذا لن يأتي في الامتحان فلا داعي إلى هذا التعب، فصار بسبب ذلك أضرار كثيرة منها:-
أ/ قل شأن العلم حتى صار ضئيلاً ضعيفاً.
ب/ أنّ التقويم لا يكون صحيحاً لما قد يعرض من الظروف كالتعب والمرض والتحمس عند بعض الطلبة في آخر الوقت.
ج/ قلة عناية المدرس والطالب بالدرس، حتى صار الذهن محدوداً لا يتعدى فكرة الامتحان.
د/ حصر المذاكرة والدراسة الصادقة في أيام الامتحان، وبذلك لا يحصل التقويم الصحيح.
هـ/ ينتج عن هذا التعبِ الضعفُ والعجزُ والمرضُ والقلقُ ونحو ذلك مما يكون سبباً لتقدم غير المجدّ على المجدّ، ويجعل الامتحان شبحاً مخيفاً وعملاً مرهقاً للمدرس، فتجد الطالب عند الامتحان تضيق به نفسه ويجهدها إلى حد الإرهاق غالباً.
والسبب المنتج لهذه الأخطار هو عندما صار العلم وسيلة للوظيفة لا غير، كما اتجهت الأنظار والأفكار إلى غير العلم الصحيح والتقدير الصحيح الذي يقوم على مدى الفكرة والفهم والتعمّق في العلوم.
وكذلك مما يماثل النجاح في الامتحان إنما هو القبول في مرحلة معينة. وذلك بأن يكون لكل مرحلة درجات وتقديرات محدودة يكون سببها مقبولاً في مرحلة وغير مقبول في أخرى. كان لذلك أثره السيئ على الطالب بل قد يتعداه إلى المدرس ولا سيما إذا كانت هذه الدرجات في مرحلة معينة، أو في بعض المواد دون البعض. من ذلك:
1/ عدم اهتمام الطالب بالمواد الأخرى التي لم تكن مطلوبة في تقديره للمطلوب.
2/ تشتّت ذهن الطالب وعدم استيعابه لجميع المواد بالفهم والتعمق، فيورث عند الطالب خوفاً وقلقاً عند التفكير في تلك المواد المتغافل عنها أو المطلوبة منه.
3/ ومما يسبب تعقيداً لبعض المدرسين عندما يرى أنّ الطلبة لا يهتمون لدرسه ولا يلقون له بالاً لأنه ليس كالدروس الأخرى في تلك النسبة، ومن تلك الأسباب أيضاً اهتمام الطالب بالحصول على وظيفة.
وعند الرجوع إلى تفهم أنّ الإنسان في هذه الحياة مأمور بطلب الرزق من أي طرقه كما قال تعالى: ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ ) الجمعة 10. وقال تعالى: ( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) المزمل20. وإلى الظروف التي يعيشها ومتطلبات الحياة الثقيلة التي تحكم كل فرد، سواء أكان طالباً أو غيره من ذوي الدخل الكافي التماس الرزق بواسطة وظيفة خاصة أو عامة ليغني بها نفسه ومن تحت رعايته. وهو مأجور لما رُوِىَ من قوله صلى الله عليه وسلم: " من أمسى تاعباً في رزقه من طلب الحلال أمسى مغفوراً له "أين التخريج؟.
ولكن إذا كان همُّ الطالب هو الحصول على وظيفة بواسطة وثيقة يتحصل عليها من مؤسسة علمية كان ذلك أثره على العلم والمتعلّم.
ونحن لا نقول أنه لا يطلب الرزق وإنما نقول: لا يكون هدفه الأساسي من التعلّم طلب الوظيفة لا غير.
وحتى لو صارت نيّته فعليه أن يحاول توجيهها إلى معرفة دينه الصحيح فإنه بذلك يحصل على الأمرين: الدين والدنيا، بعمله وصدق نيته، كما أُثر ذلك عن الغزالي قوله: تعلمنا العلم للدنيا وأبى العلم إلا أن يكون لله. وكما أُثر مثل ذلك عن عمر وعن الشافعي.
وإذا كانت المهمة الأساسية إنما هي الدنيا نتج عن ذلك أضرار الله بها أعلم. منها:-
1/ انعكاس مفهوم التعليم في الحقيقة والمعنى معاً.
2/ انصراف الأنظار والأفكار عن المواد التي لا تعود بفائدة على الفرد والمجتمع ولم تك ذات أهمية عند الطالب.
3/ كانت همّة الطالب الحصول على تلك الدرجات ولو لم يكن عنده رصيد علم.
4/ التفاخر بتلك الوثائق العلمية مما حطّم مفهوم العلم الصحيح.
إنّ الواقع يتطلب منا التفكير الصحيح في الأسباب الكفيلة بتصحيح الهدف من التعليم.
بل نقول: عدم الوقوف بالتوظيف على التقويم المحصور في وثيقة الامتحان، ويحسن أن يقف التوظيف على مدى الثقافة المتمكنة، وعلى الإخلاص المكتسب من تعاليم الدين، والأمانة المستقرة في نفس مريد التوظف. وهذا قد يحصل بطرق أو وسائل أخرى سيُفكر في إيجادها.
أما أن تكون في صورتها تخالف الامتحان لفظاً ومعنى. وأما أن تكون فيها صورة الامتحان لكن لا تكون كالامتحان في حقيقته حتى لا يحصل ما قررناه منه، والاقتصار فيها على المستوى الذي يصل إليه الطالب حتى لا تتطلع نفسه إلى غير ذلك. وأن يستعان بها على تطوير التربية والتعليم، لا وسيلة إلى وظيفة، وإنما الغاية فيها هو إيجاد شباب متعلم عنده خبرة ثابتة، وثقافة واسعة في شتى المجالات ليخدم دينه ومجتمعه، ولا يكون هدفه الأساسي تحصيل لقمة العيش التي تدركها البهائم لا فرق بينهم.
وهنا يتضح أنّ عملية التقويم المعمول بها الآن وإن كانت تعتمد في وسائلها على النوع الذي يقيس مستوى التحصيل، فينبغي أن نعي أن هناك وسائل أخرى تساعدنا في عملية قياس الاستعدادات المهنية والخاصة بالتوجيه المهني للطلاب. وفيها يتم الكشف على قدراتهم واستعداداتهم وميولهم الحقيقية ومناسبتهم لأي نوع من الوظائف والمهن، فضلاً عن أنّ مثل هذه الاختبارات تساعد أيضاً على تحديد نوع الدراسة الذي يتلاءمُ وميولهِم واستعداداتِهم تهيئةً لقبولهم في مرحلة معينة.
فينبغي أن توضح اختبارات القبول لكل مرحلة فيما يتلاءم مع الخبرة التعليمية لتلك المرحلة لتكون وسيلة إلى تمركز ذهن الطالب وعدم تشتته، وإلى تعمقه في الإجابة حتى يكون التقويم صحيحاً مبنيا على الفكر الصحيح والعلم الصحيح، فإنّ الطالب إذا علم أنه مسئول في غير تخصّص هذه المرحلة ربما يقع في شيء من القلق والخوف يورثه ارتباكاً في الإجابة، ويكون بسببه ضعيفاً في تقويمه، وإن كان هذا الطالب عكس هذا التقويم. وربما يكون هذا الاختبار وقع فيما يحيط به هذا الطالب ولا يحيط به الآخرون ولا تحصل به النتيجة المطلوبة.
ومما تجدر الإشارة إليه أنّ المرحلة الابتدائية هي حجر الأساس لما سيُبنى عليها فيما بعد في المراحل الأخرى، فينبغي الاعتناء بها جيداً باختيار معلميها ممن تتوفر فيهم قوة العقيدة، وسعة الإطلاع، والقدرة على التوجيه، بما يتناسب وعقلية النشء الجديد وغرس العقيدة الصحيحة السليمة في نفوسهم، لأن الطالب كما قيل صورة معلمه، فالحسن عنده ما حَسُنَ عند معلمه، والقبيح عنده ما قَبُحَ عند معلمه، والمهم عنده ما كان مهماً عند معلمه، لأنه بمنزلة الأرض الحرة الطيبة التي تحتفظ بما يلقى فيها من بذور.
والله المسئول أن يوفق أئمة المسلمين ومعلميهم وقادتهم لما فيه صلاح دينهم ودنياهم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم.
الموجه التربوي للمواد الدينية
عبد العزيز عبد المحسن الدهيشي.
(عليه رحمة الله)