عرف شيخ الإسلام الحرية بأنها: العبودية الخالصة لله تعالى ، تجمع بين كمال الحب مع كمال الذل له سبحانه . وعلى ذلك فالحرية في الإسلام قرينة التوحيد ، وبالتوحيد يعترف المسلم بأن الله وحده هو المعبود ، والكل من دونه عبد طائع له ، فلا يكون عبداً لسواه ، ويظل حراً أمام ما عداه ، ومن ثم تزول الوسائط بين الله والناس .
ومن ثمرة إسقاط كل عبودية لغير الله أن يصبح عقل المسلم وفكره وسعيه وعمله وغير ذلك من قول أو عمل في حال تحرر لا يحكمه إلا شرع الله بما بين له وأوضح ، وبذلك يتضح أن الحرية في الإسلام ضاربة في أعماق العقيدة ، فهي من توابعها، ومن ثم لم تكن مهمة الإسلام نحو إسقاط الأرباب والطواغيت إلا تعبيراً عن ميلاد الحرية في الإسلام.
الحرية المطلقة خرافة لا وجود لها في الحياة حتى في حال غياب النظم والقوانين نجد أن الإنسان مقيد بالظروف البيئية والاجتماعية والحياة المحيطة به ، والتي تحدد عليه مساراً معيناً وتحد من حركته بقيود غير مرئية من تأثير الأفكار والموروثات وغيرها، لذا فقد كان السعي إلى تحقيق مثل هذا النوع من الحرية وهماً لا يقوى على مواجهة الواقع، ذلك أنه لو ترك لكل إنسان حريته المطلقة ليفعل ما يشاء، فسيجد نفسه في صدام مع الآخرين وصراع مع من حوله فتقع الفوضى التي تسلم إلى دمار الإنسان نفسه ودمار مجتمعه .
وإلى هذا انتهى أحد المذاهب الفلسفية المعاصرة "الوجودية" الذي يقوم في أساسه على أن الحرية لازمة من لوازم الوجود ، بل هي جوهر الوجود الذاتي للإنسان ، لكن الإنسان الوجودي ما لبث أن اصطدم بالواقع الذي تجاهله ، وهو أن الإنسان ليس وحده في هذا الكون ، بل حوله آخرون يحد وجود كل واحد منهم حرية الآخر ، ومن ثم فقد عجزوا عن تحديد الحرية أو ضبطها أو تحقيقها بالصورة التي تكفل للإنسان وجوده الحقيقي المتميز فقالوا "بالحرية النفسية" .
المرأة والحرية
كانت المرأة ولا تزال عامل جذب وإثارة لوسائل الإعلام وبخاصة في المجتمعات الغربية منذ القرن التاسع عشر إلى وقتنا الحاضر، وتعود جذور القضية في الأصل إلى الدعوة إلى الحرية والمساواة التي راجت في أمريكا وأوروبا في القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر على يد (جون ستيورات ميل) و(جون ميلتون).
ومن أهم الحركات النسائية التي دعت إلى مساواة المرأة بالرجل في المجتمع الأمريكي مثلاً هي التي ظهرت في عقد التسعينات من هذا القرن، وأولتها وسائل الإعلام الأمريكية اهتماماً كبيراً حتى نجحت في ذلك، وأصبح المجتمع الأمريكي في كثير من مظاهره يدار بعقول وطاقات نسائية حتى أصبح بالإمكان أن نطلق عليه "مجتمع المرأة" !!
وينطبق على المجتمع الأوروبي ما ينطبق على الولايات المتحدة ، بل إن دولاً أوروبية كبريطانيا وفرنسا قد تقدمت الولايات المتحدة في الدعوة إلى حرية المرأة ومساواتها بالرجل، والنتيجة هي ما نراه الآن في تلك المجتمعات حيث المرأة الغربية باتت جسداً بلا روح ، وكيانا متحررا من مشاعره الفطرية ، وانطلقت بلا تعقل ولا تفكر إلى مسالك أوردتها المهالك ، وحادت بها عن طريق الفطرة ، وفي وسائل الإعلام الغربية أصبحت هذه المرأة سلعة تباع وتشترى وورقة رابحة لعبدة الدولار والدينار .
وانتقلت هذه المزاعم - "حرية المرأة" - إلى البلاد الإسلامية لا سيما العربية على أيدي المستشرقين العرب الذين تأثروا بالغرب وعاشوا فيه، ورجع أدعياء الحرية من أبواب جهنم إلى مجتمعاتهم بلسان عربي ينطق فكراً غربياً ينادي بخروج المرأة وتبرجها في كل صعيد ، وأن تغير من نمط الحياة السائد في "المجتمع الذكوري" مجتمع الإسلام ، وأن تخرج حين تريد ، وتعود كيفما تريد ، وتخالط الرجال على كل صعيد !!
وجاءت دعوة "الحرية" مغلقة مضببة من ورائها دوافع خطيرة من أهمها الدعوة إلى الإباحية ، وتدمير الأخلاق والقيم الإنسانية ، في محاولة من أتباعها للقضاء على الإسلام ، وهؤلاء الأدعياء يعانون من مشكلة في التركيبة الفكرية وغبش في الرؤية الثقافية في أقل الحالات .
ومشكلة هذه الثقافة "العلمانية" أنها بحكم الشدّ الذي يتنازعها بين الأصالة والمعاصرة أصاب فكر أصحابها شرخ حاد ، وشاء الله أن يمتحن قلوب أهل الجزيرة العربية بخاصة ، والأمة الإسلامية عامة بمثل أولئك الذين ثاروا على التراث – كما زعموا – وإنما هو الإسلام وتعاليمه باسم التقدمية أعني بها الغربية والانحلال من الدين ، ووجهوا خطابهم إلى المرأة للتحرر من الرجعية ونادوا بالسفور والتبرج بوسائل غاية في الدقة والتنظيم .
ومما لا بد أن يعلم أن حكمة الله اقتضت أن تكون علاقة الرجل بالمرأة علاقة رحمة ومودة ، تكامل وتعاون ،سكن وأنس ، لا علاقة تضارب وتصادم وضرب وتدافع كما صور ذلك أعداء الأمة وأذنابهم ، قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) .
ومارست المرأة المسلمة دورها المناط وفاقت قريناتها من سائر الأمم ، ومسألة الحرية بالنسبة للرجل والمرأة لم تُرَ في صدر الإسلام ولا في عصوره المزدهرة يوم أن كان الإسلام تعاليماً معمولاً بها مدعواً إليها، ولذا فإن المطلع والمراجع لا يقف على بحوث حول مسألة الحرية في تراث فقهاء وعلماء السلف، وحينما ضعفت الصلة بين المسلمين وأصول دينهم بدأت المؤثرات البيئية والتقاليد الاجتماعية والأعراف الجاهلية تزاحم الأصول الشرعية ، تشوه معالم الدين ، وصورت كثير من الحريات باسم الهوى ، ونالت المرأة النصيب الأوفر من هذه المصادرة، وضيق عليها الخناق حتى سلبت حقوقاً أعطاها الشرع !!
وبدأت صيحات الظلم تعلو هناك وهناك، صيحات تطالب بضرورة تحرير المرأة وإعطائها حقوقها المسلوبة، فصار الدعاة بين موقفي الإفراط والتفريط والغلو والتقصير، واقتنص الفرصة دعاة الغرب فتصدروا لحل القضية ، وهم والله سبب أزمتها، فأسموا هدم الأخلاق، والزج بحواء في مهاوي الردى "تحرير" – يسمونها بغير اسمها – حتى تلاقي في النفوس قبولا، ونادوا بالمساواة !!
وسؤال يطرح نفسه : تريدون مساواة المرأة بالرجل في أي شيء في الخلق والتكوين أم الحقوق والواجبات ؟
والعاقل يدرك التناقض ، لأن خصائص الخلق والتكوين أساس الحقوق والواجبات فهذه مشتقة من تلك مبنية عليها، فأي مساواة لا تراعي التمايز والفروق في الخلق وما يتبعه من قدرات واحتياجات تخرج من العدل الذي يقوم عليه الإسلام إلى الظلم الذي يرفضه الإسلام بجميع صوره وأشكاله !! والمساواة التي تنادي بإلغاء كل الفوارق بين الرجل والمرأة غير مقبولة علمياً وعملياً ، فقد أثبت العلم الحديث وواقع الحال أن المرأة تختلف عن الرجل في كل شيء من الصورة والسمة والأعضاء الخارجية إلى خلايا الجسم المختلفة !!