قديما كانت عملية غسيل الأموال تتطلب جهدا ماديا في الأساس، فقد كانت عملية إخفاء المصدر غير القانوني للأموال وجعل النقود تبدو وكأنها ذات اصل قانوني تقتضي النقل المادي للنقود السائلة فقط، ويتمثل المهمة الأساسية في هذه الحالة في كيفية تجنب لفت انتباه السلطات لتلك النقود، وفي ظل تخلف تكنولوجيا الأعمال المالية فان عملية غسيل النقود القذرة تصبح محدودة بالقدرة الإبداعية على التعامل مع النقود السائلة من الناحية المادية، على سبيل المثال من خلال نقل النقود خارج الدول وإيداعها في بنك أجنبي يعمل لي ظل قانون أسهل، أو من خلال تقديم رشوة إلى موظف مصرفي، أو شراء أصول حقيقية أو ممتلكات شخصية بصورة متفرقة، وتمر الأموال القذرة بعدة مراحل قبل أن تصبح جاهزة للظهور على السطح كأموال نظيفة مثلها مثل أي أموال أخرى تم الحصول عليها من مصادر قانونية، وبحيث لا تصبح عرضة للمسائلة حول طبيعة ومصادر تلك الأموال، أول هذه المراحل هو التوظيف Placement.
تعد عمليات التوظيف الحلقة الأولى في سلسلة عمليات غسيل الأموال، ويتمثل جوهر عملية التوظيف في اختيار المكان الذي ستتم فيه عملية الغسل، إما من خلال إدخال النقود في نظام مصرفي أو في تجارة قانونية أو غير ذلك من الأساليب. وتعد هذه المرحلة من أصعب مراحل عمليات الغسيل وأكثرها أهمية، إذ غالبا ما تكون إيرادات الأموال القذرة في صورة نقدية، ومن ثم فان هناك حاجة إلى توظيف كمية هائلة من الأوراق النقدية وذات وزن ضخم أيضا، على سبيل المثال فان الأموال الناتجة عن بيع المخدرات تأتي أساسا من موزعي المخدرات في الشارع، والذي يبيعون المخدرات نقدا وذلك بهدف تمويه طبيعة المتعاملين؛ البائع والمشتري، وغالبا ما تتم عمليات البيع بفئات نقدية صغيرة، 10 دولارات مثلا، وهو ما يمثل المشكلة الأساسية، على سبيل المثال إذا فرضنا أن أحد الموزعين يوزع حوالي مليون دولار أسبوعيا، فإن مليون دولار من فئات الـ 10 دولار تزن حوالي 200 رطلا، ويمثل مثل هذا الحجم من النقود مشكلة لسببين على الأقل :
الأول - تعرض هذه الأموال لمخاطر السرقة أو الاكتشاف بسهولة، إذ لا يمكن أن يقوم تاجر المخدرات ببساطة بإيداع هذه الحجم الضخم من الأموال في البنك بصورة أسبوعية دون أن يسترعي ذلك الانتباه أو الشك، خصوصا وأن النظام المصرفي في بعض الدول يقضي بضرورة تعبئة استمارة معاملة نقدية لكل عملية إيداع تزيد عن حد معين، على سبيل المثال لكل عملية إيداع تصل إلى 10000 دولار في الولايات المتحدة، وعلى ذلك بالرغم من أن بائع المخدرات سوف يتعامل نقدا فقط مع عملاءه عند بيع المخدرات فانه لابد وان يتخلص من هذه النقود السائلة بأسرع ما يمكن، وبالشكل الذي لا يثير أدني شكوك لدى الغير، وتمثل البنوك في مركز الاهتمام الأساسي لغاسلي الأموال في هذه الحلقة.
الثاني - أن محاولة إنفاق كميات كبيرة من هذه النقود في أي وقت من أوقات السنة قد تثير انتباه السلطات الأمنية، وللتغلب على هذه المشكلة فان الغاسل لابد وان يقوم بتدبير عملية إيداع تلك الأموال بحيث يتجنب المشاكل المرتبطة بالتصرف في مثل هذا الحجم النقدي الكبير، وقد تتم عملية الإيداع من خلال البحث عن شريك في البنك أو سمسار أوراق مالية أو وسيط لمساعدته في التخلص من هذه النقود السائلة، كذلك من الممكن أن تتم عملية التوظيف من خلال مشروع قانوني يبخس فواتير الشراء ويغالي في فواتير البيع، ويقدر أن حوالي 80-85% من إيرادات تجارة المخدرات تدخل إلى الاقتصاد القانوني بهذه الطرق. أما الباقي فعادة ما يتم تهريبها إلى الخارج للإيداع في البنوك الأجنبية الأوفشور، خصوصا في الدول التي تحيط أعمال بنوكها بالسرية، وبمعنى آخر فان الإفصاح عن موقف عميل في البنك يعد عملا غير قانوني، كما هو الحال في سويسرا.
ويتم تدوير أرباح تجارة المخدرات من خلال استثمارات بأموال مغسولة والتي تتم عبر الكثير من الدول، وغالبا ما تضم عدة مؤسسات مالية دولية وبنوك ودور صرف العملات. ومع تعقد الأساليب المصرفية بما في ذلك عمليات التحويل الإلكتروني للأموال فانه ما إن يتم إيداع أموال في نظام مصرفي يمكن نقلها عبر عشرات البنوك في خلال 24 ساعة، مما يجعل عمليات تقفي أثر هذه النقود مسألة مستحيلة أو مستهلكة للوقت.
وعادة ما يختلف أسلوب التوظيف بحسب اختلاف الجريمة. على سبيل المثال فان إيرادات جرائم أصحاب الياقات البيضاء (الاختلاس أو التهرب الضريبي أو التزوير)، غالبا ما لا يتم توظيفها، حيث تتم عملية التجميع في حساب مصرفي ثم تحويلها لا سلكيا إلى بنك يتمتع بقانون يحمي سرية الحسابات. وبالنسبة لجرائم التزوير العقاري يقوم المجرمون بالحصول على قروض ضخمة، وتحويلها إلى الخارج سلكيا ثم إعلان إفلاسهم، وبالنسبة للإرهابيين وتجار السلاح، فان الهدف من العملية يكون إخفاء الوجهة الحقيقية للأموال وكذلك استخدامات تلك الأموال ومصادرها، وهكذا نجد بعض الفروق الاختلافية بين عمليات الغسيل باختلاف الجريمة، وهو ما يعقد عملية تحديد نمط محدد للتوظيف والذي يمكن من خلاله تحديد غاسلي الأموال، ويعتقد بشكل عام أن القائمين على عملية الغسيل على قدر عال من المرونة لأي تغيرات في أنماط عمليات الغسيل، بحيث يستجيبون لأي تغيرات في القوانين، وهو من العناصر التي تعقد عمليات المكافحة.