كتب - ماجد صقر
بعد قرون من الحروب والدمار خلال العصور المظلمة التي عاشتها أوروبا، استقر لدى الغرب اليقين بأهمية توحد الأمة الأوروبية، ونقل مركز الصراع إلى خارج القارة عن طريق الاستعمار بأشكاله المختلفة.
وبعد أن غلب الشكل العسكري على هذا التدخل الاستعماري الأوروبي، تغير هذا الدور ليسند إلى التدخل الاقتصادي بمفهومه الجديد بعد انتشار العولمة الاقتصادية، عن طريق الشركات متعددة الجنسيات التي أصبحت قوة اقتصادية كبيرة في العالم، بل وتتعدى ميزانيتها بعض الدول النامية.
مخاطر وتداعيات
وتحتل الشركات العملاقة مكانة أقوى في البلدان النامية، وعلى الرغم من مزاعمها بتحفيز مجريات التنمية في تلك الدول، غير أن تلك المساهمة لا ترتبط بتنمية فعلية في الاقتصاد، حيث إنها لا تطور النشاط الصناعي وتعرض الصناعات الوطنية الوليدة في الدول النامية للخطر.
وفي الوقت الذي تتسابق فيه الدول النامية في تقديم التسهيلات لتلك الشركات، تشتمل تلك التسهيلات على شروط مجحفة تهدد الاستقلال الاقتصادي لها واستنزاف مواردها وتزيد من قوة ونمو الدول الأم صاحبة رأس المال.
كما تعمل الشركات متعددة الجنسيات على الإضرار بالحياة السياسية في الدول النامية وتعصف بمبدأ السيادة فيها بعد التدخل في شئونها الداخلية بغية الحفاظ على مصالحها وأهدافها، بل ومن الممكن أن تكون أداة للتدخل الأجنبي للدول الكبرى التي غالباً ما تكون مرتبطة بتلك الشركات التي تسعى إلى تحقيق المنافع والمصالح الخاصة.
أما على مستوى الآثار الاجتماعية لتلك الشركات، بات يقيناً أنها تكرس من توسيع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية مما يفتح الباب أمام عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي وخلق أزمات داخلية في الدول النامية، فضلاً عن تدعيم الإنفاق ببذخ عند الطبقات الغنية.
ضوء أحمر
وبعد الوقوف على الآثار السلبية لتوغل تلك الشركات خاصة في الدول النامية، لابد من التنبيه على أنها أحد الأشكال الرئيسة التي يتخذها الاستثمار الأجنبي المباشر للانطلاق نحو أسواق جديدة، وأنها تسهم في تطوير وانتشار العولمة الاقتصادية، وتسعى لتحقيق الحرية المطلقة لحركة انتقال رؤوس الأموال وٕإغراق الأسواق في الدول النامية بالسلع الاستهلاكية التي تشجع على البذخ الاستهلاكي من جانب الطبقات الغنية في هذه الدول مما يهدر مواردها الاقتصادية، وأصبحت تلك الشركات تشكّل قوة وسلطة مالية في الاقتصاد العالمي، تمكّنها من الحدّ من نفوذ ودور الدولة، وتسمح لها بالتدخل في شؤون الدول النامية.
إنّ هذه الشركات تتحكم في الاقتصاد العالمي وأسعار المواد الخام وجلب فائض رأس المال إلى الدول المتقدمة على حساب الدول النامية، خصوصاً أنّ اقتصاد الشركات المتعددة الجنسيات كان ينمو طيلة تسعينيات القرن الماضي بمعدل 10 % سنوياً، بينما ينمو اقتصاد الدول الصناعية بمعدل %4.
ومن ناحية أخرى، لم يعد دور الشركات العالمية الكبرى حكراً على الغرب فقط، فمنذ مطلع القرن الحادي والعشرين والشركات متعددة الجنسيات التابعة للدول الناشئة اقتصادياً (وفي مقدمتها الشركات الصينية) تكسب مزيداً من القوة والنفوذ على الخريطة الدولية، بل باتت تهدد نظيراتها الغربية وتتجه لإزاحتها في حالات كثيرة واحتلال مكانتها الدولية المرموقة التي طالما اشتهرت بها لعقود.
تغير الخريطة
وفي ظل تغير الخريطة العالمية التي احتوت على مجموعة من المتغيرات الجديدة على الساحة الدولية من أزمات اقتصادية مزمنة وتوترات سياسية طاحنة، بدأت التساؤلات الكثيرة تُطرح حول مصير السيادة الوطنية للدول النامية، والمستجدات الاقتصادية العالمية التي يمكن أن تؤثر على سيادة الدول وقدراتها الاقتصادية في مسار التقدم العالمي.
فرغم تغير خريطة الاقتصاد العالمي بظهور الاقتصاديات الناشئة في ظل تراجع السيطرة الغربية على مقدرات الاقتصاد العالمي، وإعلان الجديدة عن أملها في دعم التنمية الحقيقية للدول النامية، يبقى الخطر قائماً في حال قيام هذه الدول النامية بجهود ذاتية تدفعها في طريق محركات التنمية الذاتية المبنية على الخطط الوطنية.