و أنا اقرأ في قصة معركة اليرموك (1) ، هَالَنِي ما قرأت من وصفٍ لِجَماعَة الرُّوم و حزبهم ، و سَرْدٍ لِعَدَدِهم و عُدَّتِهِم ، فَلَمَّا قرأت رِسَالَةَ أبي عُبيدَة - رضي الله عنه - ، ارْتَجَفَ قَلْبِي و ذُهِل عَقْلي لما كَان مِنْ لِين عِبَارتِه , و ظُهُور شَفقته على المُسلمين و مَخَافَتهِ مِن أن يُستأصلوا عن بَكْرَةِ أبِيهم فِي الشام و غَيْرها .
و كان المُسْلِمون قد اجْتَمعوا على الإنسحاب مِن أطراف قِنسرين و من حِمْصَ و دِمَشق إلى الجَابِيَة و مِن بعدها أذْرَعات (2) ، رادِّينَ الجِزيَةَ لأهل القُرى مَخافَةَ أن لا يَقدِروا على الدَّفْعِ عَنْهم كما شُرِط في الصلح ، كل هَذا و الرُّوم على الطَّريق الدَّاخلي يَتَعَقَّبون المُسْلِمِينَ و يَسعون لِتَطْوِيقهم .
فَلَمَّا سَمِع أهل إيلياء و الأردن خَبَرَ جَحافِل الرومِ و جُيُوشِهم في البرِّ و البَحر ، فشى فِيْهم الإرجاف و نَقَض أباطِرَتُهم العهود و خُوِّفَتْ جَماعَةُ المُسْلِمِينَ فِي فلسطين و الأردن.
كانت الأَجْواءُ و كأنَّما سَيُتَخَطَّفُ المُسلِمون من حولهم ، فَطُرُقُ الإمداد بَعيْدَةٌ أو مُقَطَّعة ، و ذِمَّة اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بَرئَتْ مِن عُهُودِ أهْلِ الكِتَابِ و مَواثِيقِهِم غَدْراً و خِيَانَةً .
فكان مِن رِسالَةِ أبِي عُبيدَةَ - رضي الله عنه - : " أخبر أمير المؤمنين - أكرمه الله - أن الروم نفرت إلى المسلمين براً و بحراً ، و لم يخلفوا وراءهم رجلاً يطيق حمل السلاح إلا جاشوا به علينا ، و خرجوا معهم بالقسيسين و الأساقفة و نزلت إليهم الرهبان من الصوامع ، و استجاشوا بأهل أرمينية و أهل الجزيرة ، و جاءونا و هم نحو من أربعمائة ألف رجل ... " .
ثم قال بعد أن سَرد استراتيجيتهم في مواجَهَة هذا الخطر : " ... فالعجل العجل يا أمير المؤمنين بالرجال بعد الرجال ، و إلا فاحتسب أنفس المؤمنين إن هم أقاموا ، و دينهم منهم إن هم تفرقوا ، فقد جاءهم ما لا قبل لهم به إلا أن يُمدهم الله بملائكته أو يأتيهم بغياث من قبله ، و السلام عليكم "
فاحترت في المسألة و قُلت : و ما عسى أميرَ المؤمنينَ – رضي الله عنه – يُرسل ، و والله لَوْ وُجِدَ عَدَدٌ وَ عَدِيدٌ لَمَا أمَرَ خَالِداً باللَّحَاقِ بِجَيْشِ الشَّام أصلاً .
فَلَمَّا تَتَبَّعْتُ مَا رَواه المُؤرِّخُون مَا وَجَدْتُ كَثْرَتَ جُنْدٍ في المدد ، و إنَّما أمَدَّهم أَمِيْرُ المُؤمِنين بما هو أعظم مِن العدد .
أرسل أمير المُؤمِنين – رضي الله عنه – إلى أبِي عُبَيْدةَ – رضي الله عنه – بَرْقِيَّةً عَسْكَرِيَّةً حُقَّ أَنْ تُكْتَبَ بِمَاءِ الذَّهب ، أرى أن أنقُلها كَما هي ، فلا خَطَّ أَخُطُّه – و إن بلغت كَلِمَاتُه عدد ما طَلَعَت عليه الشمس من الحصى – يُوزَنُ بِحَرْفٍ مِنْ فيك يا أمير المؤمنين – رضي الله عنك و عن جيلك الطاهر - ، نَصُّها : " أما بعد ، فقد قدم علينا أخو ثمالة بكتابك تخبر فيه بنفير الروم إلى المسلمين برا وبحرا ، وبما جاشوا به عليكم من أساقفتهم و قسسهم و رهبانهم وإن ربنا المحمود عندنا و الصانع لنا و العظيم ذو المن و النعمة الدائمة علينا قد رأى مكان هؤلاء الأساقفة والرهبان حين بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالحق و أعزه بالنصرة و نصره بالرعب على عدوه وقال وهو لا يخلف الميعاد (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (3) فلا تهولنك كثرة ما جاء منهم فإن الله منهم بَرِيءٌ ، و من بَرِئَ الله منه كان قَمِنَاً (4) ألا تنفعه كثرةٌ ، و أن يكله الله إلى نفسه ويخذله ، ولا توحشنك قلة المسلمين فإن الله معك وليس قليلا من كان الله معه ، فأقم بمكانك الذي أنت به حتى تلقى عدوك وتناجزهم تستظهر بالله عليهم وكفى بالله ظهيراً و ولياً و ناصراً .
وقد فهمت مقالتك ، احتسب أنفس المسلمين إن أقاموا و دينهم إن هم تفرقوا (5) ، فقد جاءهم ما لا قبل لهم به إلا أن يمدهم الله بملائكته أو يأتيهم بغياث من قبله ، وأيم الله لولا استثناؤك هذا لكنتَ أسأتَ ، و لعمري إن أقام لهم المسلمون وصبروا فأصيبوا لما عند الله خيرٌ للأبرار ولقد قال الله – عز وجل – ( فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا )(6) فطوبى للشهداء ولمن عقل عن الله ممن معك من المسلمين لأسوة بالمصرعين حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواطنه ، فما عجز الذين قاتلوا في سبيل الله ولا هابوا الموت (7) ، في جنب الله ولا وهن الذين بقوا من بعدهم ولا استكانوا لمصيبتهم ، ولكن تأسَّوْا بهم وجاهدوا في الله من خالفهم منهم وفارق دينهم .
ولقد أثنى الله على قوم بصبرهم فقال : ( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (8) فأما ثواب الدنيا فالغنيمة و الفتح ، وأما ثواب الآخرة فالمغفرة والجنة .
واقرأ كتابي هذا على الناس ومرهم فليقاتلوا في سبيل الله وليصبروا كيما يؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ، فأما قولك إنه قد جاءهم ما لا قبل لهم به فإن لا يكن لهم به قبل فإن لله بهم قبلا ، ولم يزل ربنا عليهم مقتدرا . ولو كنا و الله إنما نقاتل الناس بحولنا وكثرتنا لهيهات ما قد أبادونا وأهلكونا ولكن نتوكل على الله ربنا ونبرأ إليه من الحول والقوة ونسأله النصر والرحمة ، و أنَّكُم منصورون - إن شاء الله - على كل حال ، فأخلصوا لله نياتكم وارفعوا إليه رغبتكم واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " (9)
فأيُّ مَدَدٍ أعْظَمُ مِن ذا يا أمير المُؤمِنين ، و أيُّ ثِقَةِ بالله عِنْدَ هَذا الحَيِّ مِنَ المُسْلِمِين ، كَلِمَاتٌ جِسَامٌ و مَعَانٍ عظام ، تُخْبِرُ عَنْ نُفُوسٍ كِبار ، اي أخيَّ لا تَسْمَعْ لِلْمُرْجِفِيْنَ و تَوَكَّل على العَليِّ العَظِيمِ ، فإنّما هِيَ دَعْوَةٌ – إن أخلِصَت النِّيَّة – على عَيْن اللهِ تُصطَنَعُ و تَسِيْر ..
و هُنا لا يَفُوتُنِي أن أذْكُر كَلِمَةً للصَحابيِّ الجَلِيلِ أبِي سَفْيانَ بِن حرب – رضي الله عنه - ، صَدَعَ بِهَا لِتُلَامِسَ قُلُوبَ المؤمِنين في المعَركَة و مَيمَنَةُ جَيْشِ المُسلِمِينَ تُطْحَنُ طَحنَاًَ ، و قَدْ فَرَّ مَنْ فَرَّ و ثَبُتَ مَنْ ثبتْ ، و تَسَرَّبَت جُمُوع المُشرِكِينَ إلى مُعَسكَرِ المُسْلِميِنَ حَيْث تَصَدَّتْ لَهُمُ النِّساء .
فلمّا اشتد الوطيس و ارتجفت قُلوب مَنْ عَظُمتْ جُموعُ المشْركِينَ في عينيه و باتَ جُنود درنجار النَّاسِكُ الكَافِرُ عَلى مرمى حَجَرٍ مِنَ النَّصر ، قُلبت المَوازِين و ردَّ المُسْلِمُون بهَجْمَةٍ خاطفَةٍ على عشَرات الآلاف المُتَهافِته في تَكْتِكٍ عَسْكَريٍّ أشبه بالحُلم ، و عندها سُمِعَ ذلك الصَّوْتُ ، و نَتْرُك الكَلام للرَاوي و هو سعيد بن المسيب – رحمه الله - عن أبيه رضي الله عنه : " لما جلنا هذه الجولة سمعنا صوتاً قد كاد يملأ العسكر يقول : ( يا نصر الله اقترب ، الثبات الثبات يا معشر المسلمين ) ، فتعاطفنا عليه فإذا هو أبو سفيان بن حرب تحت راية ابنه " .
فذا أبو سُفيان واثقٌ بِنصر ربِّه و كذا يَجِبُ عليْنا أن نكون ، و كيف لا يَكون هذا من أبي سُفيان – رضي الله عنه – و هو الذي كان يَقُول قَبل المَعرَكَةِ هَاتِفاً بالجُند بعد أن يَقِفَ على الكَراديس : " الله الله ، إنّكم ذادة العرب و أنْصَار الإسلام ، و إنَّهم ذادة الروم و أنصار الشرك . اللهم إن هذا يومٌ مِن أيَّامك ، اللهم أنزل نصرك على عبادك " .
ثُمَّ نحى إلى نِسَاء المُسلِمين – وَ هُنَّ أكْثَرُ رُجُولة مِنكم يَا خوالفَ ، و أكثَرُ أنُوثَةً مِنْكُنَّ يا مُثبِّطَات – و قال : " لا يرجع إليكن أحد من المسلمين إلا رميتموه بهذه الحجارة و قلتن : من يرجوكم بعد الفرار عن الإسلام و أهله و عن النساء بأرض العدو ؟ فالله الله " ، ثم رَجِع إلى مَوقِفه استعداداً للمعركة و نادى في النَّاس قائلاً : " يا معشر أهل الإسلام حضر ما ترون ، فهذا رسول الله و الجنَّة أمامكم و الشيطان والنَّار خلفكم (10) .
و لو أَرَدْتُ سَرْدَ بطولاتِ المَعرَكةِ لاحتجْتُ لتَصنيف كتاب آخر ، و قد وفَّى عُلَماؤنا بالمقصود فلا حاجة لذلك ، لكن السؤال هنا :
أفلا تَقرأ تاريخك لِتَعْرِفَ أمْجادك يا أخا اليأسِ ، فإن لم تفعل ، فَكُفَّ عن الأمَّة و دَعْهَا تُسَطِّرُ أمْجَادها بِيَمينها ، فيُسراها قَد شلَّها تَخْذيلُك ..
و الله المُستعان على كل حال ،
أخوكم عاشق الحور المَقْدِسي .
28 – صفر – 1433 هـ
---------------------------------------------------
1- " الطريق إلى دمشق " للمؤرخ أحمد عادل كمال .
2- درعا اليوم .
3- الصف 9 .
4- جديراً .
5- هربوا في الرواية الأخرى .
6- الأحزاب 23 .
7- لقاء الموت في الرواية الأخرى .
8- آل عمران 146-148 .
9- نُقلَ من الأزدي أساساً ، و من الإكتفاء عندَ ذكر الرواية الأخرى .
10- يخوفهم من التولي يوم الزحف و هو من الكبائر