الشكر نصف الإيمان؛ فالإيمان نصفان: نصف شكر ونصف صبر. وقد أمر الله تعالى به ونهى عن ضده فقال سبحانه: {واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} [البقرة:172]، وقال: {واشكروا لي ولا تكفرون} [البقرة: 152]، وأثنى سبحانه على الشاكرين، وبين أنهم هم القليل من عباده، قال سبحانه: {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ:13]، وقلة الشاكرين في العالمين تدل على أنهم هم خواص الله تعالى.
وجعل الله الشكرَ غايةَ خلقِهِ وأمْره، فقال سبحانه: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} [النحل:78].
ووعد الله تعالى الشاكرين بأحسن الجزاء، وجعل الشكر سببًا للمزيد من فضله، وحارسًا وحافظًا لنعمته! فقال سبحانه: {وسيجزي الله الشاكرين} [آل عمران:144]، وقال أيضًا: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} [إبراهيم:7].
وقد وصف الله خواصَّ خلقه - وهم أنبياؤه – بأنهم كانوا من الشاكرين، فقال تعالى عن خليله إبراهيم - عليه السلام -: {إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين * شاكرًا لأنعمه} [النحل : 120،121]، وقال عن نوح - عليه السلام -: {إنه كان عبدًا شكورًا} [الإسراء:3].
ولا شك أن أَوْلى من تَحَقَّق بشكر الله تعالى من الأنبياء هو نبيُّنا – صلى الله عليه وسلم -، وبين أيدينا حديث يؤكد هذا الأمر ويظهره بجلاء.
فقد روى البخاري ومسلم في (صحيحيهما) عن المغيرة بن شعبة – رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!".
لقد غفر الله لرسوله – صلى الله عليه وسلم - جميع ذنبه ما تقدم منه وما تأخر، وأنزل الله تعالى بذلك قرأنًا يُتلى، قال تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطًا مستقيمًا} [الفتح:1]. ولكنه أبى إلا أن يجاهد نفسه ويَحْملها على بلوغ الغاية في العبادة؛ شكرًا لله تعالى وتحبُّبًا وتقربًا إليه. فكان إذا جنَّ الليلُ وخلا كلُّ حبيبٍ بحبيبه، قام من فراشه وترك لذة النوم شوقًا لمناجاة ربه جل وتعالى، فيَصُفُّ قدميه الشريفتين ويصلي الصلاة الطويلة، قال الله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك} [المزمل:20]، فكان يقوم - صلى الله عليه وسلم - أحيانًا أكثر الليل، وأحيانًا نصف الليل، وأحيانًا ثلث الليل، وذلك حسب نشاطه - صلى الله عليه وسلم -، وكان يقوم حتى تتورم قدماه وتتفطر ويتحجر الدم فيها من طول القيام!!
فأشفقت عليه زوجاته أمهات المؤمنين، وأشفق عليه أصحابه الكرام من السُّهاد وطول القيام، ورغبوا إليه أن يريح نفسه، وما علموا أن راحته وأنسه في إتعابها!!
فسألوه مستنكرين كلَ هذا الاجتهاد منه، أليس قد غفر الله تعالى لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فأقرهم على ذلك، لكنه بيَّن لهم أن مغفرة الله تعالى لذنوبه نعمة عظيمة تستحق أن تُقابل بالشكر، وأن هذه الصلاة التي يتهجد لله تعالى بها إنما يؤديها شكرًا له سبحانه على نعمة المغفرة، فقال لهم: "أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!". فرد عليهم سؤالهم واستنكارهم بسؤال آخر؛ ألا ترون أن الذي منَّ علي بالمغفرة مستحق لكي أبالغ في الثناء عليه؟
شكر الله يكون بفعل الطاعات
في هذا الحديث دليل على أن الشكر ليس محصورًا في النطق باللسان بأن يقول العبد بلسانه: أشكرُ الله، وإنما الشكر أعم من ذلك، فيكون أيضًا بالقيام بطاعة الله عز وجل، فكلما أكثر العبد من طاعة ربه فقد ازداد شكرًا له سبحانه.
إن نعم الله تعالى علينا لا تعد ولا تحصى، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}، وشكر هذه النعم ضمان لبقائها واستمرارها وتجدُّدِها {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم}.