قصة الارقام القياسية ومدى صمودها والطموح الدائم لتعزيزها من قصة الحركة والنشاط والافتتان بالقوة والعضلات والقوام الممشوق او الرشيق والبنية المصقولة.
هي باختصار قصة الطموح الدائم الى الافضل وتخطي القدرة، والحافز المتقد. فقد عرف الانسان الحركة منذ القدم. وافادت دراسات ان كوكب الارض احتوى حركة الحيوانات في التاريخ السحيق.
لكن في المفهوم الانساني شكلت الارقام والتطلع الى انجاز افضل تحديا شخصيا وتحديا للآخر.
وفي المقارنات الاخيرة، بلغ معدل سرعة العداء الجامايكي اوساين بولت حين حطم الرقم القياسي العالمي لسباق 100م في بطولة العالم في برلين عام 2009 مسجلا 9.58 ثانية أي ما يعادل سرعة 45 كم في الساعة. لكن معدل سرعة الفهد هو اكثر من ضعفين (110 كم/ساعة).
وفي الماء، لا تتعدى السرعة البشرية معدل 15 كم في الساعة، بينما تصل سرعة اسماك كبيرة الى معدل 140 كم/ساعة.
وفي معرض تحليلاتهم، يعزو علماء السرعة الطبيعية الهائلة للحيوانات الى تطور تدريجي استلزم ملايين السنين.
في المقابل، فان الالتزام بشعار الاسرع والاعلى والاقوى يتطلب التخصص والاحتراف والاستعانة بالعلوم والابحاث لبلوغ "اقصى الممكن"، والحصول على افضل النتائج من خلال وظائف الاعضاء.
ولعل مقولة ان الارقام وجدت لتتحطم في مسابقات العاب القوى والسباحة ورفع الاثقال والرماية والتزحلق السريع على الجليد... تعزز ما يدور في محور المنافسات الرياضية والفلسفة القائمة حولها عموما.
ولعبت التكنولوجيا دورا مؤثرا، لا سيما خلال العقود الاخيرة، في بلورة هذه الصورة المتماهية مع الشهرة والثروة.
ففي عام 1972 حقق الدراج البلجيكي ايدي ميركس رقما قياسيا ضد الساعة على متن دراجة عادية بلغ 49.431 كم. واستخدم البريطاني كريس بوردمان دراجة بمقود مائل عام 2000 ليجتاز 56.375 كم على مضمار في مانشستر. لكنه لم يتمكن من نسخ رقم ميركس باكثر من 10 امتار على متن دراجة اقل تطورا في العام التالي وعلى المضمار عينه.
ومكن لباس السباحة الثوري المصنوع من مادة البوليوريتان الذي راجت موضته عامي 2008 و2009، من تحطيم 25 رقما في 26 سباقا اولمبيا، وبالتالي كتب سجل الارقام القياسية من جديد. وشبهت تلك الموضة بـ"ثورة" بولت في الـ100 م، لكن تصاعد الجدل حول الفوائد التسويقية والسعر المرتفع لهذا اللباس الذي "يوفر تقدما تكنولوجيا ونفسيا"، ما حدا بالسباحين لمقارنة هذا اللباس بسيارة فورمولا واحد.
في المقابل تطرح ارقام صامدة منذ سنوات واقعا مغايرا، مثل رقم سباق 800 م للسيدات (1.53.28 دقيقة) المسجل باسم التشيكية (التشيكوسلوفاكية) يارميلا كراتخفيلوفا منذ عام 1983. ويتجدد الحديث عن الخلايا الانثوية الخالصة في اجسام رياضيات خصوصا في حقبة الكتلة الشرقية التي استخدمت سلاح التفوق الرياضي لدعم صورتها الخارجية وتأكيد صوابية نهجها.
واللافت ان 12 من الارقام القياسية الصامدة تحققت قبل عام 1990 اي في مرحلة الكتلة الشرقية و"الملغومة بالمنشطات"، فضلا عن "ظاهرة" الصراع بين الاميركي كارل لويس والكندي بن جونسون، و"انجازات" العداءة الاميركية فلورنس غريفت جوينر في 100 م و200 م، واولى بوادر البروز الصيني وظهور عداءات المسافات المتوسطة والطويلة اللواتي سيطرن على الساحة في مطلع عقد التسعينات (كان غذاؤهن يحتوي على مكملات من دم الديدان والسلاحف...).
وما تقدم وبعد افتضاح امر كثر من الابطال ومن يقف خلفهم من مدراء ومدربين، اقترح هلموت ديجل رئيس الاتحاد الالماني لالعاب القوى نائب رئيس اللجنة الاولمبية في بلاده، اعتماد سجل جديد للارقام القياسية، بحيث تكون لكل قرن ارقامه وباعتبار ان بعض الارقام "الاسطورة" تحبط العزيمة وتعزز عدم المساواة، ما يشكل ناحية سلبية تثبط العزيمة. لكن اقتراح ديجل لم يحظ الا باصوات19 مندوبا في الاتحاد الدولي.
وفورة الارقام القياسية تشكل في جانب مواز عامل جذب في اللقاءات الدولية كي تستقطب المعلنين وتمتلىء المدرجات وتنفذ التذاكر، من هنا كثرت الاستعانة بـ"ارانب السباقات" او "طرائد". ومثلا، يفاخر القائمون على لقاء اوسلو الدولي انه شهد تحطيم 50 رقما عالميا ما بين 1924 و2008. كما تبتكر اساليب وافكار مثل اطلاق تحديات ثنائية محورها "نجوم الساعة" بدأت في عصر كارل لويس ومستمرة مع ظاهرة بولت، او اطلاق سباقات غير مألوفة مثل التتابع 4 مرات 800 م، او حشد كوكبة ابطال في سباق واحد قادرين على تحقيق ارقام نوعية.
ولعل النموذج الخارج عن المألوف هو العداء بولت تحديدا ذو القامة الممشوقة (1.96 م)، الذي كسر قاعدة ان "الطول الفارع للعداء يعيق قوته الانفجارية عند الانطلاق وردة فعله المباشرة"، وباعتبار ان تناغم الخطوات مع ايقاعاتها لا ينتاسب دائما، غير ان بولت هو مختلف واستثنائي.
ويبلغ طول خطوة بولت اثناء السباق 2.80 م، علما ان ايقاعها لا يختلف عما هي عليه عند المنافسين. من هنا المعادلة المثالية: اجتيازه مسافة 100 م بـ 41.5 خطوة بحيث وصل معدل سرعته الى 44.72 كم/ساعة بين الـ60 والـ80 م. في حين لم يستطع "كبار" سبقوه من السوفياتي فاليري بورزوف (بطل 100 م و200 م في دورة ميونيخ الاولمبية عام 1972) الى الاميركي جاستين غاتلين مرورا ببن جونسون وكارل لويس ودونوفان بايلي، تجاوز الـ 43.5 كم/ساعة.
وبناء عليه، اصبح ما حققه بولت في الدورة الاولمبية في بكين عام 2008 ثم خلال بطولة العالم في برلين 2009 موضع دراسة وتشريح علميين. فقد حسن في 3 سباقات حطم خلالها الرقم القياسي للـ 100 م عامي 2008 و2009 بـ16 في المئة من الثانية، أي1.7 في المئة افضل من اسلافه جميعهم بدء من الاميركي جيم هاينز صاحب الرقم القياسي عام 1968 (9.95 ث) الى الاميركي موريس غرين (9.79 ث عام 1999).
وفي ضوء دراسة لاندرو تاترين من جامعة اكسفورد استنادا الى نتائج دورة اثينا الاولمبية عام 2400 وما قبلها، لن تبدو السرعة القياسية محصورة بالرجال. ويقدر ان تكون بطلة الـ100 م في اولمبياد 2156 اسرع من نظيرها الرجل، متوقعا ان تسجل 8.08 ثوان في مقابل 8.10 ثوان (علما بان الرقم الاقصى لم يتخط الـ9.40 ث، وفق تقديرات دراسات اخرى نشرت خلال الاعوام الماضية).
وعموما فان انسان ما قبل التاريخ "نيياندرتال" كان اسرع من بولت كما ورد في كتاب لماك اليستر، وذلك بسبب حاجته الى الحركة لكسب لقمة عيشه، على عكس "الحياة الهائنة" التي نعيشها وافقدتنا 40 في المئة من قوة تحملنا اذ باتت عظامنا تحمل ثقلا عضليا اقل وزنا. فالانسان الاول كان يجري خلف طريدته قبل 20 الف عام بسرعة معدلها 37 كم/ساعة على ارض غير مستوية وموحلة، أي اسرع من معدل بولت (45 كم/ساعة) حين حطم الرقم العالمي.