بتـــــاريخ : 5/13/2011 10:58:41 PM
الفــــــــئة
  • الأخبـــــــــــار
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1101 0


    الدرس الألمانى: لا تغيير بدون تطهير (2)

    الناقل : elmasry | العمر :42 | الكاتب الأصلى : صبرى حافظ

    كلمات مفتاحية  :

    انتهيت فى مقال الأسبوع الماضى إلى أن الدرس الألمانى هو الذى يعلمنا ضرورة استئصال سرطان العهد القديم كله، كى يصح الجسد، وتنهض الأمة من جديد. ووعدت فى نهايته القارئ بالإجابة عن سؤال: كيف نستفيد من هذا الدرس؟ وما تفاصيل ما جرى هناك؟ والواقع أننى وأنا أطرح أهمية الاستفادة من الدرس الألمانى على وعى شديد باختلاف ما جرى لمصر عما دار فى ألمانيا النازية، وهو الأمر الذى علّق عليه عدد من القراء.

    مشيرين إلى نهضة هتلر بالبنية التحتية الألمانية من طرق ومواصلات، وبالصناعة الألمانية والبحث العلمى، وبالقدرة العسكرية التى اجتاحت أوروبا بكفاءة حربية نادرة، ولم يوقفها غير تحالف أكبر القوى الغربية من الاتحاد السوفييتى حتى الولايات المتحدة ضدها، وغير ذلك من إنجازات كبرى لا يجدون فى عهد مبارك أى نظير لها.

    فالفرق بين نظام هتلر ونظام مبارك كما علقت الدكتورة أثير محمد على كبير، وكبير جدا. وهو الفرق بين نظام شمولى له مشروع «مثالى ومبدئى» بالمعنى الفلسفى والسلبى معا، نختلف على شعاراته ورؤيته لما تنطوى عليه من أصولية أو ضلال، كما هو الحال مع النازية أو الفاشية أو حتى الستالينية، وبين نظام تسلطى مستبد لامشروع له، ولا مبدأ. ينهض على الانحطاط والبراجماتية الذرائعية كما هو الحال مع نظام مبارك المخلوع. ومع كل النظم التسلطية العربية التى لاتتورع عن قصف شعوبها بالدبابات من أجل البقاء فى السلطة والاستئثار بخيرات الوطن بالحق أو بالباطل.

    وهى كلها نظم تتمحور حول العائلة بالمعنى الصقلى للكلمة، أى بمعنى المافيا، التى تصبح فيها العائلة رأس عصابة لا تأبه بالقانون، بل تصبح هى القانون. لذلك كان طبيعيا وقد قرّ فى وعى كل هذه الأنظمة التسلطية العربية، وفى لاوعيها معا، أنها عصابات خارج القانون، أن تعتمد، كالمافيا الأم، على البلطجية بشكل متزايد، حيث نجد أن مسمياتهم تتعدد وتتباين من دولة إلى أخرى: من البلطجية الذين عانت منهم مصر ولا تزال تعانى حتى اليوم فى أحداث إمبابة الدامية، إلى البلاطجة فى اليمن، والمرتزقة فى ليبيا، والشبيحة فى سوريا، والمطوعين فى السعودية.

    فلم يكن لدى نظام مبارك أى شعارات أو مبادئ، ناهيك عن أى مشروع وطنى. لذلك كان يتقلب بتقلب المصالح والظروف كالحرباء، ولا يتورع عن استمراء التبعية والهوان، والتفريط فى المقدسات الوطنية من أجل الاستمرار فى الحكم والنهب والاستبداد بلاحدود. يعتمد على توسيع العصابة وضم أعضاء لها يعززون سطوتها، وعلى قبضة الأمن الشرسة، والتحالفات الدولية، التى وجدت أنها تستطيع أن تحقق مع مثل تلك النظم المافياوية ما لا تحلم بتحقيقه مع أى نظام وطنى.

    فلا يمكن أن تحلم دولة الاستيطان الصهيونى بمن يحمى حدودها من المهاجرين الأفارقة بالصورة، التى فعل بها نظام مبارك المخلوع، ولا يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تجد بين أخلص حلفائها، بما فى ذلك الحليف الصهيونى، من يقبل القيام بالدور القذر فيماعرف باسم Rendering بتعذيب المشبوهين فيما يسمى بالحرب على الإرهاب، والذى تحرمه القوانين الأمريكية، وهو الدور الذى أداه لها بكفاءة مخزية نظام مبارك المخلوع، وجعل مصر بسبب ذلك أضحوكة العالم المتحضر. لذلك كله أكدت فى المقال السابق أن الحضيض الذى زجّ نظام مبارك المخلوع مصر فى قيعانه لامثيل له بين الأمم.

    لكن وجه الشبه الأساسى بين النظامين، الاستبداد والسيطرة الأمنية الكاملة، وتغلغلهما فى بنية كل من المجتمعين على مختلف الأصعدة كى يدير كل منهما سلطته المطلقة بكفاءة وشراسة مطلقة أيضا، هو الذى يطرح علينا ضرورة الاستفادة من الدرس الألمانى. فلم تأت استعارة السرطان فى المقال السابق، وأكررها هنا، عفو الخاطر، لأن ما عاشته مصر سرطان خبيث تغلغلت خلاياه المدمرة فى شتى انحاء الجسد الاجتماعى والاقتصادى والسياسى المصرى. وهو ما كان عليه الأمر فى ألمانيا النازية عشية سقوط هتلر.

    وكان من الضرورى استئصال جميع خلايا هذا السرطان الخبيث من الجسد الألمانى حتى يصح، وينهض وينطلق من جديد كى يحقق معجزته، التى نرجو لمصر أن تحقق هى الأخرى معجزتها المشابهة برغم تغير الظروف والسياقات. وأهم ما يطرحه علينا الدرس الألمانى هو ضرورة التطهير، والتخلص من كل خلايا سرطان النظام السابق المتغلغلة فى كل ثنايا المجتمع. وقد أجمعت قوى الاحتلال الأربع عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية على ضرورة هذا التطهير، وإن تفاوت منطلق كل منها له.

    وتحت إدارة الجنرال أيزنهاور، الذى أصبح فيما بعد رئيسا للولايات المتحدة، وقتها تم تحديد أربع فئات هى: فئة المسئولين الكبار عن المرحلة وجرائمها، ثم فئة الضالعين فى الجرائم والمستفيدين من العهد البائد، الأقل ضلوعا فى تلك الجرائم والمتسترين عليهم أو الضالين، ثم التابعين أو المتعاطفين.

    وبدأت عملية تطهير شاملة، كان على الجميع فيها إبراء ذمتهم من هذا النظام. وكان السوفييت فى نفس تشدد الأميركان مع النازية، وتعاملوا بصرامة مع الفئات الأربع كلها. لكن الفرنسيين والإنجليز كانوا أكثر حصافة فى موقفهم من عملية استئصال النازية، إذ قصروا الأمر على الفئة الأولى وحدها من بين الفئات الأمريكية الأربع.

    وبدأ التطهير بكل المنتمين إلى الحزب، «الحزب الوطنى» وحرمان كل أعضائه من أى ممارسة سياسية. ولم يكتف أيزنهاور بإلغاء الحزب، ولكنه عمد إلى استئصال أيديولوجيته وأخلاقياته وممارساته غير الديمقراطية من شتى مناحى الحياة. فلم يكن همّ أيزنهاور استئصال فلول النازية القديمة فحسب، وإنما الأفكار النازية نفسها من الرءوس الألمانية. وبذلك أجبر كل بالغ على أن يملأ استمارة تدعى Fragebogen، وهى استبيان ملزم قانونيا يقدم فيها بيانات عن ماضية وتفاصيل عن مختلف خدماته للنظام النازى أو حتى اتصالاته به وبحزبه وبأى من رموزه.

    وشكل مجموعة كانت منوطة بإزالة آثار المرحلة من شعارات وأفكار ورموز من جغرافيا ألمانيا ووثائقها، كما كانت هناك مجموعة خاصة بجمع الأدلة على ما ارتكب أثناء هذه المرحلة من جرائم فى حق الأشخاص أو فى حق الوطن معا، وتزويد المحققين بها. وما أن مر عام على ذلك حتى كان هناك 900 ألف ألمانى فى معسكرات الاعتقال، ومليونين ممنوعين من العمل فى أى مجال ما عدا مجالات العمل اليدوى، وهذا العدد ثلاثة ملايين تقريبا هو من 80 مليون ألمانى وقتها، وهو أقل من تعداد الشعب المصرى الراهن.

    وبموازاة الاستئصال والتطهير، كانت هناك عملية التثقيف وإعداد المجتمع لممارسات مختلفة، وتصورات مغايرة كلية عن دور المواطن وحقوقه ومسئولياته. وفى هذا المجال كان لإصدار مجلة (النداء Der Ruf) عام 1945 والتى حررها هانز فارنر ريشتر Hans Werner Richter وكانت تستهدف طرح رؤية الجيل الجديد من الشباب، دور أساسى فى إعادة تثقيف الألمان حول ماهية الديمقراطية الحقيقية وتغيير عقلية الوطن والمواطن معا.

    وبعد وضع الدستور الألمانى الجديد، وانتخاب كونراد إديناور كمستشار لألمانيا الاتحادية، بدأت سياسة جديدة، أنهت التعنت الأمريكى وصفحت عن ما يقرب من ثمانمائة ألف مصنف سابق بالنازية. ووضعت ألمانيا على الطريق، الذى حقق المعجزة الألمانية.

    والواقع أننى وطوال سنوات عملى الطويلة فى الغرب، لم ألتق ألمانيا أو ألمانية إلا ولمست فيه وفيها أثر هذا الإحساس الجمعى بالمسئولية عما جرى فى تلك الفترة العصيبة والكريهة من تارخهم الحديث، وبالتصميم على ألا يحدث هذا لألمانيا مرة أخرى. وهذا ما أعنيه بالدرس الألمانى، وبضرورة تجذير الوعى فى كل مصرى، بالمسئولية عما جرى فى تلك الفترة المظلمة من تاريخ مصر، فترة مبارك المخلوع، والتصميم على ألا تتكرر. فكيف نحقق ذلك: هذا ما سنتابعه فى المقال التالى.



    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()