أرجوك وأتوسل إليك، قبل أن تلوم على أطباء مصر دعوتهم إلى الإضراب الجزئى عن العمل فى يومى ١٠ و١٧ مايو، فتشرع فى سبهم ولعن سنسفيل مصالحهم الفئوية، ليتك تحاول أن تقرأ أكثر عن مطالبهم التى لا تخص أشخاصهم بقدر ما تخص كل مواطن منكوب حرمه نظام مبارك من حقه فى العلاج والتأمين الصحى،
وبدلا من إدانتهم مثلما فعلت أنا شخصيا فور قراءتى لخبر الإضراب ليتك تحاول أن تسأل عن تفاصيل تنظيمهم لهذا الإضراب لتكتشف أنه لن يحرم مريضا مصابا بحالة حرجة أو متوجها إلى قسم طوارئ من حق العلاج، وأنه ليس عصيانا موجها تجاه المرضى بقدر ما هو صرخة يجأر بها الأطباء فى وجه المجتمع بأكمله حكومة وشعبا، لعله يفيق إلى واقع الصحة المرير الذى يزداد تداعياً فى كل لحظة بشكل لا يحتمل التأجيل والصبر، ثم ليتك أخيرا تقرأ هذا المقال الذى نشرته فى هذه الصحيفة منذ عامين وبالتحديد فى أبريل ٢٠٠٩، لتتأكد أن نضال أطباء مصر من أجل تحسين وضع الصحة المتردى فى مصر ليس مطلبا فجائيا ظهر هذه الأيام، فقد كان نضالهم جزءا أصيلا من ثورة الشعب المصرى على فشل نظام مبارك وفساده وظلمه.
صدقنى، كنت أتمنى ألا أضطر لنشر هذا المقال ثانية، فالمفروض أن الثورات تقوم لكى تَحرم الكُتّاب من فرصة إعادة نشر مقالاتهم السابقة عليها إلا من باب لفت الأنظار إلى انصلاح الأحوال وتغير المآل، لكن يا الله، ربنا يجعلها آخر الإعادات.
(قالها الشاعر العربى زمان مستنكرا وساخرا «طبيبٌ يُداوى الناسَ وهو عَليلُ؟»، ولو عاش بسلامته أيامنا هذه لما نطق شعرا، بل لأطلق فى وجوهنا أصواتا منغمة ومتقطعة لا تصح ولا تليق ولا تُكتب أيضا، لأنه سيجدنا ننتظر من الطبيب أن يداوى الناس وهو عليل ومفلس وقرفان من عيشته وحالته تصعب على المُكَفِّر والكافر.
لذلك والنبى قبل أن تلوم على الأطباء لأنهم يفكرون فى الإضراب، وتعطيهم محاضرات ليسوا بحاجة إليها عن قدسية الطب وشرف البالطو الأبيض، يا ليتك تُسَمّى لى فئة نجحت فى تطوير أوضاعها فى هذا العهد المبارك طالما لم تكن من تلك الفئات التى تساعد بشكل مباشر على بقائه كابسا فوق خياشيمنا، مع أن أى نظام عاقل يعلم أن بقاءه واستقراره باختيار الناس وبمحبتهم وأصواتهم الحرة مرهون بأيدى فئتين لا ثالث لهما، هما أهل التعليم وأهل الصحة، ولو كان هذا النظام قد اهتم بهاتين الفئتين بذمة وضمير، لكانت الصحف اليومية قد اكتفت بنشر صفحة الحوادث مرة فى الأسبوع، ولاضطر محمود سعد ومعتز الدمرداش وعمرو أديب ومنى الشاذلى وخيرى رمضان وشريف عامر للعمل فى برامج الطبخ لكى يجدوا كلاما يقولونه كل يوم.
فى أبريل الماضى، شاركت فى ندوة بنقابة الأطباء وأُهدى إلىّ بعد مشاركتى فيها عدد أبريل ٢٠٠٨ من مجلة «الأطباء» الصادرة عن النقابة، تصفحت العدد وأنا أسير عائدا إلى بيتى، فقررت ألا أعود إليه مباشرة لكى لا أُنَكِّد على من به، ولعلى أنصحك الآن إذا كنت عائدا إلى البيت أن تؤخر قراءتك لهذا الكلام لكى لا تنكد على أهل بيتك، أما إذا كنت به بالفعل فلأهل بيتك ولك ولأطباء مصر الله، كيف يكون حالك يا سيدى عندما تقرأ كلاما موثقا بأسماء قائليه وصورهم من نوعية: إخصائى أنف وأذن بمستشفى العجوزة العام: لم أشتر ملابس جديدة منذ ٥ سنوات.
واستشارى أسنان: لا أستطيع توفير نفقات أولادى اليومية، نائب صدر: لولا المستشفيات الخاصة لتسولت فى الشارع، نائب بمستشفى حميات إمبابة: رسالة الماجستير تتكلف ألفى جنيه وراتبى لا يتعدى ٢١٠ جنيهات، طبيب مقيم بمستشفى الرمد: راتبى الشهرى لا يكفى انتقالاتى اليومية، إخصائى تحاليل طبية بجامعة الأزهر يوجه شكوى لوزير الصحة لأن أصبع رجله الكبير أصيب بكسر وتمرمط لكى يستطيع علاج نفسه، استشارى الحميات د. حسن ليمود يكتب قصيدة فى ركن الأدب فى المجلة بعنوان «هان الكرام» مطلعها: معالى الوزير أتينا.. هل تنظرون إلينا، وفوق البيعة شكاوى لو قرأها العيان لرفع كفيه إلى السماء واستعجل وصول عزرائيل إذا كان هذا هو حال من سيعالجه.
أقسم بالله أننى ظللت سنة كاملة مترددا فى إعادة نشر ما قرأته خوفا من أن يكون نشره جارحا لمشاعر الأطباء الذين قدموا فى العدد ذاته مشروعا متكاملا لكادر يحفظ حقوقهم وكرامتهم ويحفظ لمرضى مصر الذين يتزايد عددهم كل ثانية بفضل اختيارات القيادة الحكيمة، ولم أتصور أن يمر عام كامل دون أن يعبرهم أحد، ثم بعد ذلك نستنكر لجوءهم للإضراب التصاعدى، لا وكمان نسأل ببلاهة أو بوقاحة عن سر تحول الطب إلى تجارة وتراجع الضمير المهنى وانتشار أخطاء الأطباء وتردى التعليم الطبى وانهيار البحث العلمى الطبى وشد العريان فى المقحّط داخل مستشفيات الحكومة.
عارف؟، على أيامنا «آه، يا نهارا بلا ملامح، تخيل أن هذا العهد بفضل انهياراته المتصاعدة جعل من هم فى مثل عمرى يرددون جملة على أيامنا بصدق وحُرقة»، حتى أواخر الثمانينيات كان العمل بالطب لايزال حلما ساحرا لأبناء جيلى والذين خلفوهم، وكنت تستطيع أن تردد بقلب جامد طُرفة «الخمسة عين» التى يحلم بها كل دكتور: العروسة والعيادة والعربية والعمارة والعزبة، أما الآن وفى ظرف عشرين سنة فقط لو رددت هذه الطرفة أمام طبيب لخزق لك عينا من الاتنين عين اللتين تشوف بهما، أما لو كان مسالما أو غير قادر على خزق عينك من فرط الإعياء لقال لك إنه لم يعد يمتلك سوى الاتنين عين الموجودتين فى جملة «عليه العوض» والتى للأمانة توفرها حكومات الحزب الوطنى للطبيب والعليل فى ظل أزهى عصور الاستقرار التى قررت ألا تسمح بالتشتت فى أحلام الأجيال الطالعة، وقامت بتوحيدها فى حلم مركزى تلخصه جملة طفولية تبدأ بحرف العين أيضا «عايز أطلع حرامى بس من اللى بيطلعوا فى النشرة»).
ربنا معاكم يا أطباء مصر.