ورغم الاختلاف بين المُشاركين فى المؤتمر، كما فى الوطن، بين مؤيد ومُعارض للتعديلات، فإن الجميع كانوا يشعرون بأن هذه هى المرة الأولى فى حياة هذا الجيل، بل وربما فى حياة الجيل السابق له، التى تُتاح له فرصة حقيقية للتعبير الحُر عن رأيه فى الشأن العام.
من ذلك أن زوجتى المصرية الأمريكية، سألتنى فى مُكالمة تليفونية، هل أنت حقيقة مع التعديلات، كما ذكرت بعض الصُحف؟ فقلت لها «نعم»، رغم تحفظات كثيرة. وأخبرتنى هى بأنها ستستخدم حقها فى التصويت، لأول مرة منذ أن حصلت على الجنسية المصرية، قبل رُبع قرن، وأنها ستقول «لا». وداعبتها على الهاتف، ما إذا كان اختلافنا فى التصويت، يمكن أن يُهدد حياتنا الزوجية... فردت «بأن ذلك أمر مُحتمل!».
وبعيداً عن هذه المُداعبات العائلية، فإن فرحتها، وفرحة كل الأهل والأصدقاء والزُملاء، كانت بالحماس الشديد، والمظهر الحضارى الراقى الذى ظهر به المصريون، فى ذلك اليوم المشهود، الذى لا تقل روعته عن يوم بداية ثورة اللوتس المصرية، وهو يوم ٢٥ يناير ٢٠١١.
هل استجاب مُعظم المصريين ممن لهم حق التصويت، ولهم بطاقات انتخابية؟ نعم، فقد قيل لنا إن حوالى خمسين فى المائة شاركوا ممن لهم هذا الحق. وهى أربعة أمثال من أدلوا بأصواتهم فى آخر انتخابات برلمانية فى عهد الرئيس السابق، حسنى مُبارك، فى خريف ٢٠١٠.
فما تفسير هذا التغير الهائل فى سلوك الناخبين المصريين، خلال ستة أشهر؟
لا يحتاج الأمر إلى عبقرى للإجابة عن السؤال، فقد كنا قد لاحظنا منذ سنوات، أن الإقبال على المُشاركة فى انتخابات الأندية الرياضية، والنقابات المهنية، يصل إلى عشرة أمثال هذه المُشاركة فى الانتخابات التشريعية، وأن ذلك للإحساس بأن الأولى ستكون أمينة إلى حد كبير، بينما هذه الأخيرة ستكون «غير حُرة وغير نزيهة».
وهذا هو فعلاً ما حدث فى أول انتخابات برلمانية عقب ثورة ١٩١٩ (وتحديداً بعد صدور دستور ١٩٢٣)، وحيث كانت مصر فى حالة من النشوة الوطنية، والإحساس بالانتصار على المُحتل الإنجليزى والاستبداد الملكى بالسُلطة. ومنذ ذلك الوقت (١٩١٩)، والشعب المصرى يحرص على الاستقلال والديمقراطية معاً، ويعتبرهما توأمين، أو وجهين لنفس العُملة.
وكما حرصت وسائل الإعلام العالمية على مُتابعة أحداث ثورة اللوتس، منذ يومها الأول (٢٥/١/٢٠١١) إلى يومها الأخير فى ميدان التحرير، فإنها فعلت نفس الشىء يوم الاستفتاء. وكأن العالم بأجمعه يُريد الاستمرار فى بهجته بمصر وثورتها، رغم أن أحداثاً أخرى لا تقل أهمية، كانت أولى بالمُتابعة مثل الزلزال الهائل فى اليابان والانتفاضات الشعبية فى كل من ليبيا واليمن والبحرين.
وسط كل هذا، عقد المصريون فى أمريكا الشمالية مؤتمرهم، الذى كان نموذجاً مُشرفاً لثورتهم الجليلة، من حيث الحضور، وانضباط الجلسات، والمُناقشات. وكان لافتاً أن نسبة كبيرة من النساء والأقباط وأبناء النوبة قد شاركت فى المؤتمر، وفى رئاسة جلساته. كذلك شاركهم إخوة عرب وأفارقة وآسيويون.
وقال بعض هؤلاء، إنهم حضروا للتضامن مع مصر، وإن العرب والأفارقة والمسلمين يتطلعون إلى عودة مصر الديمقراطية إلى مواقع القيادة فى عوالمهم المختلفة.
لقد كان الحدث مهرجاناً مصرياً كبيراً بامتياز، وقد شاركت المنظمات المصرية الأقدم، بكهولهم وشيوخهم فى هذا المهرجان. ولم يفت أحدهم، وهو الناشط المُخضرم، الدكتور أمين محمود، أن ينتهز الفرصة، فأعد صندوقاً زجاجياً شفافاً، ودعا المُشاركين من المصريين، للإدلاء بأصواتهم فى الاستفتاء، الذى كان يتم فى نفس اليوم على أرض الوطن. وفعلاً، أقبل مُعظم المُشاركين، ولبّوا نداء د. أمين محمود. وفى نهاية اليوم، أعلنت النتائج، التى كانت ٥٥ فى المائة بالموافقة على التعديلات الدستورية، و٤٥% برفضها. وصفق الجميع، موافقون ومُعارضون، لهذه المُمارسة الحُرة، التى ذكّرتهم بنتائج الانتخابات فى البُلدان الديمقراطية (مثل كندا والولايات المُتحدة) حيث يعيشون. فنادراً ما يحصل الفائز، سواء كان شخصاً أو حزباً، على أكثر من ٦٠ فى المائة.
أى أن البهجة والحفاوة كانتا بسبب الإقلاع عن النتائج «المطبوخة» مُسبقاً، التى كانت تُسمى تهكماً «بالأربع تسعات»، أى ٩٩.٩٩% لصالح من يُريده النظام المُستبد. وهو ما تعوّد عليه جيلان من المصريين خلال العقود الستة الماضية.
فوداعاً لعصور الاستبداد والفساد، ولمُمارسة الأربع تسعات، ومرحباً بمُمارسة الاختلاف الديمقراطى الحُر. وتحية لأقدم أمة تُبعث حية من جديد.
وعلى الله قصد السبيل