هو لم يقبلها بالطبع, ولم يفكر لحظة في قبولها, بل أبلغ رؤساءه عنها, وتم إخطار النيابة التي وافقت علي تسجيل وقائع الجريمة والقبض علي الراشين. القصة هنا ليست عادية فمبلغ الرشوة هو 15 مليون دولار, أي ما يعادل نحو85 مليون جنيه عرضت علي شاب( عمره لايتجاوز28 عاما).
من عصابة تعمل في تهريب الآثار, ولم يكن مطلوبا منه سوي تأمينهم في أثناء حفرهم وتسهيل مهمتهم في استخراج مسلة أثرية تقدر قيمتها بنحو150 مليون جنيه, وموجودة في باطن الأرض بقرية أبو عمران بمدينة كفر صقر التابعة لمحافظة الشرقية, حيث يعمل بطل قصتنا النقيب محمد عبدالرحيم النجار رئيس مباحث كفر صقر, ساير النقيب محمد أفراد العصابة وأقنعهم بالموافقة, حتي تم القبض عليهم. توقفت كثيرا عند هذه الواقعة, نقيب شرطة في مثل هذا العمر يرفض رشوة بهذا القدر, وهو من أسرة تنتمي للطبقة المتوسطة, ولايصل راتبه الشهري إلي ألف جنيه, متزوج منذ عامين, ولديه طفل وزوجته طبيبة تعمل في مديرية الصحة ووالده أستاذ في كلية الزراعة ووالدته مدير عام بمصلحة الضرائب وشقيقه الأكبر مدرس مساعد في كلية الطب وشقيقته خريجة كلية الآداب, يعيش النقيب محمد مع هذه العائلة الكبيرة, وهي أسرة مصرية عادية مستورة الحال, تربت علي القناعة والرضا والكفاح من أجل حياة كريمة بشرف واستقامة, وأمانة, لم يضعف النقيب محمد أمام إغراء المال, ولم يقبل ما عرضه الراشون, وهو هنا مثله مثل الملايين من المصريين يؤمن بأن المال الحرام لايدوم وليس فيه بركة فرفض عن ايمان واقتناع, أن يتحول من ضابط أمن منوط بتنفيذ القانون إلي مرتش, ومنعه انضباطه وضميره من الوقوع في جريمة رشوة, وهو هنا أيضا مثله مثل الآلاف من أشقائنا وأبنائنا من ضباط الشرطة المصريين الذين يرفضون الخروج علي القانون ويتمسكون بالقيم النبيلة في أداء واجبهم, ومهامهم, ولقد اهتم بعض صحفنا المحترمة بهذا الخبر وعلي رأسها الأهرام التي نشرت فيتشر في صفحتها الأولي يليق بقيمة الحدث, ولكن الغريب أن الكثير من الصحف والفضائيات لم تشر لا من قريب ولا من بعيد له, وكأن الأمر لايعنيها, أو لانها ـ وهذا هو السبب الحقيقي وراء هذا التجاهل ـ تتعمد عدم الاشارة لحدث ايجابي مفرح في حياتنا بتقديمها لنموذج طيب لضابط شاب رفض بيع ضميره ونفسه ويكون مثالا لشبابنا وأجيال أخري في حاجة لنقطة ضوء وسط ظلام حالك تشيعه صحف متخصصة في التحريض, وتبثه فضائيات حولت أيامنا إلي نكد ويأس.
فعلت هذه الصحف وهذه الفضائيات ما فعلته عندما استشهد عدد من الضباط وهم يطاردون عصابة تدمر شبابنا بالمخدرات, أو عندما استشهد ضابط وهو ينقذ فتاة مصرية من الاغتصاب أو آخر استشهد وهو يقتحم نيرانا اندلعت في إحدي العمارات إنقاذا لعشرات الأسر, تجاهلت صحف التحريض وفضائيات اليأس والفوضي هذه البطولات والتضحيات, ولكن عندما يتجاوز أو يخطيء رجل شرطة ويتم الكشف عن ذلك, ويحال إلي التحقيق والمحاكمة, يتصدر الحدث الصفحات الرئيسية ويصبح الخبر الأول والفقرة المفضلة في هذه البرامج! عندما قدم النقيب محمد النجار نموذجا لرجل الشرطة الشريف, لم تسع صحف التحريض لمقابلته, ولم تحاول برامج الليل الذي تحول مقدموها إلي زعماء ومشايخ فتوي ومحللين سياسيين ومصلحين اجتماعيين وثوريين بالصدفة, استقباله في فقرة من فقرات برامجهم.
وكأن الشاب لم يفعل شيئا, ولو كان النقيب محمد قبل الرشوة وقبض عليه لرأينا النجم السياسي في برنامجه يدعو الناس للخروج ضد الرشوة والفساد ويستضيف شيخه المفضل ليصدر فتوي بقطع أطرافه علي طريقة حركة طالبان, وكنا رأينا الزعيمة التي تتصور نفسها أنديرا غاندي ولا تري إلا السواد والخراب في هذا البلد, تطالب بحرق الجميع, وتستضيف هذه النسخ المكررة والمعادة لهؤلاء الذين يخرجون من جعبتهم كل يوم أشكالا وحركات بعضها متغير وأخري بديلة وأحيانا موازية ويتوسلون طالبين أن يحرق كل يوم مواطن مصري نفسه احتجاجا علي قبول النقيب محمد الرشوة, أما والشاب لم يقبلها فعليهم ووفقا لدورهم وأجندتهم, اخفاء الأمر, فليس من واجبهم أو دورهم إظهار الحقائق أو الاشارة إلي أن هناك شرفاء في هذا البلد الذي لايزال بخير.
إن قصة النقيب محمد تجعلنا نتساءل مرة أخري عن المهمة الحقيقية للإعلام, لا أحد بالطبع يريد التستر علي جريمة أو إخفاء الحقائق, فالإشارة وكشف الأخطاء ومحاسبة المخطئين ومطاردة الفساد ومساندة الحقوق والنقد والدعوة لاحترام القانون كلها مهام أساسية للصحافة والإعلام ولكن في نفس الوقت الإشارة للايجابيات وزرع قيم العدل والمساواة وتكريم الشرفاء وانصاف كل من يؤدي عمله بصدق واخلاص. فلايمكن أن تنحصر مهمة الإعلام في تصوير الحياة وكأنها تحولت إلي جحيم والتخصص في إظلام كل شيء! وهذا الذي يجب أن نتوقف عنده ويجعلنا نتساءل, لمصلحة من يحاول البعض تحويل مهمة الإعلام من إعلام ناقد وكاشف إلي اعلام هادم؟ ولماذا يتم التركيز علي كل ما هو سلبي وإغفال وتجاهل كل ماهو ايجابي؟ يجب أن نعترف بأن هناك كثيرا من الأخطاء والجرائم والتجاوزات, تم كشفها وقدم مرتكبوها إلي المحاكمة, وسلط الإعلام الضوء عليها ولم يخف أحد أو يحاول التستر علي جريمة في أي مؤسسة من المؤسسات, ولكن بالمقابل لماذا نتحدث عن هذا فقط, وعندما يضحي أحد بحياته أو يقدم نموذجا مشرفا نسعي لأن يكون هو السائد في المجتمع, لايهتم بذلك أحد, فلو كان النقيب محمد النجار قد قبل الرشوة, لحولت صحف الإثارة وفضائيات الزعماء الحدث إلي مناحة ولكن الشاب رفضها وهذا الرفض ليس مهما لدي هؤلاء الذين يسعون للخراب والهدم ولا يهم هؤلاء ما قام به جندي مصري علي الحدود للدفاع عن البلاد أو ضابط اغتالته قناصة حماس, أو رجل شرطة قتله مجرمون إرهابيون أو تجار مخدرات, أو حتي شاب رفض رشوة51 مليون دولار, فهذه المواقف لاتعجب مشعلي الحرائق وأصحاب أمنيات الفوضي ولا ترفع سعر الحلقة الفضائية, الذين تمنوا لو فعلها النقيب محمد الذي لم يفعلها لأنه لم يفكر لا في بيع نفسه ولا في بيع وطنه وقطع الطريق علي الباحثين عن الشهرة حتي ولو كانت علي حساب مستقبل الناس.