أثناء تناولها لدوائها، تعثرت حبة الدواء في مجرى التنفس، فكادت زوي أن تفارق الحياة مخنوقة، لولا أن زميلها في العمل كان حصل على تدريب خاص لتخليص مجري الهواء في مثل هذه الحالة، فأنقذها من موت محقق. بعدما أفاقت زوي، شعرت بغضب هادر يعتمل داخلها، فهي كانت تراعي جميع قواعد الأمان، وهاهي حبة دواء مفترض بها مساعدتها على الشفاء، كادت أن تقضي عليها. عندها، قررت زوي أن عليها إدخال تغيير جذري على حياتها، وقررت أن تتجاوز جميع الخطوط، فبحثت عن أكبر مستحيل أمامها، فوجدت سباق ماراثون نيويورك، فقررت التدرب للاشتراك فيه.
لا تتحدث زوي كثيرا عن طفولتها البائسة، فهي تجلب لها الكثير من الألم، لكنها تحملت حتى أتمت 18 عاما وغادرت بيتها للالتحاق بالجامعة، على أنها اضطرت لهجرها بعد أربع سنوات، لعدم قدرتها على التوفيق ما بين العمل بدوام كامل والدراسة.
وعمرها 25 سنة، بدأت زوي كوبلوفيتز (مواليد 12 سبتمبر 1948 في مدينة نيويورك) تلاحظ صدور تصرفات خرقاء منها، وبعض العرج في طريقة مشيها، وجاء التحليل الطبي ليكشف عن إصابتها بمرض ملتبل سكليروسيس أو التهاب الجهاز العصبي المتكرر، أو عدم وصول الإشارة الكهربية من المخ إلى بقية أعضاء الجسم بشكل سليم. هذا المرض أهدى زوي عكازين لا تستطيع السير بدونهم، وبعد فترة قصيرة، حل داء السكري ضيفا ثقيلا على صحة زوي.
كانت نصيحة الأطباء ألا ترهق زوي نفسها في أي مجهود، وأن تحافظ على نفسها وصحتها بدرجة زائدة. كان على زوي أن تتحلى بأعلى درجات الحيطة والحذر، حتى كادت حبة دواء أن تكلفها حياتها. بعد اقترابها الشديد من الموت، قررت زوي التخلي عن حذرها الشديد، وأن تعيش الحياة بالألوان، وإن حدث وماتت، فهي أرادت أن يتذكرها الناس بالخير.
قررت زوي ألا تستسلم للمرض، بل أرادت استرجاع كل ما أخذه المرض منها، ولذا بحثت عن أكثر عمل شجاع يمكنها القيام به، ولم تتوقف عند حقيقة أن سنها يربو عن أربعين سنة، ووجدت في سباق ماراثون نيويورك الذي يقام سنويا في فصل الخريف بغيتها. توجهت زوي إلى مركز تدريب مخصص للمعاقين، وانتظمت في تدريبات تساعد على العدو لمسافات طويلة.
في خريف 2007 الماضي، أتمت زوي 20 مرة اشتراك في ماراثون نيويورك، وهي تحمل أطول زمن مسجل لإنهاء سباق الماراثون، 36 ساعة و9 دقائق، سجلته في عام 2000 وهي حلت الأخيرة في جميع سباقات ماراثون التي اشتركت فيها.
لكي تتفهم ما تفعله زوي، لك أن تعرف أن سباق الماراثون عبارة عن قطع مسافة طولها 42 كيلومتر عدوا وجريا وسيرا. حين تجري مثل هذه المسافة الطويلة، فأنت تدخل في حوار طويل جدا مع النفس، تراودها فيه عن الإرهاق، وتجادلها فيه لأمد طويل كي لا تستسلم وتتوقف عن الجري، فما الذي يجبر إنسانا على بذل كل هذا المجهود الشديد، ولماذا يحرص أكثر من 30 ألف عداء على التواجد على خط البداية في السادسة صباحا لقطع هذه المسافة الطويلة، بدون أي عائد يُرتجى، اللهم إلا الشعور الداخلي بالانجاز والنجاح، ودفع النفس البشرية حتى تخرج أفضل ما بداخلها.
حين بدأت زوي في عام 1987 تعدو – أو بالأحرى تسير بعكازيها – على طرقات ماراثون نيويورك، الذي يمر عبر أحياء المدينة الخمسة، استغرق الأمر منها يوما ونصف من السير المتواصل بمساعدة العكازين، بدون نوم أو راحة كافية، وحين بدأت زوي، إنما بدأت وحدها، ومرت ليلا عبر أحياء نيويورك المرعبة، وخرج عليها مرة مجرم بمسدس لكنه تركها تمضي.
احتاج الأمر إلى خبر صغير في جريدة مغمورة لتنتشر حكايات السيدة التي تصر على إكمال الماراثون على عكازيها، وما هو إلا القليل من الوقت حتى كانت زوي نجمة لامعة.
بسؤالها عن سبب حرصها على إكمال السباق، أوجزت زوي الأمر بطريقة لطيفة قائلة: ” أنا أرسل رسالة إلى كل الناس، مفادها أن الماراثون هو كناية عن الحياة، وأنه ليس هناك حاجة لكي تفوز في السباق لكي تفوز في الحياة. نواجه جميعا ماراثونات في كل يوم نعيشه، سواء كانت رعاية أولادنا أو والدينا، أو العمل – ما يهم فعلا هو إنهاء ما بدأناه”.
تؤكد زوي على عدم وجود شيء فوق العادة فيها، فهي مجرد تذكير بألا وجود لشيء اسمه مستحيل في هذه الحياة، فإذا استطعت هي فعل ما لا يُمكن فعله، فحتما الآخرون قادرون على فعله، وهي نقول جملتها الشهيرة: “إذا كنت لأمثل أي شيء للناس، فأنا لهم بمثابة خازن الأحلام، أنا رسالة تذكير بشرية، تذكرك أنك قادر على فعلها، وبلوغ أحلامك“.
بعد ذيوع صيتها، بدأ المشجعون والمؤزرون ينهالون عليها، حتى أن رجال العصابات بدأوا يتصلون بها ليؤكدوا لها أنهم سيؤمنون طريقها في الماراثون، وبدأت جماعة تسمي نفسها “الملائكة الحافظة” تسير معها خلال السباق، وأصبحت زوي رمز الأمل وعدم اليأس أو الاستسلام لآلاف مؤلفة حول العالم. اليوم، زوي متحدثة بارعة في التحفيز وبث الأمل في النفوس، وهي ألفت في عام 1997 كتابا سمته: النفس الفائزة: دروس من الحياة تعلمتها في المرتبة الأخيرة.
زوي قررت أن تجري كي تثبت لنا جميعا درسا واحدا: مهما كانت الصعاب في حياتك، لا تيأس ولا تسلم، بل ثابر وجاهد. زوي تجري منذ عشرين سنة، ولم يفت المرض في عضدها، وهي تدعو الجميع للتحلي بالأمل، وعدم اليأس أو الاستسلام، فإذا كانت هي العجوز على عكازين تقضي يوما ونصف في السير على عكازيها لتبلغ خط النهاية، فماذا يمنعنا نحن الأصحاء عن بلوغ خط نهاية سباقنا…
لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس. مصطفى كامل.