سألني يوما أحدهم عمن ترك أثرا كبيرا في حياتي الشخصية، ومن ضمن أول الأسماء التي تحضر إلى ذهني فرافيا، ذلك الرجل الغامض الذي وقعت صدفة على موقعه في عام 97، وكانت المقولة التي يعمل موقعه كله في ضوئها، والتي شدتني كثيرا هي:
هناك شروخ في كل شيء، فمنها يمر الضوء إلى الداخل… ليونارد كوهين
There is a crack in every thing, and that is how the light gets in.
Leonard Cohen
في هذه الحقبة من نهاية الألفية الماضية، كان موقع فرافيا يعمل على تعليم وتسهيل الهندسة العكسية للبرمجيات والتطبيقات، ورغم أن هذه الجزئية هي النواة التي يرتكز عليها من يريد كسر حماية تطبيق ما، لكن فرافيا كان يصر على أن جهوده العلمية كانت لأجل العلم، ولأجل كشف عيوب كثيرة، تخفى على المستخدم العادي لأي حاسوب. أذكر فرافيا حين شرح كيف أنه من وجهة النظر البرمجية، لم تختلف ويندوز 95 كثيرا عن سابقتها 3.1 في طريقة العمل، اللهم إلا بعض العمليات التجميلية، وكذلك أثبت كذب مايكروسوفت حين أدعت أن ويندوز لا يمكن أن تعمل إذا نزعنا منها انترنت اكسبلورر، وكذلك أثبت أن مايكروسوفت تجمع معلومات كثيرة جدا عن مستخدمي برامجها، وساعد على كشف الملفات التي ترسل هذه المعلومات إلى خوادم مايكروسوفت.
أذكر فرافيا حين شرح بخطوات سهلة كيفية تخطي خطوات حماية التطبيق الأشهر سوفت ايس Soft Ice، الذي يعرفه كل من اختبر محاولة فهم كيفية عمل أي تطبيق يعمل على منصة دوس أو ويندوز، وكان الرجل دائما ما يكرر، لا تركز على نقطة واحدة تقتحم منها نظام ما، بل فكر في أكثر من نقطة محتملة للدخول، كذلك لطالما قال لا تظن الحل يسير في اتجاه وحيد، أو يأتي من باب واحد، فهناك أماكن كثيرة تنتظر من ينقب عنها لتكشف له عن كنوزها.
الهندسة العكسية ذات فوائد عظيمة، إذ أنها تشرح لك لماذا ينهار تطبيق ما، وتشرح لك كيف يمكنك تخطي طريقة حماية ما، أو تفضح كسل مبرمج حين عالج خطأ ما عبر الترقيع وليس عبر حل المشكلة من جذرها، ما جعل المشكلة تتفاقم (وهذا مثلا من ضمن أسباب حدوث اختراقات للمواقع الكبيرة)، لكن الأهم من ذلك أنها تشرح لك خفايا عمل كل تطبيق، ولماذا تضيء لمبة عمل القرص الصلب كثيرا بينما تعمل وتكتب على حاسوبك، فأغلب الظن أن التطبيق يتولى عنك حفظ نسخة احتياطية، لكن ليس على قرصك الصلب وحسب!
أذكر فرافيا حين أعلن ملله ممن يستخدمون أطروحاته لكسر حماية البرامج، وهو من كان يشجع على عدم القرصنة، ليس خوفا على أرباح مايكروسوفت، بل لأن القرصنة توقف عمل العقل والتفكير، وهذا ما كان يمقته فرافيا، ولذا ذات صباح أعلن عن حذف محتويات موقعه للهندسة العكسية في التطبيقات والبرامج، وتحول بعدها للهندسة العكسية لمحركات البحث، وطرق البحث عن إبرة في أطنان من أكوام المعلومات.
أذكر فرافيا حين أثبت بخطوات سهلة كيف أن موقع جوجل الشهير يعرض نتائج بحث من أفضل ما يمكن، وذات عدد زائد، للمستخدمين القادمين من داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وكيف أن هذه الجودة تنخفض وأعداد النتائج تتدنى حين يعرض جوجل النتائج لزائر من أوروبا مثلا. كذلك فضح فرافيا زيف الكثير من التطبيقات التي زعمت أنها لا تجمع بيانات عن المستخدمين، وفضح زيف إدعاء نسيان بعض مواقع الخدمات المجانية (مثل البريد الإلكتروني وتحرير الملفات) لما يكتبه المستخدمون…
تعلمت من فرافيا أنه لا توجد مشكلة بلا حلول (لاحظ حلول وليس حل)، ولا تجد نظام حماية لا يمكن التحايل عليه، ولا ملف لا يمكن العثور عليه على انترنت، فكل ما يتطلبه الأمر هو التفكير العميق الطويل، وألا تنساق وراء افتراضات سائدة ينقصها الإثبات العلمي، وتعلمت منه تحدي كل المزاعم، فكل شيء يمكن اختراقه، فلو لم يكن ذلك صحيحا، لكن نعيش في ظلام دامس. لم يكن فرافيا من معتنقي نظرية المؤامرة، بل كان حرا يطلب الحرية للجميع، ويطالب بعدم استغفال المستخدمين العاديين، وينادي بتوفير العلم للجميع، وهو كان ذا باع طويل في التطبيقات المفتوحة والحرة.
رحل فرافيا عن دنيانا في شهر مايو الماضي بعد معركة قصيرة مع المرض، ولأن فرافيا كان يضيف الجديد إلى موقعه كل 3 شهور، تأخرت في معرفة خبر وفاته لتأخري في متابعة جديده حتى الأمس، وهو أفصح عن نفسه واسمه (Fjalar Ravia) وجنسيته قيبل موته، ورغم أن محبيه حتما سيكملون مسيرته، ويحافظون على تراثه، لكن جل ما أخشاه أن يختفي يوما عمل هذا الرجل، الرجل الذي بدأ يصمم موقعه على انترنت منذ 1995 حتى مات، ولطالما تغنى وتباهى بأنه لا يستخدم سوى محرر نصوص تقليدي في ذلك، ولا يعتمد على أي تطبيق لتصميم مواقع انترنت، وكان لا يثق سوى في متصفح أوبرا لمواقع انترنت، ولم يضع إعلانا واحدا في موقعه طوال حياته، وكان حقا راهبا في محراب العلم…
نعم، ستجد في ثنايا كلمات الرجل القليل مما يتعارض مع ديننا الحنيف، ولربما وجدت بعض الصور التي لا نقبلها، لكن هذا الأمر تجده في كل شيء في عالمنا اليوم، فليس الرجل ملاكا طاهرا، ولا شيطانا مريدا، وحين أنصحك بزيارة موقعه، فلكي تحصل على الطيب، وتترك ما عداه، فالسكين يمكنك بها أن تذبح شاة لتطعم لحمها للمساكين، أو تذبح بها بريئا، ولا يمكن ساعتها لعاقل أن يلوم السكين، بل اليد التي تقبض عليها…
أنصح كل من يجيد الانجليزية بزيارة موقع فرافيا والتعلم مما تركه من طيب الأفكار والأطروحات والفلسفة الحرة، قبل أن تضيع الفرصة. نكمل بمشيئة الله مع الجزء الثالث من مسابقة نوكيا – غدا (أو حين تصلني الأسئلة!).