بناء على نصيحة صديق، استغل محدثكم وقت الفراغ الذي توفر له بعدما قرر في الأيام الماضية التوقف عن فتح صندوق بريده الإلكتروني، في تجربة لعبة كمبيوتر جماعية عبر انترنت، اسمها تيم فورترس 2، وكم أود رؤية نظرات الاندهاش التي ستعلو وجوه البعض منكم عند قراءة مقدمة هذه المقالة، لأن تدوينة مثل هذه ستختبر القارئ بشكل فعلي – هل يثق في صاحب هذه المدونة أم لا، على أن من سيتحمل ويقرأ للنهاية، فموعده مع بعض الحكمة النافعة.
بشكل مبسط، اللعبة عبارة عن صراع بين فريقين من اللاعبين البشر على أشياء مختلفة، مثل الدفاع عن مناطق أو الهجوم عليها، أو دفع عربة قطار تحمل قنبلة أو منع تحرك هذه العربة. أعضاء هذا الفريق متباينون، ما بين المتدرب السريع لكنه يحمل بندقية ضعيفة التأثير، إلى الجندي حامل قاذف الصواريخ، إلى رامي القنابل، و قاذف اللهب و حامل المدفع الرشاش و الطبيب و المهندس و القناص و الجاسوس. لكل واحد من هؤلاء الرتب مزاياه وعيوبه، فقاذف الصواريخ يطلق أربعة ثم يحتاج لإعادة تعمير القاذف، وكذلك رامي القنابل، بينما قاذف اللهب سريع لكن لا يتحمل إصابات كثيرة، وكذلك حامل الرشاش، يحتاج لمرور ثوان قليلة قبل أن يبدأ مدفعه في رش طلقات الرصاص مثل المطر. لكي تلعب، عليك الشبك على انترنت، ثم البحث عن خادم، ثم الاشتراك عبر اختيار أي فريق ستنضم إليه، الأحمر أم الأزرق.
عرفني شاب خبير بها على هذه اللعبة، ونجح في إغرائي بتجربتها، بعدما تبادلنا أطراف الحديث عن أي الخوادم يحب هو أن يشبك عليها، فقال لي لديك خادم في بلد عربي، وغيره في باكستان وسنغافورة وهونج كونج، لكنه يفضل اللعب على خوادم في إنجلترا (UKCS TF2)، وبطبيعة الحال عاجلته بالسؤال: لماذا؟ فأجابني برد عجيب: لأن من يدخلون على هذه الخوادم في العادة يجيدون اللعب الجماعي ضمن الفريق. سألته وماذا عن الخادم القابع في بلد عربي، رد علي هؤلاء عادة ما يكونون أصدقاء يلعبون جيدا مع بعضهم، ولا يقبلون بسهولة وافد غريب بينهم.
بالطبع، لست ممن يترك هكذا أحكام تمر مرور الكرام، ولذا استغليت تخفيضات نهاية العام الماضي واشتريت اللعبة – عبر خدمة ستيم Steam – وبدأت ألعب في الليل (وقت ازدهار هذه الألعاب)، وبدأت ألمس بنفسي ما يقوله صاحبي. بالطبع، في بداية اللعب، كان محدثكم يسرع الخطى ليكون في الصف الأمامي من الهجوم، وبدأت أتعلم أن هذا الاندفاع ينتج عنه موت شخصيتي بسرعة، وعليه بدأت أتقدم بحذر. الشيء التالي الذي تعلمته هو ألا أتجول وحيدا، لأني دائما ما أجد من تنشق عنه الأرض من خلفي ويقتل شخصيتي في غمضة عين.
وأما الشيء الأهم الذي تعلمته، فهو أنك لا تجد متعة حقيقية في اللعب المنفرد، خاصة مع توفر خاصية الدردشة الصوتية أثناء اللعب، أي أنك إذا ظهر لك جاسوس فجأة واغتال شخصيتك، يمكنك أن تصيح محذرا بقية أعضاء فريقك وتخبرهم بمكانه لينتبهوا له أولا، وليقضوا عليه ثانيا. ثم بدأت أتعلم أن علي انتظار أعضاء الفريق، وأن أحمي ظهرهم، لأن بدون هذه الحماية، سيخسر الفريق.
بدأت ألمس بشكل عملي حقيقة واضحة: إذا لم ألعب مع الفريق، فكل الفريق سيخسر، وليس أنا فقط. هذه الحقيقة تضمنت أن أقر وأرضى بأن ألعب دور المهندس الذي يبني وحدة إمداد تمد الفريق بالذخيرة وتعالج مؤشرات الصحة لديهم التي هبطت نتيجة الإصابات التي لحقت بهم. هذا المهندس ضعيف جدا إذا هاجم، كما وعليه أن يقبع بجانب ما بناه لكي يقوم بعملية صيانة له وإلا توقف عن العمل كل ما بناه.
كذلك دور الطبيب، إذ أنه ضعيف جدا في الهجوم، ولا يفيد في الدفاع عن نفسه، ولذا عليه أن يكون دائما مع الجنود وألا يسير منفردا. الطبيب يحمل آلة تعالج إصابات الفريق، وبالتالي يمكن لحامل الرشاش أن يتقدم، ومن ورائه الطبيب، هذا يرش الرصاص، وهذا يعالجه أولا بأول لكي يستمر في التقدم وشق طريق في دفاعات الفريق الآخر. بالطبع، على بقية الفريق أن يشاركوا في هذه السرية المتقدمة، هذا بالاستطلاع وهذا بحماية المؤخرة وهكذا.
جربت اللعب بكل رتبة من هذه الرتب، ووجدت لكل وقت من اللعب رتبة لها حاجة، فعند توقف هجوم الفريق أمام دفاعات قوية، ربما احتاجوا لأكثر من طبيب، أو احتاجوا لقاذف صواريخ من بعيد ليقضي على مدفع رشاش آلي بناه المهندس، أو قاذف اللهب ليدخل على تكتل أعضاء الفريق الآخر ويحرقهم فيضطرهم للتراجع بحثا عن طبيب أو وسيلة علاج، فيفسح المجال أمام غيره ليتقدموا.
جربت كل شيء، حتى استقر في ذهني شيء واحد: إذا أردت أن يفوز الفريق، علي أن أضع جانبا رغباتي وتطلعاتي الشخصية، فلا مرح من اللعب بشخصية طبيب يتتبع الغير ولا يهاجم، ولا متعة من الانتظار بجانب مدفع حتى إذا ظهر مؤشر حاجته للصيانة أديت ما عليك، ولا سعادة في لعب دور قاذف لهب يمكن لقناص القضاء عليه من بعيد بطلقة واحدة. لكن، إذا احتاج الفريق ذلك، تحتم على أحدهم فعل ذلك، وعلى أول من يستطيع فعلها أن يتبرع، بدون تردد، وإلا خسر الفريق.
جربت اللعب في ما تيسر لي من خوادم ممكنة، ووجدت الأمر ذاته متحققا وواضحا وضوح الشمس، ما أن تجد فريقا ناجحا، حتى ستجد ضمن أعضائه لاعبين فهموا أهمية جزئية العمل الجماعي. كنت ألعب في خادم مقره إنجلترا، ووجدت اللاعب الذي يقف بجانبي يقول لي سأحمي أنا ظهرك، لكن عليك أنت أن تحمي المؤخرة، وبسرعة فعلت ما أمرني به، وتمكنا معا من الدفاع لفترة أطول من المعتاد عن النقطة التي وقفنا فيها، وحين نفدت ذخيرتي وتمكن عضو الفريق الآخر من القضاء على شخصيتي، وقع هذا الذي كان يحميني بعدي بلحظات.
هل لاحظت ما حدث هنا؟ لقد صدر لي أمر، ونفذته على الفور. ليس هذا فحسب، بل لمست نتيجة انصياعي للأمر، فحين نفذت، ظهرت النتائج، وحين توقف عن التنفيذ، رأيت العاقبة أيضا. طبعا ليست الدنيا وردية كما قد يدفعك كلامي للاعتقاد، فالبعض يصدر أوامر غبية لا تستحق الاستماع لها، لكن هؤلاء عادة يلعبون مع الفريق الخاسر، ولا أحد يحب أن يلعب مع الخاسرين لفترة طويلة أو أن يبقى بجانبهم. بالطبع، رويدا رويدا تبدأ تحفظ أسماء اللاعبين، وتبدأ تضيفهم كأصدقاء لك، وتبدأ تنتظر دخولهم لتحقق النصر معهم.
هذا الأمر أيضا جعلني أتابع عن قرب ما الشيء الذي يحتاجه الفريق الآن. هل خطوط الإمداد بالذخيرة غير متواجدة؟ وقت اللعب بالمهندس. هل الفريق يموت أعضاؤه بسرعة؟ وقت الطبيب. هل هناك دفاعات معادية بعيدة قوية؟ وقت قاذف الصواريخ. الفريق الآخر متكتل في مكان واحد؟ وقت قاذف اللهب. هل العدو يهجم بسرعة وخطوطه ممتدة؟ وقت الجاسوس لقطع خطوط الإمداد هذه فيضطر الفريق الآخر للتقهقر للخلف. هل تشعر معي بأن ما جاء في كتاب فن الحرب يتحقق هنا بشكل عملي ومرح في الوقت ذاته؟
لفترة طويلة وقفت أفكر في هذا الأمر. إن اللعب ضمن الفريق لا يتوقف فقط عند حدود اللعب الإلكتروني، بل هو ضارب وممتد في كل أنواع النشاط الإنساني. ربما كان يحلو للبعض السخرية من مجرد ذكر كلمة لعبة كمبيوتر، أو تجده يقول هذه تركناها للأطفال، لكن لو نظرت بعمق، وذهبت لأبعد مما وقفت عنده العين، فستجد أن الألعاب الجماعية هي صورة من صور التفاعل البشري الإنساني الجماعي، وتستطيع أن تتعلم منها كما تتعلم من احتكاكك اليومي مع بقية البشر.
إذا أردت أن تكون الألعاب مضيعة للوقت، فستكون كذلك، وإذا أردتها ترويحا عن النفس فستكون كذلك، وإذا أردتها وسيلة تعليم غير مسبوقة، فستكون كذلك، فليست ألعاب الكمبيوتر كلها شر، بل هي أداة، إذا أردتها للخير فستطيع، وإذا أردتها في غير ذلك، فلن تعصيك. هذا الأمر جعلني أصل إلى قناعة أن هذا هو ما ينقصني في هذه المدونة، فبعد خمس سنوات جمعت حولي باقة من العقول الذكية، والآن جاء دور خطوة ضم هذه العقول إلى فريق ناجح. هذا الفريق سيكون عليه أن يعرف كل عضو فيه عن قرب، وأن يكون مستعدا للعب أكثر من دور من أجل مصلحة الفريق، وهذا سيكون شاغلي في الأيام المقبلة.