بعدما سمح بول جراهام لمن يريد بترجمة مقالاته ونشرها، كما أخبرني جهاد العمار مؤسس موقع قيم، أصبح من الواجب الغوص في موقع هذا الرجل وترجمة أفضل ما نشره، ولمن يتابع مدونتي منذ عند قريب، أذكركم بترجمتي السابقة لموضوع قيم نشره بول جراهام في عام 2007 اسمه: لماذا يجب ألا تتردد في بدء مشروعك الخاص. في شهر أغسطس الماضي نشر بول مقالة طريفة شرح فيها وجهة نظره لأسباب تأخر ياهوو وتقدم جوجل في السباق، أترجمها هنا بتصرف كبير. يقول بول:
‘حين انتقلت للعمل لدي ياهوو بعدما اشتروا شركتنا الناشئة في عام 1998 كنت أظن أننا مركز العالم، وأننا الشيء الجديد شديد الروعة. كان المفترض بنا تحقيق كل ما حققه جوجل بعدنا. ما الخطأ الذي وقع فيه ياهوو؟ في الحقيقة هي مجموعة من الأخطاء والمشاكل، لازمت موقع ياهوو منذ تأسيسه، أهمها مشكلتان لم يواجهها جوجل وهي: المال الوفير السهل، والثانية تضارب الآراء داخل ياهوو حول كونه شركة تقنية في الأساس. لنبدأ بالمشكلة الأولى.
المال الوفير
حين قابلت جيري يانج Jerry Yang (أحد مؤسسي موقع ياهوو) لأول مرة، ظننت أن اجتماعنا غرضه أن نعرض عليه آلية عمل تقنية البحث الجديدة التي برمجناها، والقائمة على حسن ترتيب نتائج بحث المتسوقين الباحثين عن سلع بعينها لشرائها من انترنت، وكانت هذه التقنية تتعلم من سلوك المتسوق، فكلما اشترى سلعة ما، قدمت له تلك التقنية المزيد من نتائج البحث التي تناسب سلوكه الشرائي، في الوقت ذاته كانت هذه التقنية ترتب نتائج البحث بحيث تعرض أولا منتجات التجار الذين يقدمون عمولة بيع أكبر إلى موقع البحث ذاته. بهذا يربح الموقع أكثر، ويحصل المتسوق على نتائج بحث تناسب ما يبحث عنه من سلع ومنتجات، ويخرج الجميع رابحا بذلك.
لم أجد اهتماما واضحا من جيري بهذه التقنية، ولم أفهم السبب: هل كان يعطينا الوجه الخالي من الانفعالات كوسيلة تفاوض أم أننا لم ننجح في تبسيط فكرتنا وشرحها له بأسلوب سهل ومفهوم. حين انتقلت للعمل لدى ياهوو، اكتشف سر عدم اهتمام جيري، فموقع ياهوو كان وقتها متخما بأموال الراغبين في الإعلان لديه، ولذا إن بدأ ياهوو يعمل على ترشيد نتائج البحث وتقديم أفضلها، كان هذا معناه تراجع أرقام الإعلانات المعروضة على ياهوو، وهذا يعني بالتبعية تراجع الإيرادات وتناقص الأرباح، ولا أحد في كامل رشده ووعيه يفعل ذلك.
كان الإغراء شديدا، إذ كان المعلنون يتدافعون لشراء الإعلانات على ياهوو، وكان فريق المبيعات قائما على استغلال هذه الرغبة العارمة، وكان من المعتاد خروج رجال المبيعات صباحا وعودتهم بأوامر شراء إعلانات قيمتها بالملايين. كانت أسعار الإعلان عبر انترنت أرخص عند مقارنتها بأسعار الإعلان على الورق، في المجلات والصحف وما في حكمها (أعود للتذكير بأن الوقت كان عام 1998)، لكن فعليا كان مقابل الإعلان على موقع ياهوو مرتفعا جدا، عند مقارنته بالمبيعات المتحققة والعوائد المترتبة عليه. عملاء مجانين ينفقون بغباء، قابلهم رجال مبيعات يأخذون مالهم بسرعة وسعادة، وكان هذا مصدر دخل وفير لكن غبي. المزيد من التوضيح قادم على الطريق. (من مدونة شبايك)
هذه الأموال السهلة جعلت المستثمرين يرغبون في دخول عالم الاستثمار في مواقع انترنت لتكرار أرباح ياهوو، وكانت المشاريع الناشئة على انترنت تشتري إعلانات من ياهوو لتحصل على زوار لها ومستخدمين لخدماتها. هذا الشراء جعل عوائد ياهوو تزيد أكثر، هذه الزيادة جعلت المستثمرين يقتنعون أكثر بجدوى الاستثمار في مشاريع انترنت الناشئة. كان الجميع (المعلنون ومواقع انترنت الناشئة) يرغبون في الدعاية لعلامتهم التجارية، فلم يهتموا لنوعية أو طبيعة أو تصنيف زوار انترنت القادمين إلي مواقعهم. فقط أرادوا عددا كبيرا من الزوار لكي يروا دعاياتهم و إعلاناتهم. هذه الرغبة جعلت ياهوو تهتم فقط بعدد الزوار ولا شيء غيره.
هذا الاهتمام بزيادة عدد الزوار جعل ياهوو (وغيره من مواقع البحث في هذا الوقت) تتحول من موقع بحث إلى بوابة أو Portal الهدف منها أن يجد زوار موقع البحث ما يبحثون عنه على موقع البحث ذاته فلا يتركونه لمواقع أخرى. في هذا الوقت، اقترح بول – ومعه غيره من العاملين داخل ياهوو – على مسؤولي ياهوو شراء الموقع الجديد: جوجل، لسبب بسيط: كان العاملون لدى ياهوو يستخدمون خدمات البحث لدى هذا الموقع الجديد عوضا عن خدمات موقع ياهوو ذاته للبحث على انترنت!
كان الرد بعدم القلق من مثل هذه المنافسة، ففي هذا الوقت، أشارت الإحصائيات إلى أن البحث على انترنت يشكل 6% من رغبات زائري موقع ياهوو، وكان معدل الزيادة الشهرية في عدد زوار ياهوو ساعتها 10%، ولذا فلا موجب للقلق من هذا المنافس الصغير. طبعا، لم يكن أحد يدرك وقتها أن تدفق الباحثين على انترنت هو أكثر أهمية (وربحية كذلك) بكثير من أي تدفق زوار آخر. كان مسؤولو ياهوو ليدركوا هذه الحقيقة، لولا عائق واحد منعهم من إدراكها: ألا وهو المال الوفير!
شركة ميديا لا تقنية
أغبى المعتقدات التي سادت ياهوو حين ذهبت للعمل لديهم كان إصرارهم على تسمية أنفسهم شركة إعلام أو ميديا Media Company ، في حين أنك لو مررت على مكاتب العاملين لدى ياهوو لظننتها شركة تطوير برمجيات: مبرمجون عاكفون على كتابة شيفرات برامج، وموظفو دعم فني يردون على مشاكل متصفحي مواقع انترنت. عدم اليقين هذا كان سببه أن مصدر دخل ياهوو ساعتها كان بيع الإعلانات، وفي عام 1995 كان من الصعب جدا تقبل فكرة أن شركة تقنية تربح من بيع إعلانات ودعايات، فشركات التقنية وقتها كانت تربح من بيع البرمجيات وتطويرها.
السبب الثاني للخوف والرعب من قبول تصنيف ياهوو على أنه شركة تقنية هو مايكروسوفت، ذلك الوحش الكاسر الغادر والمنافس، والذي كان ليطحنهم بكل سهولة وهي الشركة المخضرمة ذات الباع الطويل والمنتشية بأرباح مبيعات نظام التشغيل الواعد وقتها، ويندوز 95. كانت ياهوو لتوها قد شاهدت قسوة مايكروسوفت وهي تمزق أوصال منافسيها، مثل شركة نتسكيب التي قدمت أفضل متصفح انترنت وقتها نتسكيب نافيجتور، لتخسر أمام انترنت اكسبلورر، برنامج المتصفح المجاني المرفق مع نظام التشغيل ويندوز. (منقول من مدونة شبايك)
كان الذكاء الفطري يقول بالإدعاء بأن ياهوو شركة إعلام لتفادي مواجهة خاسرة ضد عديمة الرحمة مايكروسوفت، حتى أن بعض المديرين داخل ياهوو حملوا ألقاب وظيفية مثل منتج ومخرج، لكن هذا الإدعاء لم ينفع ياهوو، التي كانت فعليا شركة تقنية… هذا التردد في تعريف الشركة جعلها بلا هوية أو رؤية واضحة. هذا التردد جعل ياهوو تنظر بعين الاستخفاف إلى أهمية البرمجة والمبرمجين لبقائها، على عكس الحال في شركات مثل مايكروسوفت و جوجل و فيسبوك. قلة الاهتمام هذه نتج عنها قلة جودة وضعف مستوى تطبيقات ياهوو، وكان من ضمن الأسباب توظيف ياهوو لمبرمجين فاشلين ضعيفي المستوى. نعم كانت ياهوو تفضل المبرمجين الماهرين، لكنها لم تطارد الصفوة والعباقرة وتضمهم إليها، مثلما فعل غيرها.
على مر تاريخي، تعلمت أنه إذا بدأ مستوى أي شركة تقني في الهبوط، قلت كثيرا فرص عودتها إلى سابق مستواها، ذلك أن المبرمجين الماهرين يحبون العمل مع مبرمجين آخرين عباقرة وأفذاذ، وإذا بدأ مستوى المبرمجين في شركة ما في الهبوط والتدني، فاعلم أن هذه الشركة دخلت في دوامة هبوط سريع لا أمل في النجاة منها.
في حالة ياهوو، بدأت دوامة الهبوط هذه مبكرة، فبعدما بدأت شركة ياهوو على يد مبرمجين نابغين، بدأت جيوش البذل الأنيقة والملابس الرسمية تغزو إدارة الشركة، وعوضا عن التركيز على المبرمجين المهرة، تحول الاهتمام إلى توظيف المزيد من التنفيذيين والمدراء الأنيقين، وهؤلاء – وحدهم – لم يأتوا بخير قط. حين زرت جوجل لأول مرة، كان عدد العاملين قرابة 500، وحين جلست مع بعض المبرمجين في كافتيريا الشركة، ناقشتهم في ترتيب نتائج البحث بشكل محدد، (أو ما يسمونه SEO الآن). سألني المبرمجون وقتها: ما الذي يجب علينا عمله تجاه ذلك الأمر؟ هذا السؤال لم يكن المبرمجون لدى ياهوو ليجرؤون على طرحه، فكل شيء كان يأتي من التنفيذيين الأنيقين، فهم الآمرون الناهون ولا أحد غيرهم.
لا أظن شركة انترنت الناشئة قادرة على تعلم الكثير من خطأ ياهوو الأول: المال السهل الوفير، لكن الخطأ الثاني يجب على كل شركة انترنت ناشئة أن تتعلمه وتعيه جيدا. لا زلت أذكر مارك زوكربيرج Mark Zuckerberg (مؤسس فيسبوك) حين تحدث في مدرسة المشاريع الناشئة Startup School في عام 2007 وقال أنه يوظف مبرمجين في كل أقسام الشركة، حتى تلك التي لا تتطلب مبرمجين، مثل العلاقات العامة والتسويق. تفسير ذلك أن مارك أدرك جيدا أهمية المبرمجين النوابغ لنجاح موقع فيسبوك.
إن أي شركة ناشئة على انترنت يجب أن تهتم كثيرا بالمبرمجين، أولئك النوابغ العباقرة الأفذاذ، قدر استطاعتها. هؤلاء المبرمجون لن يسعوا للعمل مع شركة يسيطر عليها ويحكمها من يرتدون بذلات / ملابس فاخرة غالية الثمن، ما لم يكن المقابل المالي سخيا بقوة، أو أنهم لم يجدوا شركة أخرى تعطي التقدير الكافي للمبرمجين النوابغ. بدون المبرمج العبقري لن تطور أي شركة برامج جيدة المستوى، مهما بلغ عدد من كلفتهم وطالبتهم بذلك، ومهما اتبعت من إجراءات وأساليب للجودة.’
شركة انترنت الناشئة لن تنجح بدون مبرمجين عباقرة.
رغم أني لم أحظ بفرصة السير داخل أروقة ياهوو الشرق الأوسط، لكني تابعت إعلانات التوظيف لديها، ومن الواضح لي أن ياهوو الشرق الأوسط يسيطر عليها عقلية أصحاب البذلات الفاخرة… والخوف كل الخوف أن تسيطر هذه العقلية الإدارية على جوجل الشرق الأوسط بدلا من التنقيب عن وتدريب وإعداد المبرمجين العرب الأكفاء…