لم يشكل العنف ضد المرأة مشكلة , إذا ما استدعينا السياق التاريخي في هذه الظاهرة , لان المجتمعات على وجه العموم كانت تتعامل مع المرأة بوصفها من ممتلكات الرجال , بل أن هذه المجتمعات شرعنت بصورة او بأخرى العنف الأسري وباركته بقصدية واضحة . لقد قادت التغييرات الاجتماعية إلى تجريم العنف ضد المرأة في المجتمعات المعاصرة , إلا أن العنف بقي ظاهرة مشتركة في هذه المجتمعات تحت صور ومسميات شتى ، قديمة ومتجددة او جديدة تناسب مع روح العصر العاجز عن مواجهة غول العنف الذي يقتل ويشوه الإنسان بدنيا ونفسيا واقتصاديا وجنسيا ليصبح وباء العصر وكل عصر . انه يضرب مجتمعات العالم قاطبة , يتخطى العوائق ,والحدود, والثقافات , والتعليم, والأديان, والتكنولوجيا, والعرق ,والطبقة الاجتماعية, والاقتصاد وغيرها . فلا يوجد دولة او ثقافة تستطيع أن تزعم أنها خالية من هذه الظاهرة المقيتة , والاختلاف الوحيد ربما يكون في أنماط واتجاهات هذه الظاهرة . وعلى الرغم من أن بعض المجتمعات تحرم العنف ضد المرأة ، إلا أن هذا العنف متأصل في صميم ثقافاتها ، ومن حيث الممارسة غالبا ما يقع العنف تحت ستار الممارسات الثقافية والعادات والتقاليد والتفسير الخاطئ للدين خصوصا إذا كان ضمن حدود الأسرة فان القانون او الجهات الرسمية عادة ما تفضل التغاضي والسكوت عليه بحجة السلم الاجتماعي على سبيل المثال .
لا يوجد تعريف عالمي متفق عليه لهذه الظاهرة . فبعض منظمات حقوق الإنسان تتوسع في التعريف ليتضمن العنف البنيوي مثل الفقر ، وعدم تكافؤ الفرص ، والوصول إلى الموارد كالصحة والتعليم ، فيما تفضل مؤسسات أخرى تعريفا محددا حتى لا يفقد المصطلح مضمونه وفاعليته .
وبكل الأحوال فان الغاية من الوصول الى تعريف محدد متفق عليه تسهل دراسة الظاهرة ومتابعتها وإمكانية تطبيق التعريف على ثقافات مختلفة ومتنوعة في الوقت ذاته . في عام 1993 عرّف إعلان الأمم المتحدة لمناهضة العنف ضد النساء, العنف ضد المرأة بأنه " أيّ فعل عنيف على أساس النوع الاجتماعي ينتج عنه او ربما يتسبب في أذى بدني او نفسي او جنسي او معاناة للمعتدى عليها متضمنا التهديد بمثل هذه الأعمال , الإكراه او الحرمان التعسفي من الحرية ، سواء حدث ذلك على الملأ او في الحياة الخاصة " .
يشير التعريف الى جذور النوع الاجتماعي لهذه الظاهرة معترفا بأن " العنف ضد النساء هو احد الآليات الاجتماعية الحاسمة التي تضع المرأة قسرا في درجة ادني من الرجل ." كما انه يوسّع تعريف العنف ليشتمل على العنف النفسي ، فضلا عن البدني ، كما انه يتضمن الأفعال العامة والخاصة . يحدد الإعلان ثلاثة مجالات للعنف : الأسرة , المجتمع العام , أو عنف تمارسه الدول او تتستر عليه على اقل تقدير.
ترى المقاربة الاجتماعية النسوية لظاهرة العنف إن سبب الظاهرة يكمن في الموافقة الضمنية التي يمنحها المجتمع للرجل الممارس للعنف " الرجل الذي يهين زوجته إنما يمارس وصفة ثقافية معززة في المجتمع: العدوانية ، والهيمنة الذكورية ، والدونية الأنثوية , وهو يوظف القوة الجسدية لتعزيز هذه الهيمنة " . لا تستبعد هذه المقاربة البعد النفسي في طرحها كما تفعل بعض الناشطات النسويات اللواتي يركزن على المقاربة الاجتماعية الصرفة للظاهرة ، علما أن عددا من المشاهدات لا تتوافق مع مقارباتهن, فمثلا يرى الباحثون إن معدلات العنف وسوء معاملة النساء اقل في المجتمعات الموسومة بالثقافة البطريركية. كما انه لا توجد علاقة مباشرة بين السلطة الفعلية التي يمتلكها الرجل في إطار علاقة ما بالمعاملة المهينة للمرأة . فضلا عن تفشي العنف بين الأزواج الشاذين جنسيا , الأمر الذي يقلل من أهمية وجود ذكر وأنثى ضمن علاقة الشراكة التي يمارس فيها العنف . وعلى الرغم من أهمية الدور الاجتماعي إلا أن فهم الظاهرة هو الطريق الفاعل نحو مكافحتها ، الأمر الذي يتطلب مقاربة نفسية إضافية.
ترى نظرية التعلم الاجتماعي أن العنف ضد المرأة هو استجابة مكتسبة لمثير ـ معززة بنتائج مباشرة ( الشعور بالسيطرة , التعبير التطهيري عن الغضب , إنهاء الجدال) ـ يجلبها العنف ، ومن ثم فان عنف الأب ضد الأم قد يشكل نموذجا يحتذي من قبل الأطفال. وعلى الرغم من ذلك, فليس من الحكمة القبول بنموذج مبسط لمقاربة هذه الظاهرة لأنه ببساطة لا يمنح تفسيرا شاملا لها. ذلك أن معايشة العنف الأسري تؤدي الى ممارسة العنف من قبل الذكور والإناث بصورة عامة ولا ترتبط بالجنس, فضلا عن أن كثير من الرجال يمارسون العنف ضد المرأة دون أن يكونوا قد تعرضوا لتاريخ مشاهدة ممارسات عنفيه بين والديهم.
الأمر الذي يؤكد ضرورة مقاربة هذه الظاهرة من منظورات أخرى تتجاوز السائد والعام وتبحث في الأسباب والدوافع .
يرتكز البروفسور بيتر فوناغي( 1) في تفسير ظاهرة العنف الأسري ـ استنادا الى نظرية بولبي عن التعلق ـ الى الملاحظات الابستمولوجية التي تؤكد أن النوع الأول من هذه الظاهرة يتضمن علاقات تعلق , الأمر الذي قاده الى استنتاج أن نظرية التعلق قد تكون مفيدة في تحليل هذه الظاهرة .
وتتعامل نظرية التعلق مع التفاعلات الديناميكية التي تحدث بين الأطفال والقائمين على رعايتهم أعني الوالدين أو من يحل محلهما)، وترى هذه النظرية أن الأطفال يندمجون في سلوك (تعلق) يبحث عن التقارب Proximity-seeking attachment behavior وعادة ما يكون في شكل مطالب مشحونة انفعاليًا لجذب الانتباه (مثل الصراخ أو نوبات الغضب) أو في شكل سلوك انسحابي شديد. وعندما يتم تلبية هذه المطالب بشكل مناسب لسلوك الرعاية، فإن الطفل يعيش إحساسه بالصحة النفسية والأمان الذي يمكنه من الاندماج في سلوكيات "استكشافية " والتي تعد مهمة جدًا لنموه الطبيعي. وهنا لا يتضمن سلوك الرعاية المناسبة الإهمال أو الحماية الزائدة. أما الفشل والإخفاق في معايشة الرعاية المناسبة للطفل فقد يؤدى إما إلى التثبيت على مرحلة نمائية مبكرة ، أو النكوص إلى هذه المرحلة المبكرة. إن مثل هذا التثبيت أو النكوص سوف يأخذ غالبًا شكل سلوك تعلق نمائى غير مناسب باحثًا فيه عن التقارب(2 )..
يفترض بولبي(3 ). أن نظام التعلق يبقى مُنَظِما مركزيا للسلوك الشخصي الداخلي طوال حياة الفرد . إذ تنشأ علاقات التعلق على مدى السنتين الأوليين من حياة الطفل تقريبا ولكن الأهم هو أن هذه العلاقات تحدث في وقت واحد مع تطورات عصبية هامة في الدماغ . إن سلوكيات مثل الإغماء او الجمود او الهرب او الاختباء أو إهانة القائم على الرعاية عند الاتقاء به بعد الانفصال المؤقت تدلل على فشل في نظام التعلق .
يزعم بولبي أن مهمة الطفل هي تأسيس علاقة مع القائم على رعايته تؤكد الحماية من خلال التقارب . يوفر نظام الأبوة هذا التقارب والتواصل لتأكيد الحماية والبقاء في نهاية المطاف. يحرض التهديد نظام التعلق وهذا بدوره يحفز نظام الرعاية عند البالغ.
ولكن ماذا عن العلاقة المؤذية او المهينة abusive relationship؟ . يسبب سوء المعاملة او التهديد بسوء المعاملة استثارة عالية لنظام التعلق عادة ما يكون مفارقيا بالنسبة للمسيء الذي هو مصدر التهديد والأمل في احتوائه في الوقت ذاته . وهذا بالتحديد لب التعلق المضطرب او المشوش.
عرف بولبي الغضب على انه استجابة طبيعية من الطفل عندما تتعرض توقعاته بالأمن او القرب من القائم على رعايته للخطر . وفي حالة التطور الطبيعي فان لهذا الغضب وظيفة في تمتين العلاقة مع القائم على الرعاية . وعند السنة الثانية او ربما قبلها بقليل يوظف الغضب للحفاظ على تكامل التمثيل الذاتي . تهديد قدرة الصغير على تقرير المصير عادة ما يقود الى نوبة غضب مؤذية تميل الى الخفوت مع نشوء نظام ذاتي ثابت . إن انفجار الغضب عند الصغير لا يكون استدعاء للحماية بالأساس , بل أنها أيضا استجابة وقائية ذاتية على بلادة وبرود القائم على الرعاية . تنفجر هذه الاستجابة لحظة إحساس الطفل بالانتقاص من صورته الذاتية الناشئة . عادة ما تثير ردة الفعل هذه تكثيف فوري لاستجابات تقديم الرعاية مع فرصة اكبر نحو الاعتراف بقصديه الطفل . وعلينا التذكير بان ثورات الغضب هذه شائعة في سياق التعلق.
تتحول استجابة الغضب الطبيعية الى عدوانية عندما يسود البرود والبلادة . يستدعي الطفل درع الغضب الدفاعي مرات عديدة بحيث تصبح استجابة المعارضة متكاملة مع البناء الذاتي للطفل . وعلى الفور يولد التوكيد الذاتي عنفا . وبالرغم من أهمية الغضب ضمن علاقات الارتباط فان العدوان هو بالتأكيد خلل لأنه يهدد بتحطيم علاقة الارتباط , وفي تشكيل بولبي فان العدوان او بالأحرى "اختلال الغضب" يكمن في جذور التعلق القلق .
وعليه فان التعلق القلق يرتبط بالعنف ولكنه لا يوفر تفسيرا كافيا . لان الارتباط القلق شائع في أطفال الطبقات العاملة ولكن اغلبهم لا يصبحون عنيفين لان التعلق القلق على الأرجح إستراتيجية ثابتة تقريبا تتمايز في مرحلة البلوغ بنبذ العلاقات بوصفها غير هامة( نمط التجنب القلق ) , أو بوصفها انشغال بعلاقات ارتباط ماضية يتم تناولها غالبا بغضب ( نمط المقاوم القلق). لا تشبه أي من هذه الاستراتيجيات السلوك الخارج عن السيطرة والذي يمارسه الرجال العنيفون , فضلا عن ذلك تشير الدلائل الإكلينيكية الى أن المعنِف يذهب الى أقصى حد في سبيل الاحتفاظ بالعلاقات المختلة مع ضحاياهم بعد نوبات العنف .
في إطار التعلق والقدرة على تمثيل الحالات الفكرية , يمكن تناول فشل القائم على الرعاية الدائم في الاعتراف بحالة الطفل الموضوعية في بواكيرها . يمكن القول انه بدون قدرة فعلية على اختبار الذات من حيث الدوافع والأمنيات والرغبات التي تحاصرها المعتقدات والتوقعات فان الطفل يعتمد على رمز التعلق لاكتشاف موضوعيته الذاتية(4 ) .
يجد الطفل نفسه في عقل القائم على الرعاية بوصفه كائن مقصود تحفزه حالات عقلية وأفكار ورغبات. هذا التمثيل يصبح فيما بعد لب الذات النفسية , وبالتالي فان إدراك الموضوعية يمكن أن يعبر عنه لدى الطفل كالتالي " القائم على رعايتي يفكر بي , بوصفي تفكير, إذا أنا موجود بوصفي مفكر" .
هناك العديد من الدلائل التي توافق هذا النموذج: فقد اثبت دراسات متعددة أن قدرة مقدم الرعاية على عكس الحالات العقلية عند وصف طفولتهم يشي بأمن التعلق لدى الطفل . إن كفاءة التعلق المبكر هي أيضا مؤشر جيد نسبيا على قدرة الطفل على تعلم أن أفضل طريقة لفهم سلوك الآخرين تكون بوساطة الحالات العقلية او ما يطلق عليها نظرية العقل . يتمكن الأطفال اللذين تمتعوا بتعلق آمن في طفولتهم من اجتياز الاختبارات المعرفية المتعلقة بتفهم الحالات الوجدانية عند الآخرين ,بتفوق أكثر من أقرانهم اللذين عانوا من تعلق غير آمن. إن تفهم الطفل للعقل يعتمد بصورة حاسمة على فرصة وجوده في عقل القائم على الرعاية بوصفة فردا متعقلا. تعتبر قدرة الوالدين التعقيلية مؤشرا آخر.وبالتالي فان نظرية العقل هي قبل كل شيء نظرية الذات و التعقيل Mentalization(5 ) . التعقيل هو القدرة على فهم وتأويل السلوك الإنساني من خلال الحالات العقلية المفترضة التي تدعمه والتي تتكون عبر خبرة أن المرء قد قوبل بتفهم مماثل في سياق علاقة تعلق. يقول البروفسور بيتر بوناغي أن هذا من وجهة نظره هو البعد الحاسم في الإساءة والعنف المتنقل عبر الأجيال(6 ).
إن سوء المعاملة يضعف قدرات الطفل الانعكاسية والشعور بالذات . وقد لوحظ ( 7) أن الأطفال الصغار اللذين تعرضوا للإيذاء كانوا اقل ايجابية من الناحية الوجدانية عند التعرف على أنفسهم في المرآة كما أظهورا عجزاً في توظيف كلمات تصف الحالة الداخلية. أنهم لا يستطيعون حل الألغاز التي تتطلب منهم إدراك المعتقدات الخاطئة الخاصة بشخص والمتعلقة بالمعتقدات الخاطئة لشخص ثانٍ. تشير النتائج إلى أن سوء معاملة الأطفال قد يؤدي إلى الانسحاب من العالم العقلي . إن سلوكيات التعلق لديهم, والبحث عن التقارب تكون مشوشة و منقسمة على ذاتها لأنهم ينشدون التقارب الجسدي بشدة بينما يحاولون خلق مسافة عقلية.
أما أسباب حدوث ذلك فهي (8):
أولا :إن الاعتراف بالحالة العقلية للآخر يمكن أن تشكل خطرا على تطوير الذات ، لأن الطفل الذي يعترف بالكراهية التي ينطوي عليها تعاطي احد الوالدين معه مضطر إلى النظر إلى نفسه بأنه غير محبوب.وثانياً ، إن الحالات القصدية او المتعمدة يمكن أن تنفى او تشوه. إذ أن الآباء المسيئين عادة ما يزعمون معتقدات أو مشاعر تخالف سلوكهم. ولان الطفل لا يمكنه اختبار أو تعديل عروضه وإقراراته الخاصة التي أصبحت جامدة، أو غير ملائمة. و ثالثا ، يمكن للعالم , حيث من الشائع وجود وظيفة انعكاسية ، أن يمنح نماذج بديلة لمواجهة الذات والتي هي من الجمود والتصلب بحيث تبقى منفصلة عن سياق التعلق .
وأخيرا ، قد يحدث اختلال وظيفي ، ليس بسبب سوء المعاملة فحسب ، ولكن بسبب جو الأسرة التي يحيط بالطفل . ذلك أن الأبوية السلطوية ، المرتبطة عادة سوء المعاملة ، وكما هو معروف, يمكن أن تؤخر تطوير التعقيل . يجد هؤلاء الصغار وأمهاتهم صعوبة في الانخراط في موقف مسلٍ او لعوب، وبالتالي تغيب السقالات الاجتماعية الضرورية لتنمية التعقيل في هذه الأسر.
وفي حالة ما إذا كان نقص الاعتبار بقصدية(9 ) الطفل هو السائد ، فان العواقب لا تكون فقط على المستوى الوظيفي ولكن أيضا على مستوى النمو العصبي , إذ يعاني الأطفال من نقص واضح في الوظيفة القشرية في المناطق الحجاجية الأمامية من المخ . فقد أثبتت دراسات أن التعلق غير الآمن ، ولا سيما المشوش والمضطرب ، إذ يرتبط ببطء كبير في العودة الى المستوى الطبيعي للكورتيزول المرتفع بعد الانفصال المحرض . التعرض المزمن لمستويات الكورتيزول العالية المرتبطة ببلادة الرعاية المزمن يمكن أن تسفر عن النمو العصبي الشاذ الذي يؤدي إلى حدوث عجز في القدرة على التعقيل . ويُعتقد أن العنف الذي يمارسه الذكور في كثير من الأحيان له أساس عصبي.
بتطبيق مبادئ نظرية المهارات الديناميكية للنمو والتي وضعها كورت فيشر يمكننا أن نفترض أن سوء المعاملة يرتبط بتجزئة او انقسام التعقيل على المهام والمجالات . وفي الرجال العنيفين لا يتحقق التنسيق الطبيعي للمهارات التي كانت منفصلة سابقاً وبالتالي يبدو التجزؤ تكيفا من الفرد و سائدا على التكامل .
هناك أنواع من العنف مرتبطة دون أدنى شك بفك الارتباط المعنوي الناتج عن فشل التعقيل الشامل . وهناك على الأقل أربعة أسباب لهذه الحالة :
أولا : أن الأفراد اللذين لا يمتلكون إحساسا راسخا بهويتهم ربما يكونون أكثر استعدادا للشعور بأنهم غير مسئولين عن أفعالهم لأنهم في الأصل يفتقدون الإدراك بالوكالة sense of agency (10 ) .
ثانيا : القدرة التعقيلية هي استباق العواقب النفسية عند الآخرين وثالثا , إن القدرة المحدودة للتعقيل قد تجعل الفرد يعامل الآخرين بوصفهم أشياء مادية ورابعا, إن محدودية التعقيل من المرجح ان تتسبب في ميوعة معينة داخل النظام التمثيلي العقلي الذي يمكن أن يؤدي الى تبريرات متحررة . يظهر بعض الذكور العنيفين قدرة ملحوظة على تبرير ممارسات غير مقبولة بوصفها مقبولة .
هناك ضغوط هائلة على الأطفال لتطوير تمثيل للحالات الداخلية قد حذرنا ويني كوت (1967) من أن فشل الطفل في العثور على انعكاس حالته الراهنة ، سيؤدي به على الأرجح لاستيعاب وتمثل حالة الأم الخاصة ، كجزء من تركيبه الذاتي. يدمج الطفل في تركيبه الذاتي الوليد تمثيل لآخر. وعندما يواجه بمقدم الرعاية الخائف أو المخيف ، فان الرضيع يأخذ مشاعر الغضب والكره والخوف عند الأم , إضافة الى صورتها عن الطفل على انه مخيف ولا يمكن السيطرة عليه , بوصفها جزءا منه. هذه الصورة المؤلمة يجب تخريجها وتجسيدها حتى يتمكن من تحقيق تمثيل ذاتي متماسك يمكن له أن يحتمله . سلوك التعلق المشوش للرضيع وعواقبه ـ التسلط والتفاعلات المسيطر عليها مع الآباء ـ تسمح بتجسيد وتخريج أجزاء من الذات وتحد من استمرار اقتحام التمثيل الذاتي . وفي الحقيقة فان الجزء المركزي المتفكك من الذات هو غياب ، وليس محتوى نفسي أصيل . انه يعكس خرقا في حدود النفس ، وبالتالي يخلق انفتاحا على "استعمار" الذات من قبل الحالة العقلية لرمز التعلق. و في حالة بعض الأطفال اللذين يتعرضون لسوء المعاملة في وقت لاحق من النمو ، فان الأمر لن يكون حياديا بل تعذيباً بصورة كارثية . وعندما تتمثل هذه الصورة الغريبة ضمن تمثيل الذات ، فانه لا بد من طردها وتخريجها ليس فقط لأنها لا تتطابق مع الذات البنيوية ، ولكن لأنها اضطهادية. عواقب ذلك على العلاقات الشخصية يمكن أن تكون كارثية.
هذه الأسباب هي جذور التعلق المشوش وذلك لان السلوك المشوش للرضيع يستبدل خلال السنوات الخمس الأولى من عمره باستراتيجيات سلوكية هشة للسيطرة على الآباء سواء كانت عدوانية او سلوكا لا يلاءم عمره. ولان الآباء يخبرون الطفل بوصفه من يملك زمام الأمور فيما هم عاجزين عن توفير الرعاية المناسبة . ومن ثم فان أمهات الأطفال المشوشين يصفن أطفالهن بأنهم نسخا مكررة عنهن , وتخبر نفسها بوصفها مندمجة مع طفلها , وبالتالي فان هذه الخبرات تفسر من خلال جوانب تخريج تمثيل الذات التي لا تتصل بتمثيل الأم للطفل, ولكن بتمثيل الأم داخل ذات الطفل . أيضا يتوافق سلوك الرعاية غير الناضج مع فكرة ان تمثيل الأم قد تجسد أو تطبع في الذات وقد وجدت اغلب الدراسات علاقة بين التعلق المشوش والمستويات المنحرفة من السلوك العدواني .
تخريج صورة تمثيل الأم من داخل التمثيل الذاتي يجعل هذا التمثيل أكثر تماسكا . مثل هذا التخريج يمكن ان يعمل في حالة كانت الأم تحت السيطرة بدرجة كافية حتى يمكن اختار التمثيل الذاتي الدخيل بوصفه خارجي.
هذه الإستراتيجية يمكن أن تعزز ، في مرحلة الطفولة ، من خلال السلوك الهجومي أو التهديد الذي غالبا ما يجبر الكبار على استئناف موقف السلطة ، ومن ثم تنشيط نظام تقديم الرعاية الأبوي الذي تخلى مقدم الرعاية عنه مؤقتا.
الآلية الموصوفة هنا هي مثال لمفهوم التحليل النفسي عن الهوية الاسقاطية ، أو بشكل أكثر تحديدا ، ما أطلقت عليه اليزابيث سبيليوس "الهوية الاسقاطية المذَّكِرَة"( 11) .النمط الفوضوي من التعلق المتجذر في الذات المشتتة . يشعر الفرد عندما يكون الفرد وحده ـ و بسبب التمثيل التعذيبي الذي لا يستطيع الهروب منه لأنه يخبره من داخل ذاته ـ بأنه عرضة لخطر الاختفاء، والدمج النفسي، ويخسر كل تماسك ممكن وكل حدود العلاقة.
في مرحلة البلوغ ، فان التمثيل الذاتي المشوش يواصل ظهوره بوصفه احتياج هائل للسيطرة على الآخرين . يضطر الرجال الذين يمارسون العنف إلى إقامة علاقة تكون فيها وعاء لحالات النفس التي لا تطاق. إنهم يلجئون إلى العنف في بعض الأحيان عندما يهدد الوجود العقلي المستقل للآخر عملية التخريج هذه. في هذه الأوقات ، يضطرون لاتخاذ إجراءات قوية بسبب الرعب من ان التماسك او الذات سوف يتم تدميرها بعودة ما تم تخريجه.
ومن ثم فان أعمال العنف تؤدي وظيفة مزدوجة : إعادة خلق واستعادة خبرة الذات الدخيلة داخل الآخر وتدميرها ,على أمل لا واع بأن تذهب الى غير رجعة. وعندما يلمسون الرعب في عيون ضحاياهم ، فانهم يستعيدون اطمئنانهم . وعليه فان طلب المغفرة التي يقومون به تاليا حقيقي في الواقع، وذلك بسبب الحاجة الماسة إلى وجود علاقة يكون فيها هذا التخريج ممكنا.
يشترك الرجال المعنفين في جملة سمات اكلينيكة (12) فهم مثلا لا يطيقون الوحدة ذلك لأنهم لا يجدون الوعاء الذي يخرجون فيه حالات النفس التي لا تطاق .
ومن السمات الأخرى تصعيد التوتر وثورات الغضب العنيفة من جانب الرجل ، وعادة ما يرافقه اعتراف بالخطأ, ولكن أيضا مع الاعتراف بان الأمر كان خارج السيطرة. يرتبط التهور والاندفاع هنا بعدم القدرة على تمثيل الحالة العاطفية بتماسك , وسرعان ما يدفعهم الخوف من الهجر إلى اتخاذ استراتيجيات مرتكزة على فعل بدني ما قبل تعلقي . إنهم يفقدون القدرة على التأثير على الشريك من خلال تغيير حالتهم النفسية. وهناك نوع من اليأس العقلي المكتسب وأكثر ما يثيره هو الخوف الناجم عن احتمالية فقد وعاء تخريج التمثيل الذاتي . الغيرة القمعية من هؤلاء الرجال ليست تعبيرا عن الحب أو الرغبة ، ولكنها خدعة بدائية للحفاظ على الشريك أسيرا ومتاحا لضبط حالات النفس.
اندلاع العنف عادة ما يسبقه تكثيف القلق من الهجر والسبب في ذلك ـ تبعا للبروفسور فوناغي ـ أن هذه الفترات غالبا ما تتميز بزيادة استقلالية المرأة . التي تركن إلى شعور زائف بالأمان من قبل الشريك نتيجة الندم الذي أظهره في أعقاب المواجهة العنيفة الأخيرة. ولكن ما لا تدركه أن إحساسها النسبي بالراحة والاطمئنان النفسي يشكل تهديدا لا يطاق لشريك حياتها بسبب حاجته إلى تخريج الجزء الدخيل من تمثيل الذات.
ما يعقد الأمور في هذه المرحلة هو أن الرجل يتراجع إلى نمط من التفكير لا يسمح إلا بإمكانية احتمال واحد فحسب . ورفض مجرد وجود احتمال بخطأ اعتقاده . انه يفقد قدرته على "اللعب مع الواقع" وأية محاولة من جانب المجني عليه في تقديم صيغة بديلة للحدث ينظر إليها على أنها بادرة استفزازية أو محاولة لتقريبه من الجنون. يتفاقم الامتلاك الجنوني بسبب هذا المنظور المتفرد الجامد. هذه الخبرة البدائية للحقيقة النفسية التي تساوي الداخل بالخارج تستثير قلقه المتصاعد المرتبط بالانفصال العقلي. الأفكار الوهمية بان شريكته قد تغيرت في الشكل والمظهر ، ولم تعد ( ملكه ) تثير موجات غضبه العارم فيضطر الى إجبارها على العودة الى دور الرضيع الخائف وقبول صورة الأم الخائفة او المخيفة لذلك لا بد : "أن يلقنها درسا لا تنساه ".
غالبا ما تكون بواعث العنف عرضية ، ولكن لا يمكن تجنبها ، إنها أي مؤشر آخر على الانفصال النفسي للمرأة فقد تكون تصفيفه الشعر الجديدة ، او ملاحظة عابرة تعرب فيها عن اهتمامها بأي شخص آخر غير الشريك أي شيء للمرأة يمكن أن يذكر الرجل بأنها إنسانة في حد ذاتها (كما هي في الواقع وكما ستظل دائما). وسواء بقيت صامتة ، أو تكلمت فإنها يمكن ان تذكر المعتدي بقصديتها.
هناك جانب آخر للصورة الإكلينيكية للرجال اللذين يمارسون العنف تتمثل في الحرمان الامومي . كما وجد ان للحرمان الأبوي دورا لا يقل أهمية إضافة الى ان عدوانية الأب تلعب دورا هاما في تاريخ الرجال اللذين يمارسون العنف . يلعب الأب دورا أساسيا في تقديم وجهة نظر الشخص الثالث ضمن علاقة الطفل المشوش ومقدم الرعاية . ولكن من الواضح ان غياب الأب او سلبيته لا تسبب عدوانية الرجل بدون اختلال مسبق في نظام التعلق على نحو ما ذكرناه سابقا .و بلا شك سيكون سلوك الأب عاملا مساهما في ترسيب السلوك العنفي المستقبلي .
تأخذ الأمور بعدا يتجاوز الحرمان فقد يمارس القائمون على الرعاية الاهانة والتحقير والعقاب العشوائي بحق الصغير . وبسبب ان القدرة العقلية للصغير هشة أصلا نتيجة للتعلق المشوش والتركيب الذاتي المشوش المصاحب, فان الصغير لن يتحمل الاهانة الوالدِّية. تخلق الرعاية الخائفة او المخيفة هوة او نافذة مفتوحة ضمن بنية الذات يمكن لعدوانية الأب نحو الطفل ان تقوم بملئها مستقبلا وبالتالي فان هذه العدوانية واللا عقلانية والرعب ستختبر ضمن الذات أيضا . ليس من السهل بعد ذلك تخيل اليأس الذي سيجذره ذلك في الذات.
ولان الطفلة الأنثى يمكن ان تتعرض لذات المعاملة في طفولتها ,وبالتالي تظهر السمات النفسية ذاتها . إلا ان الحالة المرضية تتطور بشكل مختلف فيما بعد . تميل النساء اللاتي تعرضن الى سوء المعاملة والى علاقات تعلق مضطربة في طفولتهن الى محاولة الانتحار او إلحاق الأذى بأنفسهن . إنهن يطورن علاقات عنف مضطربة مع أبدانهن يمكن مقارنتها بعلاقة العنف المشوش التي يمارسها الرجال ضد النساء على أمل ان يتمكن من تحطيم الذات الدخيلة على ذواتهن
ويمن القول ان البناء الاجتماعي الذي نعيش فيه يقود الرجال الى طريق مختلف عن النساء بحيث يصبحون معتدين لا معتدى عليهم يعذبون الآخرين ولا يتعذبون.
كلا الفريقين ضحايا بنية اجتماعية لا تدعم العائلات ولا وظيفة الأبوة بما فيه الكفاية ,لتمكيننا من تقديم الرعاية الكافية للأطفال واليافعين ، كما أنها لا تقدم هياكل اجتماعية بديلة يمكن ان تساعد الأطفال على التوصل إلى التعرف على الذات من خلال التبادل الاجتماعي القائم على الخيرية وليس الربحية .
إن البنية الاجتماعية الحالية تركز بشكل أكثر وحشية على التميز ، والنزعة الفردية ، وتحقيق الأنانية ، الجانب الأكثر هشاشة في الفرد الذي يعاني من تعلق مضطرب ومشوش . ويعتقد البروفسور فوناغي أن التعلق غير المنظم وما يرتبط به من تعقيدات في التنظيم الذاتي يمكن أن يحدث ، على الأقل جزئيا ، بسبب ان المجتمع قد تخلى عن وظيفته في الرعاية ، وأهمل مؤسساته الداعمة للتنمية العاطفية ، والتي تحولت أولوياتها من الاهتمامات العقلية والعاطفية الى الاهتمامات المادية . الأمر اتضحت عواقبه بازدياد ضحايا العنف المتصاعد من حولنا . مشكلة العنف بين الذكور ضد الإناث لا يمكن أن تعالج معالجة كافية من دون التزام حقيقي برصد الموارد الكافية من أجل الوقاية ، وبتقديم الدعم الكامل للآباء والأمهات والأطفال الصغار ، وإعادة النظر جذريا في الأولويات الاجتماعية في اتجاه مقاربة اجتماعية وتربوية ترتكز على تنمية العلاقات التعاطفية في الأسرة والمجتمع .
هوامش:
1. ينظر : Male Perpetrators of Violence Against Women, An Attachment Theory Perspective, Peter Fonagy, Ph.D.
-
ينظر:التدخل العلاجي للتلاميذ ذوى الصعوبات الانفعالية والسلوكية في البيئة المدرسية وخارجها,أ.د/ عبد الرقيب أحمد إبراهيم البحيرى أستاذ التربية الخاصة ورئيس قسم علم النفس كلية التربية – جامعة أسيوط
3. ينظر : سيكيولوجيّة الانفصال (جون بولبي) ترجمة عبد الهادي عبد الرحمن
-
ينظر:Attachment, the development of the self and its pathology in personality
-
التعقيل هو مفهوم نفسي وظفه البروفسور بيتر فوناغي لوصف القدرة على فهم الحالة العقلية للذات والآخرين استنادا على السلوكيات الظاهرة . ينظر فوناغي الى التعقيل بوصفه شكلا من النشاط العقلي التخيلي الذي يسمح لنا بادراك وتأويل السلوك الإنساني من خلال الحالات العقلية المتعمدة ( الحاجات , الرغبات, المشاعر, والمعتقدات, والأهداف, والأغراض, والأسباب).
-
ينظر: العنف الأسري :تأليف د / علي إسماعيل عبد الرحمن, مدرس الطب النفسي والأعصاب بطب الأزهر
7. . ينظر Paper to the Developmental and Psychoanalytic Discussion Group, American Psychoanalytic Association Meeting, Washington DC 13 May 1999, Pathological Attachments and Therapeutic Action, Peter Fonagy, PhD, FBA)
8. ينظر : Male Perpetrators of Violence Against Women, An Attachment Theory Perspective, Peter Fonagy, Ph.D.
-
القصدية : مصطلح وضعه جيرمي بينثام لوصف مبدأ النفعية في بحثه عن الوعي بغرض تميز الأفعال القصدية المتعمدة عن غيرها وقد وظف المصطلح بعد ذلك من قبل ادموند هوسرل عندما أوضح أن الوعي دائما ما يكون متعمدا وقصديا , هذا المفهوم الذي يتصل بطروحات فرانز برينتانو بشأن الحالة الوجودية والنفسية للأشياء في الفكر . وفي قاموس أكسفورد جاء تعريف المفهوم بأنه " الخاصية المميزة للظواهر العقلية التي توجه بالضرورة نحو كائن ما سواء كان حقيقيا او وهميا"
-
إدراك الوكالة : تشير الى الشعور الذاتي بأن المرء مبادر ومنفذ ومسيطر على أفعاله في العالم . إنها خبرة ما قبل انعكاسية او إدراك صريح بأنني انا موضوع التفكير أو الحركة .
-
نحتت اليزابيث سبيليوس هذا المصطلح عام 1994 بإضافة الصفة " evocatory" بمعنى تحريضي او تذكيري لمصطلح كلاين الهوية الاسقاطية وذلك بغرض وصف نوع من الإسقاط يكون فيه المتلقي تحت ضغط الاضطرار الى تمثيل المشاعر الملائمة لأوهام المسقط .
12. ينظر : Paper to the Developmental and Psychoanalytic Discussion Group, American Psychoanalytic Association Meeting, Washington DC 13 May 1999, Pathological Attachments and Therapeutic Action, Peter Fonagy, PhD, FB
تم النشر في 8/3/2010