مهد الثقافات والحضارات
«تعال... تعال أيا كان اعتقادك.. تعال.. هي عتبة سنتجاوزها معا حتى ولو كنت أخللت بالتزامك وتعهدك وتخليت عن قسمك تعال...» انه لسان حال مدينة قونية ذات الأراضي الخضراء المنبسطة التي احتضنت جلال الدين الرومي رمز التسامح بين العرب والعجم.
ومع حلول شهر ديسمبر (كانون الأول) من كل عام تملؤها حفلات «السما» التي يحييها مئات الدراويش الدوارين بطرابيشهم الطويلة، وملابسهم البيضاء، ونظراتهم المشدودة إلى السماء، في أجواء روحانيه فريدة ، قونية مدينة قوامها مزيج من الحضارات والثقافات العربية والرومانية والعثمانية، وفيها يستمتع المسلمون بنفحات التصوف، وتحج قلوب المسيحيين حول كنائسها العتيقة.
تحمل قونية الساكنة في جنوب غربي تركيا تاريخاً عظيما تحكيه للأجيال الجديدة، فلقد كانت ولا تزال من أهم واكبر المدن في تركيا ، سيطر عليها أهل ليديا في القرن السادس ق.م، والفرس في الرابع ق.م، والإسكندر وسلوكوس، ومملكة «برغاما» في القرن الثاني ق.م، والروم عام 395 ق.م، والساسانيون في أوائل القرن السابع، والأمويون بقيادة معاوية بن أبي سفيان .
ثم ظلت قونية من محافظات البيزنطيين حتى القرن العاشر، ومع دخول العرب المسلمين لها بعدما فتح باب الأناضول للأتراك المسلمين، بنيت الدولة السلجوقية الأناضولية عام 1074م، وكانت عاصمتها مدينة «إزينك» عام 1097م، في الحملات الصليبية، أصبحت قونية عاصمة السلاجقة حيث بلغت ذروة مجدها وزينت بالآثار المعمارية وأصبحت من أعمر المدن في الأناضول.
وقد حاصرها الامبراطور الألماني «فريدريك بربروسا» عام 1190م لكنه لم يظفر بها وظلت تحت سيطرة السلاجقة حتى تولى حكمها بنو قرامان، ثم آلت إلى الأتراك العثمانيين عام 1467م. تعتبر قونية أو «قونية» كما هو متداول ، من أقدم المدن التاريخية، ويرجع تاريخها إلى نحو 7000عام ق.م، وفي مركز «تشاتالهويك» على حدود قونية بدأ طبخ الطعام، وتم اكتشاف كثير من الآثار التاريخية مثل تمثال الملكة «كبَلة» والمعروض في متحف الآثار القديمة.
وفي غرب قونية تقع مدينة «كليستراي»، التي تملؤها الكنائس الصغيرة المنحوتة في الجبال وبها صهاريج كان يعصر فيها العنب في وادي «سوغوتلو».
ومن المزارات التي تتميز بها قونية «ينبوع أفلاطون» وهو عبارة عن حوض أبعاده 30 مترا مع 40 مترا، ويوجد أمام الينبوع نصب يمثل الآلهة التي تحمل السماء وهو يعبر عن ارتباط السماء بالأرض، ومن هذه الآلهة إله العاصفة وإله الشمس وإله الجبل وإله الينبوع .
ومن أشهر معالم قونية السياحية النصب التذكاري «فاصللار» ويعد من أكبر الأنصبة التذكارية في العالم، ويتوسط معبد في الجبل بين أسدين، ويعود للفترة البيزنطية. ومن الأماكن التي تستحق الزيارة نصب «إيفريز» الذي يقع على حدود مدينة قونية، ويعود إلى مملكة «توانا» قبل نحو ألفي عام قبل الميلاد، وهو نصب محفور بين الصخور وحوله عيون ساحرة من الماء، تشعر حين تقترب منها بالسكينة والاسترخاء. ولاتفوتك زيارة قصر «سرايا» أو «كوبادآباد» الذي أمر ببنائه السلطان السلجوقي علاء الدين كيكوباد غرب «بيشهير»، وبالأخص في شمال بلدة «قول يكا» وشيده المعماري «سعد الدين كوبك» أمير الصيد في ذاك الزمان. وقد زينت جدرانه بزخرفة هي خير مثال على فن الزخرفة السلجوقية.
تمتلئ قونية بعدة بحيرات خلابة، أروعها وأجملها بحيرة «مكا» بموقعها الفريد وسط الصحراء، وهي تنساب في شكل دائري وتتوسطها تلة مرتفعة من الصخور البازلتية الرمادية.
وتفيض عن هذه التلة ثلاث تلال صغيرة، وكل أطراف البحيرة مغطاة بالرماد الأسود الغامق.
ولا يتجاوز عمق البحيرة 12 متراً، وماؤها المالح يتكون من الماغنيزيوم والصوديوم.
كما تخلبك بحيرة «أوبروك» التي تغير لونها بتغير ساعات اليوم ويبلغ عمقها 145 مترا، وإذا أردت مشهدا لا ينسى للغروب فعليك المرور على بحيرة «بيشهير» التي لا مثيل لها فخلفيتها من الجبال المتصلة وتحفها الشجيرات من كل اتجاه.
ومن أكبر البحيرات «طوز» وهي التي تغطي احتياجات تركيا من الملح بنسبة 30%. واذا أردت التمشية والاستمتاع بالهواء المنعش النقي فاذهب إلى بحيرة «ميرام» التي تبعد عن المدينة بحوالي 7 كم وتغنى بها الشعراء.
ومن الاماكن الممتعة للنظر شلال «يَركوبرى» الذي يوجد بنهر «كَوَكْصو» في سهول «طوروس» الغنية بالمصادر والينابيع الطبيعية.
تأثرت قونية بروح وفلسفة جلال الدين الرومي وأفكاره التي جعلت منها مدينة للسلام والطمأنينة، وطاقة نور للإنسانية.
فإذا كنت في قونيه فزيارة متحف «مولانا» على رأس خططك، هذا المتحف كان قديما حديقة ورد للقصر السلجوقي للسلطان «علاء الدين كيكوباد» الذي أهداه إلى والد جلال الدين الرومي «بهاء الدين ولد» الملقب بسلطان العلماء.
توفي جلال الدين الرومي في يوم 17 كانون الأول 1273، وأصبح قبره مزاراً، وأمر الوزير السلجوقي «أمير بروانة» بأن تبنى على قبره قبة مخروطية خضراء مزخرفة بالخزف، والتي بناها التبريزي وهي تضم جثمان الرومي وقبور خلفائه، وكل قبر مغطى بقماش سميك مطرز بالذهب تعلوه عمامة بيضاء كبيرة.
كما يوجد صندوق صدفي صغير، يقولون إن فيه بعض بقايا نفيسة من شعر لحية النبي، مما يجعل للمكان قدسية من نوع خاص في تركيا. وكان يسمى المزار في البداية «متحف قونية للآثار العتيقة» وفي عام 1954 سمي «متحف مولانا» وتدخل فناء المتحف من باب الدراويش وستجد في شمال وغرب المتحف غرف الدراويش والتي بنيت في عهد السلطان مراد الثاني سنة 1584م.
وهناك غرفتان تحتويان الأوسمة والمقتنيات الأصلية لقارئي «المثنوي» أشهر كتب جلال الدين الرومي، والغرفتان الأخيرتان توجد فيهما كتب المرحوم عبد الباقي قولبنار، والدكتور محمد أوندر وفي جنوب المتحف يوجد المطبخ، الذي أعيد بناؤه سنة 1990 بالجهود الذاتية.
وبعد المطبخ وقبر هُرم باشا، يوجد باب هاموشان الذي يفتح على المقبرة في وسط الحديقة، كما يوجد «سماخانة» والتي بنيت في عهد السلطان العثماني سليمان القانوني وأصبحت متحفا عاما 1926م، ويوجد بها كرسي النعت ومقاعد الموسيقيين على شكلها الأصلي وكافة آلات الموسيقى المولوية.
وفي الفناء توجد فسقية عملها السلطان العثماني «ياووز سلطان سليم» عام 1512م ويوجد شمال الفناء أيضا حوض «شب عروس» أو «ليلة العرس»، ونافورة السلسبيل.
وإلى جانب «السماخانة» يوجد باب مصنوع من الخشب يفتح على غرفة التلاوة وهذه الغرفة تحتوي على لوحات قيمة للخط. قام «ابن صُكولو محمد باشا» وهو «حسن باشا» عام 1599 بعمل باب فضي يوصل إلى قبر مولانا وأقربائه يسمى «حضور البير». وتعرض نسخ قديمة من كتابه «الديوان الكبير».
وفي القبر نجد الرسومات الخطية والنباتية والتزيينات الهندسية، كذلك يمكنك رؤية قبرين مزخرفين بالمرمر الصيني، الأول قبر «مظفر الدين أمير عالم جلبي» والآخر لحفيد مولانا «جلالة خاتون» وهنا يليه قبر «حسام الدين جلبي»، وبنت مولانا «مليكة خاتون» وقبور لرجال خرسان.
وفي التكايا على أحد أطرافها يوجد مسجد وفي الطرف الآخر تقع مقبرة، غطاء القبر مزين بشكل خطوط ونقوش تجسد لوحة فنية. وعلى بعد كليو متر واحد، يوجد مركز مولانا الثقافي ويقع على مساحة 100 ألف كم مربع، وهو يستوعب كل الأنشطة وتقام به حفلات «السما». ويقام احتفال سنوي تأبينياً لمولانا وهو من أكبر الاحتفالات الدينية كل عام.
ومن المزارات أيضاً تل علاء الدين وجامعه، وهو الشخص الذي دعا الرومي إلى قونية وكان قائدا عسكريا ماهراً وفناناً، ومن الآثار التي ارتبطت باسمه قلعة علاء الدين وجامعه الذي بني على الطراز السلجوقي والذي يقع شمال التل.
وبني هذا الجامع والقلعة على جدران ضخمة ولم يبق من هذه القلعة إلا جدار واحد. لكن الجامع ما زال محتفظا بطرازه المعماري، حيث شيد في عصر السلطان «ركن الدين مسعود»، واستكمل بناؤه على يد السلطان «علاء الدين كيكوباد» الأول سنة 1221م. ومنبر الجامع فريد من نوعه فقد بني عام 1155م من خشب الأبنوس المضفر بدون مسامير، ويضم الجامع 41 عمودا مرمريا تعود للعهد البيزنطي.
والمحراب مصنوع من الخزف والمرمر الصيني وفوقه قبة مغطاة بالمرمر، ويقال أن جلال الدين الرومي قد وعظ فيه، وبجانب الجامع توجد مقبرة فيها جثامين السلاطين السلاجقة الثمانية. وفي غرب الجامع توجد مدرسة «إينجة منارة» أو المنارة الضيقة المشيدة عام 1254م لتعليم علم الحديث، ومنحوت على بوابتها الرئيسية سورتي «يس والفتح» بالخط الثلث السلجوقي.
وبالقرب منها توجد مدرسة «قرطاي» التي بناها جلال الدين قرطاي عام 1521م وهي تحتوي على آثار خزفية على الطراز السلجوقي. كذلك تعتبر مدرسة «صرجالي» من الآثار البارزة وهي تضم كل المقابر ذات القيمة الفنية مرتبة حسب طرق الكتابة عليها.
ومن المساجد المهمة أيضاً صدر الدين القنوي وضريحه، بني عام 1274م وكان القنوي من العلماء المعروفين في علوم الحديث وهو من الشخصيات المهمة في تاريخ التصوف وكانت له محاورات مع الرومي، وقبره من القبور المفتوحة النادرة فجسم القبر مفتوح وقاعدته مرمرية وسقفه خشبية.
ولكي تكتمل أجواء التصوف الروحانية عليك بزيارة مقام الشيخ شمس التبريزي واسمه الأصلي «مولانا محمد» وهو يعتبر من الأماكن التي تزار قبل مسجد الرومي، وهو من جعل الرومي عاشقا للعلم، ويعود المقام للقرن الـ 13. كذلك من المزارات المهمة كلية وجامع «صاحب العطاء» وهو عبارة عن مسجد ومدرسة وحمام، أيضا مسجد «إبلكجي» أو بائعي الخيوط، وسمي بهذا الاسم لانه يوجد بين سوق بائعي الخيوط.
ومسجد عزيزية المبني بأحجار قودنة المقطعة ليعتبر آخر مثال للمعمارية العثمانية على طراز «باركوا التركي»، وسمي بذلك لأن والدة السلطان «عبد العزيز» أمرت ببنائه بعد احتراق مسجد الشيخ أحمد الذي كان موجودا في نفس المكان.
وهناك مسجد «شرف الدين» المغطى بالنقوش والخطوط الإسلامية، ومسجد «السليمية» وهو يقع غرب موقع مولانا وبناه السلطان سليم عام 1567م، وجامع «الباب» أو «كابو» ويقع على شارع التوفيقية وهو على حدود قلعة قونية القديمة، وكتب على مدخل الجامع التاريخ التأسيسي له عام 1285 هـ. أما مسجد «حاجي ويس زاده» فهو يتسع لـ 10 آلاف مصل وله منارتان بثلاث شرف وطولها 68 متراً.
وجامع «أشرف أوغلو» وبني بناء على طلب السلطان السلجوقي «سنجر» عام 1134م، وهو من أهم الآثار التاريخية. كذلك تعج قونية بالآثار المسيحية، ومنها كنيسة «آيا ألنا» في حي سيلا وتعتبر من المراكز الأولى للمسيحيين والتي قدمت إليها والدة الإمبراطور البيزنطي قسطنطين «هيلينا» عام 327م خلال رحلتها إلى القدس بهدف الحج وقررت إنشاء معبد للمسيحيين.
واذا كنت في قونية لا بد أن تزور «جحا» الشخصية الفلسفية الفكاهية، فقد ولد نصر الدين حُجا الشهير بـ«جحا»، في سوري هصار وجاء إلى آكشهير وتوفي في قونية، وكان عندما يضحك الناس يجعلهم يتفكرون في موضوع النكتة، ويقع قبره في شرق سوق أكشهير وهناك تمثال ضخم يمثل جحا بقبعته المضحكة، وعلى طرف رأس القبر توجد قطعة حجرية من المرمر منقوش عليها تاريخ وفاة هذا العالم سنة 683هـ وللفكاهة كتب 386 هـ . ومن الأضرحة الشهيرة أيضا «آتش باز ولي»، و«قومج خاتون»، و«علي قاو».
ولا بد أن تضم جولتك في قونية زيارة لخان «زازادن» الذي بناه الوزير «سعد الدين كوبك» عام 1236م، هذا الخان بني بشكل يتناسب مع موسمي الصيف والشتاء، وطول الخان 104 م، وعرضه 62م، وفي البناء الحجري توجد بعض الآثار للحضارات الموجودة قبل الاسلام المنقوشة على هذه الأحجار ويقع على طريق قونية ـ أقصراي في الكيلو 25، وعلى نفس الطريق يقع خان «أوبروك»، وفي طريق قونية ـ أنقرة في الكيلو 8 يوجد خان «حُروزلي» وبني عام 1248.
وقد اشتهرت تركيا بالحمامات الشعبية والتي لا يزال الكثير منها بقونية ويعمل حتى الآن ومنها «حمام السلطان» وهو يقع في شارع لارندة وهو تابع لكلية السلطان صاحب العطاء، وهناك «حمام محكمة» ويقع بين جامع شرف الدين وجامع التبريزي. أما «حمام مرام» وهو يقع في مخرج الجسر التاريخي وهو قبلة للسياح.
وتضم قونية متاحف أثرية مثل متحف قونية للآثار الذي افتتح عام 1901م وهو يضم آثار عصر الحديد والحضارات الرومية والبيزنطية، والتوابيت الحجرية في عهد الروم، وفسيفساء تعود للقرن السادس. كذلك يضم متحف «الإثنوجرافيا» مختبرا للصور ومخازن آثار وصالة عرض كبيرة.
أيضا تضم «مكتبة ومتحف عزت قيون أوغلو»، حيث تضم المكتبة عددا قيما من الكتب والمخطوطات والآثار الثقافية والاجتماعية. كذلك مكتبة «يوسف أغا» في غرب جامع السليمية وقد بنيت عام 1795م وهي مكتبة غنية بالمخطوطات تفتح أبوابها للباحثين عن العلم والمعرفة.
ولا بد من زيارة «متحف أتاتورك» الواقع في شارع أتاتورك والذي بني عام 1912م، ويضم ملابس مصطفى كمال أتاتورك، ومجموعة من الصور والجرائد والوثائق التي تجسد حرب الاستقلال.