شهد القطر الأندلسي على مر عصوره ازدهارا كبيرا في شتى العلوم والفنون التي من جملتها الأدب، حيث برز في هذا الفن جملة من الأدباء والشعراء، فاقوا غيرهم في نظمه ونثره. وحق لمن أراد أن يقف على هذه الحقيقة، ويطلع على صدقها أن يطالع كتاب: (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) للعلامة المقري التلمساني المالكي، المتوفى سنة:1041، حيث عطر كتابه هذا بذكر جملة صالحة من الشخصيات العلمية والأدبية، ممن أظلتهم دوحة الأندلس، حتى قيل: "كتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وكلام وزيرها لسان الدين ابن الخطيب الذي من لم يقرأه فليس بأديب". وذلك لاشتمال الكتاب على جملة من الآثار الأدبية الرفيعة، سواء منها المنظوم أو المنثور، ولاشتماله كذلك على جملة وافرة من الشخصيات الأدبية الأندلسية، التي عز أن يجود بمثلها الزمان.
وقد شغلت قضية قيمة الأدب الأندلسي بال كثير من الأدباء والكتاب، على مر العصور، وذلك لانصراف الناس وخصوصا أهل الغرب منهم إلى أدب أهل المشرق، نابذين وراء ظهورهم تراثهم الأدبي الزاخر، ولتجاهل كثير من أهل المشرق لإخوانهم من أهل المغرب، وإنكار الكثير منهم لكثير من مزاياهم، مما دفع كثيرا من الأدباء والكتاب إلى التأليف لمعالجة هذه القضية، ومن هؤلاء الأديب الألمعي ابن بسام الشنتريني الذي ألف كتاب: (الدخيرة في محاسن أهل الجزير)، الذي يبين فيه تفوق أهل الأندلس، ونبوغهم في هذا اللون من الفنون، حيث يقول رحمه الله: " فإن ثمرة هذا الأدب العالي الرتب، رسالة تثر وترسل، وأبيات تنظم وتفصل.. وما زال في أفقنا هذا الأندلسي القصي إلى وقتنا هذا من فرسان الفنين، وأئمة النوعين، قوم هم ما هم طيب مكاسر، وصفاء جواهر، وعذوبة موارد ومصادر، لعبوا بأطراف الكلام المشقق، لعب الدجى بجفون المؤرق، وحدوا بفنون السحر المنمق حداء الأعشى ببنات المحلق..إلا أن أهل هذا الأفق أبوا إلى متابعة أهل الشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة، رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طن بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثو على هذا صنما، وتلوا ذلك كتابا محكما.. فغاظني منهم ذلك، وأنفت مما هنالك، وأخذت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري، وتتبع محاسن بلدي وعصري، غيرة لهذا الأفق الغريب أن تبدو بدوره أهلة..وقديما ضيعوا العلم وأهله، ويا رب محسن مات إحسانه قبله، وليت شعري من قصر العلم على بعض الزمان، وخص أهل المشرق بالإحسان".[1]
واضح من خلال هذا النقل أن ابن بسام أراد بوضع (الذخير)، وجمع ما تضمنه من رائق المنظوم والمنثور، أن يبصر أهل الأندلس بتفوق أدبائهم، وروعة إنتاجهم، وأن الإحسان ليس مقصورا على أهل المشرق.
ومن الواضح أيضا أن ابن بسام أراد أن يعارض بكتابه في محاسن أهل الجزيرة أي جزيرة الأندلس، أديب المشرق الكبير أبا منصور الثعالبي صاحب كتاب: (يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر)، (فالذخيرة) و(اليتيمة) صنوان، يدعوا كل منهما إلى تذوق محاسن آداب قطره وعصره.
وكان المقري التلمساني من المغاربة الذين أحسوا مدى إهمال المشارقة للتراث الأندلسي والمغربي، "وكان ذلك الإهمال في القديم للاعتداد بالثقافة المشرقية، أما في عصر المقري فلضعف الثقافة عامة، وحسبك أن تجد لسان الدين ابن الخطيب- وهو من هو في المغرب والأندلس- محتاجا إلى من يعرف المشارقة به، ويحدثهم عن أخباره".[2]
لذلك كان المقري من خلال كتابه: (نفح الطيب) يريد أن "يحقق تبيان الصلة الثقافية بين المشرق والمغرب، ولهذا خصص جزء من كتابه للرحلتين: رحلة المغاربة إلى الشرق، ورحلة المشارقة إلى الأندلس والمغرب، وكأنه في مقدمة الكتاب وفي بعض فصوله الأخرى سجل طرفا من رحلته..وبذلك أسعفه مؤلفه هذا على أن يحقق ما قد نسميه (نزعة مغربية)، وهي نزعة لا تقتصر على الرحلة، وإنما كانت تشتمل على نقل التراث المغربي الخالص والأندلسي إلى المشارقة".
ونجد بعض الكتاب المعاصرين وفي طليعتهم الأستاذ عبد الله كنون قد أثار هذه القضية في مقدمة كتابه: (النبوغ المغربي في الأدب العربي)، حيث أشار إلى عتب الأدباء في المغرب على إخوانهم في المشرق لتجاهلهم إياهم، وإنكار مزاياهم الأدبية، وألقى باللائمة على "أولئك الذين ضيعوا أنفسهم، وأهملوا ماضيهم وحاضرهم، حتى أوقعوا الغير في الجهل بهم، والتقول عليهم..(قال) ونحن نعتقد أننا بتقديم هذا الأثر الضئيل[3] إلى الدوائر العلمية سنزيل كثيرا من التوهم والتظنن في تاريخ الأدب المغربي، وسنرفع حجاب الخفاء عن جانب مهم من الحياة الفكرية لأهل هذا القطر، وسينقضي تجني إخواننا من بحاث المشرق على آثارنا، وتحاملهم على آذابنا، لأن ذلك لم يكن منهم عن عمد، وسوء قصد، وإنما عن ارتياب واجتهاد".[4]
فهؤلاء الأدباء أرادوا من خلال هذه الكتب التي صنفوها أن يبينوا لأهل المشرق وغيرهم أن لدينا تراثا أدبيا مغربيا أندلسيا، له ميزاته وخصوصياته، لكن أهله لم ينزلوه مكانته اللائقة به، ولم يحتفلوا بجماله ورعته، بل جعلوه عرضة للضياع والتجاهل.
هذا وإن بعض الكتاب[5] قد جعل القرن الثامن الهجري في الأندلس وخصوصا في مملكة غرناطة، بالنسبة لدولة التفكير والأدب، عصر النضج والإزدهار، وفيه ظهرت طائفة من أكابر المفكرين والشعراء، الذين أعادوا روعة الأدب الأندلسي، في أعظم عصوره، مثل ابن سلبطور الهاشمي، وابن خاتمة الأنصاري شاعر ألمرية، والوزير أبو عبيد الله بن الحكيم اللخمي، والوزير أبو الحسن بن الجياب، وابن جزي، والوزير ابن زمرك، وأبو سعيد بن لب، وغيرهم ممن حفل بهم هذا العصر، وزخرت دولة التفكير والأدب بآثارهم، التي انتهى إلينا منها الكثير.
وكان من بين هذا الحشد الحافل الوزير لسان الدين ابن الخطيب، فقد عد أعظم شخصية ظهرت في الأندلس في القرن الثامن الهجري. فمن هو لسان الدين ابن الخطيب؟.
التعريف بابن الخطيب وآثاره الأدبية:
1-ترجمته:
تقدم أن ابن الخطيب هو أعظم شخصية ظهرت في الأندلس في القرن الثامن، وكان عبقرية متعددة النواحي، فهو طبيب وفيلسوف، وهو كاتب وشاعر من الطراز الأول، وهو مؤرخ بارع، وهو أخيرا وزير وسياسي، ثاقب النظر، قوي الإدراك.
وقد ترجم لنفسه ترجمة حافلة في آخر كتابه: (الإحاطة في أخبار غرناطة)، حيث يقول رحمه الله في التعريف بنفسه: "محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن علي بن أحمد السلماني، قرطبي الأصل، ثم طليطليه، ثم لوشيه، ثم غرناطيه، يكنى أبا عبد الله، ويلقب من الألقاب المشرقية بلسان الدين..يعرف بيتنا في القديم ببني الوزير، ثم حديثا بلوشة ببني الخطيب".[6]
وترجم له بما لا مزيد عليه أحد المعجبين به، وهو: المقري التلمساني في كتابه: (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب)، "وكان في البداية يزمع أن يسمي كتابه هذا: (عرف الطيب في التعريف بالوزير ابن الخطيب)، فلما رأى أن المادة التي اجتمعت لديه قد استفاضت بحيث شملت تاريخ الأندلس وأدبها غير اسم الكتاب وجعله: (نفح الطيب..)".
يقول رحمه الله في حق ابن الخطيب: "هو الوزير، الشهير الكبير، لسان الدين الطائر الصيت في المغرب والمشرق، المزري عرف الثناء عليه بالعنبر والعبير، المثل المضروب في الكتابة والشعر والطب، ومعرفة العلوم على اختلاف أنواعها، ومصنفاته تخبر عن ذلك، ولا ينبئك مثل خبير، علم الرؤساء الأعلام، الوزير الشهير الذي خدمته السيوف والأقلام، وغني بمشهور ذكره عن مسطور التعريف والإعلام، واعترف له بالفضل أصحاب العقول الراجحة والأحلام".[7]
وممن ترجم له كذلك معاصره وزميله عبد الرحمن بن خلدون في كتابه: (العبر وديوان المبتدإ والخبر..)، المشهور ب(تاريخ ابن خلدون)، وأثنى عليه ثناء جما، ووصفه بالعلم والأدب وغيره، كما وصف لنا أيضا مأساة مصرعه المؤثر.
يقول ابن خلدون في التعريف به: "أصل هذا الرجل من لوشة، على مرحلة من غرناطة ..كان له بها سلف معروفون في وزارتها، وانتقل أبو عبد الله إلى غرناطة، واستخدم لملوك بنى الأحمر، واستعمل على مخازن الطعام".[8]
وكل من ترجم له يصفه بالذكاء والنباهة والتقدم في شتى الفنون، وخاصة الأدب بنوعيه الشعر والنثر.
وقد خلف لنا هذا الأديب الكبير تراثا ضخما من أنواع العلوم والفنون، وأتحف المكتبة الإسلامية بأنواع المصنفات الجيدة التي تدل على توقد ذهنه، وشدة ذكائه. وملاحة مصنفاته جعلت الأدباء يعترفون له بالرئاسة والتقدم.
ونذكر من مصنفاته على سبيل الإجمال لا الحصر: (الإحاطة في أخبار غرناطة)، (كناسة الدكان بعد انتقال السكان)، (أوصاف الناس في التواريخ والصلاة)، (الزواجر والعظات)، (الكتيبة الكامنة فيمن لقيته بالأندلس من شعراء المائة الثامنة)، (رقم الحلل في نظم الدول)، وغيرها كثير، لا يسع المجال لذكرها.
غير أن التقلبات السياسية التي طبعت عصر ابن الخطيب، وخلافه مع ابن الأحمر (الغني بالله)، ثم اتصاله ببني مرين في المغرب، جعلت المؤامرات تحاك ضده، وسيوف الغدر تشهر في وجهه، فانتهت بمصرعه، وذلك سنة 776هـ.
ويصف ابن خلدون في تاريخه مأساة مصرعه الأليم قائلا: "ودس سليمان بن داود (وزير السلطان أحمد بن السلطان أبي سالم، وكان من ألد أعدائه) إليه لبعض الأوغاد من حاشيته بقتله، فطرقوا السجن ليلا، ومعهم زعانفة جاؤا في لفيف الخدم مع سفراء السلطان ابن الأحمر، وقتلوه خنقا في محبسه، وأخرجوا شلوه من الغد، فدفن في مقبرة باب المحروق، ثم أصبح من الغد على شأفة قبره طريحا، وقد جمعت له أعواد، وأضرمت عليه نار فاحترق شعره واسود بشره، وأعيد إلى حفرته، وكان في ذلك انتهاء محنته، وعجب الناس من هذه السفاهة التي جاء بها سليمان واعتدوها من هناتة، وعظم النكير فيها عليه وعلى قومه وأهل دولته، والله الفعال لما يريد، وكان عفى الله عنه أيام امتحانه بالسجن يتوقع مصيبة الموت، فتجيش هواتفه بالشعر يبكى نفسه، ومما قال في ذلك:
بعدنا وإن جاورتنا البيوت وجئنا بوعظ ونحن صموت
وأنفسنا سكنت دفعة كجهر الصلاة تلاها قنوت
وكنا عظاما فصرنا عظاما وكنا نقوت فها نحن قوت
وكنا شموس سماء العلا غربن فناحت علينا البيوت
فكم خذلت ذا الحسام الظبا وذو البخت كم جدلته التخوت
وكم سيق للقبر في خرقة فتى ملئت من كساه التخوت
فقل للعدا ذهب ابن الخطيب وفات ومن ذا الذي لا يفوت
فمن كان يفرح منكم له فقل يفرح اليوم من لا يموت".
وهكذا ذهب الكاتب والشاعر الكبير، والمفكر العبقري، ضحية الجهالة والتعصب، والأحقاد السياسية الوضيعة. فما هي الآثار الأدبية التي تركها بعد رحيله؟.
2-آثاره الأدبية:
كان ابن الخطيب من أعظم كتاب عصره وشعرائه، بل هو من أعظم كتاب الأندلس وشعرائها على الإطلاق. وقد بلغ في النظم، كما بلغ في النثر مرتبة التفوق التي لا يدانيه فيها سوى القليل. وقد ترك آثارا أدبية جمة تتمثل في لونين أدبيين مشهورين هما الشعر والنثر.
أ- الشعر:
وصفه معاصره الأمير أبو الوليد إسماعيل بن الأحمر في كتابه: (نثير فرائد الجمان فيمن ضمني وإياهم الزمان)، بأنه: "شاعر الدنيا..وكاتب الأرض إلى يوم العرض..".
ويصفه ابن خلدون بأنه: "شاعر الأندلس والمغرب في عصره".
[10]
وقال أيضا: "وبلغ في الشعر والترسل حيث لا يجارى فيهما".
وأعظم ما يتميز به شعر ابن الخطيب هو وفرة التنوع والافتنان في الموضوعات والمعاني، ويرجع ذلك إلى توقد قريحته، وسعة أفقه، وإلى حياته المتنوعة الفياضة بمختلف الأحداث والمحن.
وقد تنوعت مواضيع شعره، فنظم في شؤون السياسة، وفي المديح والغزل والزهد والتصوف، والمدائح النبوية. وهو يبدي في قصائده براعة في ابتكار المعاني، وفي صوغ الخيال، وفي اختيار اللفظ المشرق. وبرع كذلك في الزجل.. وكان من أئمة الموشحات الأندلسية. ومن أشهر ما نظم منها موشحته الدائعة الصيت التي مطلعها:
جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما في الكرى أو خلسة المختلس
وقد أفرد المقري في كتابه: (نفح الطيب) مجلدين كبيرين، هما الخامس والسادس[11] لابن الخطيب وأخباره وشعره ونثره، ونقل إلينا فيهما من مختلف كتبه ورسائله، فصولا وشذورا لا تحصى، كما نقل إلينا عشرات من قصائده.
ومن ذلك قوله في قصيدة طويلة يهنئ السلطان بفتح تلمسان سنة 761 هـ:
أطاع لساني في مديحك إحساني وقد لهجت نفسي بفتح تلمسان
فأطلعتها تفتر عن شنب المنى وتسفر عن وجه من السعد حياني
كما ابتسم النوار عن أدمع الحيا وجف بخد الورد عارض نسيان
كما صفقت ريح الشمال شمولها فبان ارتياح السكر في غصن البان.
ومن ذلك قوله في وصف بعض أقاليم غرناطة:
بلد يحف به الرياض كأنه وجه جميل والرياض عذاره
وكأنما واديه معصم غادة ومن الجسور المحكمات سواره
ومن ذلك قوله في رثاء فاطمة بنت أمير المؤمنين أبي عبد الله:
نبيت على علم بغائلة الدهر ونعلم أن الخلق في قبضة الدهر
ونركن للدنيا اغترارا بقهرها وحسبك من يرجو الوفاء من الغدر
ونمطل بالعزم الزمان سفاهة فيوم إلى يوم وشهر إلى شهر
وتغري بها نفسي المطامع والهوى ونرفض ما يبقى فيا ضيعة العمر
ألم تر أن المجد أقوت ربوعة وصوح من أدواحه كل مخضر
ولاحت على وجه العلاء كآبة فقطب من بعد الطلاقة والبشر.
وأشعاره كثيرة جدا وهي مبثوته ضمن كتبه، ومراجع ترجمته فمن أرادها ظفر بها نهاك.
ب- النثر:
برز ابن الخطيب بالأخص في ضرب من النثر، وهو النثر الوزاري والسياسي، وقد ترك لنا ابن الخطيب في هذا الميدان تراثا ضخما، من المراسيم السلطانية التي صدرت أيام توليه الوزارة، عن سلاطين غرناطة. ومن الرسائل السياسية والدبلوماسية، التي كان يكتبها على لسان سلطانه إلى ملوك إسبانيا النصرانية، أو سلاطين المغرب، أو سلاطين مصر، فيما يتحدث عن علائق والمودة والتحالف، أو يصف بعض الحوادث التاريخية، أو يطلق صيحة الجهاد للدفاع عن الأندلس، أو يلتمس لها الإنجاد والعون من ملوك العدوة، إلى غير ذلك من الشؤون والحوادث، التي ملأت حياته السياسية، سواء في المغرب أو الأندلس.
وقد ترك لنا أيضا عددا كبيرا من الرسائل الأدبية، ورسائل المودة والصداقة، التي كان يتبادلها مع شيوخه وأقرانه وأصدقائه، وأكابر معاصريه، وقد أورد لنا في الإحاطة كثيرا منها.
وتمتاز رسائل ابن الخطيب بالأسلوب الرصين المشرق، واللفظ الجزل المختار. وبالرغم من أن معظمها يجري على قاعدة السجع، فإنها على الأغلب خالية من روح التكلف، الذي يجني أحيانا على الأسلوب والمعنى. ولابن الخطيب براعة خاصة في تخير الألفاظ، وإبراز المعاني، لا يجاريه فيها الكثيرون من أكابر الكتاب.
ومن ذلك قوله في وصف (الأديب ابن حرب الله): "راقم واشي، رقيق الجوانب والحواشي، تزهى بخطه المهارق والطروس، وتتجلى في حلة إبداعه كما تجلت العروس، إلى خلق كثير التجمل، ونفس عظيمة التحمل، وود سهل الجانب، عذب المشارب".[12]
ومن ذلك قوله في الرسالة الثانية من كتاب: (الزواجر والعظات): "إذا شعرت نفسك بالميل إلى شيء فأعرض عليها غصة: ((ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة))، فالمفروح به هو المحزون عليه، أين الأحباب مروا، فياليت شعري أين استقروا، واستكانوا ولله اضطروا، واستغاثوا بأوليائهم ففروا، ليتهم –إذ لم ينفعوا- ما ضروا، فالممنازل من بعدهم خالية خاوية، والغراس ذابلة داوية، والعظام من بعد التفاضل متشابهة، والمساكن تندب في أطلالها الذئاب العاوية..أين المعمر الخالد، أين الولد، أين الوالد،؟ أين الطارف أين التالد، أين المجادل أين المجادل؟، ((هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا))..".[13]
خاتمة:
يبقى ابن الخطيب كاتب الأندلس الأول، وأديبها الأوحد، في القرن الثامن دون منازع، بما خلف من تراث زاخر، يشمل المنظوم والمنثور، وبما تفتقت عنه قريحته من جميل المنظوم، ورائع المنثور. وهو القائل عن نفسه: "سلمان انتسابي، وبالمعارف الأدبية اكتسابي، وإلى العلوم قد نشأ ارتياحي، وفي حلبة أرباب النظر مغداي ومراحي، على نهاية من ترف النشأة، وغر البدأة..".[14]
فهل تجود الأيام، فيما يستقبل من الزمان بمثل هذا الأديب البارع؟.
[1] ابن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة (1/3-4).
[2] إحسان عباس :مقدمة تحقيق نفح الطيب (1/16)
[3] يقصد كتاب: النبوغ المغربي في الأدب العربي الذي ألفة لبتبيان مزايا الأدباء المغاربة ونبوغهم وفضلهم في الأدب.
[4] عبد الله كنون: النبوغ المغربي في الأدب العربي (1/37-38).
من بينهم الأستاذ عبد الله عنان في مقدمة تحقيق كتاب الإحاطة في أخبار غرناطة: لابن الخطيب.[5]
[8] تاريخ ابن خلدون: (7/689).
[9] تاريخ ابن خلدون: (7/709).
طبعة : دار صادر بيروت لبنان بتحقيق: الأستاذ إحسان عباس.[11]
أوصاف الناس في التواريخ والصلات: ص (143).[12]
كتاب: الزواجر والعظات: (165-166).[13]
[14] أوصاف الناس في التواريخ والصلات: ص (134).