في حصن الغراب بشبوة
ميناء عتيق وبحيرة مرعبة
استطلاع - نبيل اليوسفي
صحيفة الجمهورية
السبت 21 فبراير-شباط 2009
حصن منيع وميناءعتيق...بحر سرح اليدين وبحيرة مرعبة ، لبان بخور وصيادون وأسماك مختلفة..رمال بيضاء كاللبن ناعمة كالحرير..سواح ولاجئون صومال..أحجار سوداء متبركنة وصيفٌ في مطلع تفتقه..سماء منكوسة من الهموم والغموم..تلك هي مدينة بئر علي .. لؤلؤة نفيسة ونادرة.
رحلة ترفيهية
رحلاتنا تنفيس عن كروبنا وإزالة للغبار العالق بذواتنا، من خلالها يستطيع الإنسان أن يتماهى في الطبيعة الخلابة ويترنم بالموسيقى التي تهواها أعضاءه الراقصة بالفرح. ولم تكن رحلتي إلى حاضرة بئر علي المبتعدة عن مدينة عتق بحوالي المائتين وخمسين كيلو متراً إلا دعوة ملحاحة من القائد الكشاف الشاب بسام الدحيمي الذي أصر ببشاشته ونشاطه اللامحدود أن يصطحبني مع أشبال الكشافة في محافظة شبوة الواصل عددهم إلى ستين فرداً إلى حيث يربض التاريخ العريق،والشموخ المتعملق، كان الضباب يداعب طريقنا الوردية، ونسمات الصباح المنعشة تنفذ إلى أعماق أعماق الروح فتروي ظمأه الذاوي ،فيما كان الشاب ناصر يلمس بلطف الفضاء بنكاته الرائعة، وصدى المواهب اليانعة تتردد بين الغناء والشعر والنشيد ،وترتيل المواويل السماوية.
إعجاب كبير
الأفق ساعة رملية، وعصفورالشوق يكاد أن ينفذ من بين الضلوع،والعيون كرة زجاجية يوشك الفرح العاصف أن يغادر محجريها،والمدى يتباعد وعلى جانبي الطريق الممتدة في صدر مديرية رضوم شركات أكثر من عملاقة..نفط وغاز..اسلاك شائكة وبوابات..مطار واسع وحركة دائبة لمكانٍ كان قبل عامين بلقع مهجور...لوحات خضراء ممتدة ومتشابكة من أشجار السيسبان ..مركبات راكضة وغائصة في مكان لا يضبطه النظر..جبال لشدة سوادها كأنها الغمام الداكنة أو لبسها الليل ذات عقارب غاضبة، ويبتلع الباص الطريق الطويلة كأفعى ميتة، وعلى فم الدرب الترابي يكون مبتدأ الطريق إلى حصن الغراب، فيما ترتفع صرخات الظفر مرفرفة كأعلام قدسية، وعند الشاطئ السحري يتقافز الجميع كحبات عقدٍ فريد ضاق بجيده،وتبدأ الأحاسيس الشاعرية بالتخلص من قيودها الآلية منصهرة في بوتقة الطفولة العابثة اللاهية..يستقبلنا محمد أبوبكر بملامح مشرقة بالضيافة وحسن الاستقبال..يترك كافة أعماله الهامة وينذر نفسه وجهده وسيارته أيضاً لإطلاعي على كل أسرار هذه المدينة المطلسمة بالبخور حيناً وباللبان أحياناً أخرى، وبلهجته العدنية المغناه كسيمفونية بيتهوفينية بدأ حديثه قائلاً:
كثيرة هي صيحات الإعجاب التي تلفت الانتباه من قبل السواح حين تقع نظراتهم على هذا المكان وعلى امتداد السنوات الطويلة التي قضيتها هنا، فلون الرمال المميز والفريد ونظافة الساحل، وبساطة المباني الطينية والقصب الرائع، وهدوء البحر الجميل وانتصاب الحصن المهوول، و جودة الأطعمة، وسكون الليل، وطعم الفجر الثمل..كل هذه الأشياء مجتمعة تفجر الدهشة المعربدة، وكثيرٌ هم السواح المتوافدون إلى هذا الموقع لقضاء امتع أوقاتهم هنا، وظل هذا التوافد مستمراً وفي ازدياد لولا حادثة دوعن في محافظة حضرموت للسواح البلجيكيين والتي قطعت الأفواج السياحية الكثيرة وجمدتها كلياً إلا من عدد قليل هنا وهناك، وتوالت الاختطافات الجبانة حتى هزت السياحة هزاً عنيفاً، وهاأنت ترى لا يوجد سوى سائحين إيطاليين فقط، مع أن هناك الكثير غيرنا معتمدين على هذا الجانب.
طقوس ملائكية
من أمام العشة الترابية المكيفة بالسعادة تتبدى نواجذ الأمواج الناصعة،وتتطارد السرطانات والقواقع في حلبةٍ تسمى الافتراس والبقاء للأقوى، فيما يواصل مرافقي محمد فدعق حديثه عن الطقوس التي يمارسها السواح على هذا الشاطئ الملائكي بعيداً عن بلدانهم التي حولهم تطورها ونظامها الدقيق إلى الآن ، حيث يوقدون النار ملتمين حولها يطبخون صيدهم، ويعزفون موسيقاهم الغربية، وأقدامهم تلهو بخفة على الرمال، وتنضح وجوههم وسحناتهم بفرحٍ غامر منقلين أبصارهم بين الأكواخ والآثار واليم ، حين أسألهم عن سر تركهم لشواطئهم الجميلة الخلابة في أوروبا وأمريكا واستراليا يجيبون بلغاتهم أن شاطئ بئر علي هو الشاطئ الوحيد في العالم الذي يغسل عنهم كل هموم الحياة وغمومها، ويعيدهم إلى حياتهم البريئة العابثة الأولى، ومازلت اتذكر قول السائح اليوناني أنه لم يجد شاطئاً أكثر نقاوةً وصفاءً وألقاً وحميمية على الاطلاق، ويؤكد السائح اليوناني أنه وجد على هذا الساحل سنوات طفولته التي قضى عمره يبحث عنها.
تدهور سياحي
الشمس تُحدق ملامحها في مرآة الماء وتكنس السحب العالقة بجبينها المتوهج،...تضع الروج«الحامورة» على شفتيها فيكون الأصيل..يتلألأ البحر العربي بالذهب السائل، ويبدأ بالزحف نحونا، وتنتقل دفة الحديث إلى المحامي فيصل الخليفي رئيس منظمة نسكو لمحاربة الفساد الذي يؤكد بأسف أن مجال السياحة في شبوة في تدهور، ويضيف في سياق حديثه أن شاطئ بئر علي من أحلى سواحل البحر العربي، لكنه لم يلقَ الاهتمام اللائق بمكانته، خصوصاً من مشروع بالحاف أو الشركة اليمنية للغاز الطبيعي المسال التي لا تبتعد عن هذا الموقع سوى 20 كيلو متراً فقط، التي لم تعمل شيئاً، مع العلم أن الشُـعب المرجانية على مستوى كبير جداً التي يتجمع عندها مختلف أنواع الأسماك في العالم حتى النادر منها، كما يجمع أغلب صيادي بلادنا وهذه ميزة هامة، أما الميزة الثانية لهذا المكان الشاعري فهي رماله البيضاء التي لا تماثلها أي رمال على هذا الكوكب الأخضر، أما الميزة الثالثة والواضحة للقريب والبعيد وهي الميزة التاريخية التي تعد ميناء قنا من اقدم الموانئ التي تربط بين قارتي آسيا وافريقيا، وهنا بكل فخر تتمازج السياحة بالتاريخ بالحضارة ،وبكل أسف لا يوجد هناك أي ترويج يُـذكر،وهذا شأن وزاوة السياحة،كما أن الشركات لم تقم حسب الاتفاق بتنمية البنى التحتية لما حولها،ولا تحركت السلطة المحلية لمساندة هذا الجانب الحيوي، والمتأمل لهذه المحافظة «شبوة» يجد أنها حبلى بالآثار عاصرت ثلاث ممالك هي مملكة قتبان وأوسان وحضرموت وكان ميناؤها جميعاً هو ميناء قنا،ويضيف الخليفي قائلاً:
الحقيقة أن السياحة مهملة سواءً كانت السياحة الداخلية أو السياحة الخارجية، ولابد من الاهتمام بهذا الجانب كونه يمثل وجوهنا وأذواقنا الحضارية، والتقصير كل التقصير يشمل السلطة المحلية ووزارة السياحة التي لم تصدر أي مجلة في هذا الجانب تعرف الجميع بما تزخر به بلادنا من كنوز، وماالفائدة من شركة الغاز حين تقوم بترميم فصلين دراسيين أو عيادة صحية وبتلك الأموال الطائلة ،مع تأكيدي أن الجانب السياحي لا يحتاج سوى إلى النزر اليسير من كل تلك الأموال التي لم نلمس منها أي حماية بيئية أو تشييد بنية تحتية،أو تأهيل أو تدريب لأبناء بلادنا.
مشاريع مفقودة
سقطت كتلة من الليل..تبتلع خيوط النهار..تتراقص نجوم على أوتار الماء..يبدأ الجزر..أنام على فراش من حلم...أخالني في جزيرة الأحلام..أسبق الفجر في الاستيقاظ..أطارد السمكات الصغيرة وأصطاد السرطانات...أملأ رأسي بألوان القواقع المختلفة، أتنسم الهواء العليل وأشرب من لذات الطبيعة شهدها..ألتقي بالمستثمر أبوبكر صالح فدعق ويجري بيننا كلام له أهمية كونه من مستثمري حصن الغراب السياحي ونبدأ الحديث عن السلطة المحلية بالقول: في الحقيقة لم تقدم السلطة المحلية أي دعم يذكر لا مجال الطرقات الوعرة التي تفصلنا عن الخط بحوالي خمسة كيلو مترات ولا في مجال الكهرباء أو المياه، وكل هذه الأشياء نقدمها بجهود ذاتية وهذا لا يشجع أحد على بدء مشاريع استثمارية جديدة في المنطقة ،مع العلم أن الأخ المحافظ الدكتور علي حسن الأحمدي يبذل جهوده الجبارة، لكن هناك عراقيل في جانب الإدارة والإمكانيات، ونحن نكن للمحافظ كل الحب والاحترام والتقدير، ونفتخر بدعمه اللامحدود رغم الفترة الزمنية التي مارس فيها مهامه، ومشروعنا في هذا المكان يصل عمره إلى ثمانية عشر عاماً، وأكرر مرة أخرى أن دعم السلطة المحلية مفقود كلياً.
غياب السياحة
ويضيف فدعق مستطرداً بالقول:
وزارة السياحة في غياب كامل عن السياحة، فلا يوجد أي نشاط أو برامج ولا دعم، وكل ما يبذل لغرض الحصول على احصائيات الزوار فقط، ونشاطهم مع الأسف يبدأ وينتهي عند هذا الموضوع، حيث لم تقدم أي نشرات أو خطط أو برامج وإدارة السياحة في المحافظة لم تقدم أي شيء على الإطلاق، أما فيما يخص الشركات لم تقدم لنا أي دعم على الاطلاق، وكانت هناك خلال الفترة الماضية برامج لمشروع الغاز في بالحاف «شركة يمن غاز» لترقية الموظفين والمهندسين في المشروع للزيارة كل يوم جمعة، وساهمت نوعاً ما في الانتعاش السياحي لكن الفرحة لم تتم وتوقف هذا البرنامج خلال الشهرين الماضيين، والسياحة بقسميها الداخلية والخارجية توقفت وأصيبت بالجمود الكامل، ولو أن هناك نية لتحريك السياحة فلابد من اتخاذ قرار من قمة السلطة حتى تنعكس الخطط على بقية المرافق والوزارات لتشجيع السياحة حتى لا يحطمها التدهور، وإلا كيف تطلب الدولة مستثمرين من الخارج وهي لاتقدم شيء على أرض الواقع، لأن الشركة الأجنبية تنسق مع وزارة السياحة وتنزل إلى المختصين في نفس المجال لتعرف من خلالهم الفرص والصعوبات والاجراءات وغيرها وبالتالي لابد أن يكون هناك خطة واضحة لدعم السياحة وعلى ضوئها تتخذ الخطط والقرارات وتعتمد المخصصات لها.
إقبال متدني
وعن مستوى إقبال السواح بشكلٍ عام أوضح قائلاً:
العام المنصرم 2008م بإمكاني اعتباره في المتوسط ليس ضعيفاً جداً كما هو حاصل الآن ،والأقوى جداً كما في أعوام 92م 93م وكانت تصل إلى هذا الشاطئ خلال تلك الفترة ما يفوق المائة سائح ليلياً، وخلال الأسبوع الأخير من العام المنصرم كان هناك تحسن بسيط وصل إلى 50 سائحاً وبعد ذلك وحجتى اللحظة توقفت السياحة كلياً،وشهر فبراير الجاري كان من المفترض أن يكون استمرارية لذروة الموسم،ويكون الزوار بشكل يومي، ولابد أن أنوه من خلالكم أن السواح الفرديين يعانون من المواصلات حيث كانت شركات الباصات قبل أشهر ترفض ثقل هؤلاء السواح تحت مبرر كثرة الاجراءات في النقاط، ولكن هذا لا يمنع أن تحصل معالجات، لكن في حالة توقف سياحة المجاميع السياحية يبقى الركون على السياحة الفردية ،وأنني أؤكد أن الارهاب هو السبب الوحيد والرئيسي في ركود السياحة، وكذلك الاختطافات والتقط..
وعن أهمية ميناء قنا التاريخي يقول:
إن اهمية ميناء قنا ذو العمر السحيق يحظى باهتمام الاجانب أكثر منا الذين نجهل بثرواتنا التاريخية السياحية وبغضّ النظر عن الجزر الجميلة والشاطئ الرائع فإن ميناء قنا بحد ذاته مزار تاريخي، وكذلك طريق البخور واللبان الفريدين،وباختصار فإن هذا الميناء التجاري هو الأول للمنتجات في العالم من ظفار وحضرموت وغيرها.تصل إليه قوافل الجمال عبر الصحراء إلى أماكن مختلفة في العالم، وتجارة اللبان والبخور كانت حكراً على اليمنيين فقط، مع العلم أن قيمة البخور الاقتصادية كانت توازي قيمة النفط اليوم ،ومثلما اشتهر ميناء المخا بالبن فإن ميناء بئر علي اشتهر بهذين السلعتين.
واختتم فدعق حديثه بالقول:
اتمنى أن يكون هناك خطة واضحة لتشجيع السياحة وتنفيذها في برنامج زمني، وانني أقول للأخ المحافظ كان الله في عونك وكلنا إلى جانبك للمضي قدماً إلى الأمام.
بحيرة شوران
كان الصعود إلى بحيرة شوران هو أملي الوحيد خصوصاً بعد أن سمعت عنها الكثير من الأساطير منها أنها مأوى للشياطين، وأن عليها ملكاً يسمى دومة،واسطورة أخرى تقول بأن اسماها بئر بيرهوت المعلق فوق سقفها الملكان هاروت وماروت اللذان أثرا عذاب الدنيا على الآخرة، وحقق مرافقي محمد أبوبكر املي بصعودنا إليها..كان الطريق الذي شقته شركة بن لادن شاهقاً نحو السماء والسيارة بمهل تتسلقه والظهيرة نار مشتعلة، ومحمد يوضح بأن مدينة بئر علي سميت نسبة إلى الإمام علي بن أبي طالب، وأن بئره قد ردمت في وقت قريب، وعلى قمة شورات تفجرت الدهشة..كانت المهابة تلبسني وشريط تسجيلي اصابته الوشوشة نتيجة المعادن التي تزخر بها يقول مرافقي ودليلي أن هناك عالماً أمريكياً أكد أنها تحوي على الكثير من المعادن الثمينة، وأن عمق البحيرة يصل إلى اربعين قامة إنسان، وهي مالحة، وترتفع نسبة مياهها وتنخفض تبعاً للمد والجزر ،وتنشر حول فوهتها العريضة أشجار المنجروف،وتختلف الروايات التاريخية لهذه البحيرة العملاقة التي يحج إليها العلماء من كل حدبٍ وصوب.
أجراس الرحيل
يرتفع المساء وتدق ساعة الرحيل..كان جرسها رناناً كأجراس كاتدرائية سان بطرسبورغ، وتتبادل أعيننا نظرات الوداع، فيما تطل في خيالي.
تلك النقوش التي تعتلي حصن الغراب والخربشات التي تطالها من أيادي العابثين ،وغمرت أنفي في قارورة بخور قديمة أعطاني إياها المحامي فيصل الخليفي كان قد لملمها من أحد المدافن لطرد الأرواح الشريرة،وقبل أن يهجم الظلام الحالك ودعت الجميع حتى ذكرياتي البسيطة التي أودعتها هناك.
المصدر /صحيفة الحمهورية