بالرغم من عزوف نفسى عن قبول فكرة خلافة الابن لأبيه واستهجانها، فإننى أحاول أن أقنع نفسى بتقبل فكرة انتخاب السيد جمال مبارك. فهو شاب يبدو مهذباً ويتحدث بمنطق واضح، وقد عاش فى أجواء السياسة وعرف الكثير من أسرارها. حقاً، لاتزال قضية التوريث تؤرقنى، وأجد رفضاً غريزياً لهذه الفكرة. لقد قامت الثورة وحققت أشياء كثيرة ثار حولها الجدل من خلال تجربة طويلة، ويظل إعلان الجمهورية أحد المكاسب التى حققها الشعب مع الثورة وينعقد حولها نوع من الإجماع الشعبى.
فهل نتنازل عن هذا »المبدأ الجمهورى« من أجل هذا الشاب؟ ويقتضى »المبدأ الجمهورى« توقيت الحكم وتداوله وإفساحه لجميع المواطنين وعدم حصره فى عائلة أو قبيلة واحدة. حقاً، لقد خرق رؤساء مصر »مبدأ التوقيت« جزئياً منذ البداية عندما استقر العمل على أن وصول الحاكم إلى سدة الحكم يعنى بقاءه فى مركزه طوال حياته. وهذا فى ذاته خروج على »المبدأ الجمهورى«. هذا ما فعله عبدالناصر، وتابعه فيه السادات، ولم يخرج مبارك عن هذا التقليد غير الجيد. أما أن يخلف الابن الأب، ونستمر فى الادعاء بأننا فى ظل حكم جمهورى، فهذه ثقيلة على النفس، وسخيفة أيضاً.
والمسألة ليست مجرد مشكلة نظرية، وهل نحن بصدد توريث للحكم، أم بصدد الاعتراف بحق المواطنة للجميع بما فى ذلك حق الترشح للوظائف السياسية؟ المشكلة الحقيقية هى أن هناك تهديداً »للنظام الجمهورى« نفسه، فى حالة اختيار السيد جمال مبارك لمنصب رئيس الجمهورية. فهو شاب بدأ وعيه ونشأ وترعرع وأبوه نائباً للرئيس أو رئيساً للدولة، وبذلك أمضى حياته الواعية وهو يعيش فى جو الرئاسة، وبالتالى فإنه ربما يعتقد أن حقه فى هذا المنصب هو أمر طبيعى. فهو لا يعرف حياة المواطن العادى، وإنما عاش كل حياته الواعية وهو ابن الرئيس. فماذا إذا أصبح رئيساً؟ فهل يتوقع منه أن يتنازل عن موقعه فى فترة لاحقة لمواطن آخر يريد أن يترشح لهذا المنصب؟!
أشك فى ذلك كثيراً، فالتكوين النفسى والبيئة التى عاش فيها يجعلان من شخصية جمال مبارك خطراًً على مستقبل »النظام الجمهورى«، إذا تولى الرئاسة. هذه هى المشكلة، ولذلك فالقضية تجاوز التساؤل المطروح حول التوريث أو حقوق المواطن، لتصبح قضية تهديد النظام الجمهورى نفسه. والأمر يحتاج لأن يعلن جمال نفسه - فى حالة ترشيحه - موقفه بوضوح من نصوص الدستور الحالية والتى تبيح استمرار الرئيس لمدى الحياة. فهل يتبنى تعديل الدستور وتقييد مُدد الرئاسة؟
أيا ما كان الأمر، خرج علينا الدكتور على الدين هلال وهو أستاذ لامع للعلوم السياسية، ولم تعرف عنه السذاجة، ليقول لنا، إن خلافة الابن للأب ليست توريثاً، لأن الابن مواطن مصرى وله حقوق المصريين الدستورية، وبالتالى فإن وصوله إلى منصب الرئيس عن طريق الانتخابات يعنى أنه جاء بالطريق الديمقراطى وليس بالوراثة. ورغم فصاحة الدكتور هلال فإن الحجة تبدو متهافتة، وبالتالى فمازال فى النفس شىء ما ينفر من الفكرة، فكيف لا تكون خلافة الابن للأب وراثة؟ هل تعبير الوراثة يقتصر على المعنى الشرعى للوراثة فى التركات، بأن توزع التركة على الورثة وبحيث يكون للذكر مثل حظ الأنثيين وللزوجة الثُمن، إلى آخر قواعد الوراثة المعروفة؟ ونظراً لأن هذا التوزيع للتركة غير مطروح فى حالتنا، فإن ذلك قد يعنى - فى مدرسة الدكتور هلال - أن وصف التوريث لا ينطبق على هذه الحالة - من الناحية الشرعية الشكلية!
ورغم كل ما تقدم سوف أحاول أن أقهر نفسى وأحاول ابتلاع - ولو مؤقتاً - فكرة أن خلافة الابن لأبيه ليست بالضرورة وراثة مادامت تتم من خلال صناديق الانتخاب، وبشرط أن تكون الانتخابات نزيهة وأن تتاح الفرصة لكل من يرى فى نفسه القدرة على خدمة الوطن من خلال هذا المنصب. أليس الهدف هو أن نختار شخصا صالحا ومناسبا وقادرا على خدمة البلد؟ ولماذا نحرم البلد من شاب طموح وأتيحت له فرصة للتعرف على كواليس السياسة، وقابل العديد من رؤساء الدول والمسؤولين فيها، ويحيط نفسه بمجموعة من الشباب المؤهل؟ ولم لا؟ أليس اختيار جمال مبارك - هو فى نهاية الأمر - اختيارا لرجل مدنى، يحاول الوصول إلى كرسى الحكم من خلال صناديق الانتخاب؟
أخيراً، قررت أن أمنح نفسى فرصة مناقشة الأمر بلا تحيزات سابقة. وبدأت مناقشة الفكرة جدياً. لماذا لا أمنح جمال مبارك صوتى إذا ترشح لهذا المنصب؟ حسناً. ولكننى لا أعرف هذا الشاب جيداً، ورغم كثرة ظهوره على الساحة فإن سيرته الذاتية مازالت ناقصة وبها فجوات كثيرة لابد من استكمالها.
أنا أعرف - أو على الأقل أتصور - أنه شاب مهذب وقد نال تربية سليمة وحصل على تعليم جيد. وقد تخرج فى الجامعة الأمريكية، وما أعرفه من رأى أساتذته أنه كان طالباً جاداً ومجتهداً. لم يكن حقاً، نابغة، ولكنه لم يكن أيضاً خائباً. فهو متوسط أو فوق المتوسط من ناحية التعليم. وقد عمل بعد تخرجه فى الجامعة فى أحد البنوك المصرية، ثم عمل فى فرع أحد البنوك الأمريكية فى القاهرة قبل أن ينتقل إلى فرع لندن. وما أعرفه من زملاء له فى العمل أنه كان بالغ التهذيب والجدية، ولا غبار عليه. وكان والده قد أعلن فى إحدى خطبه أن ابنه قد حصل على حوافز مالية من البنك الذى يعمل فيه نتيجة لتميزه فى أداء وظيفته. وغالباً، أن الأب كان يشير إلى جهود ابنه فى خدمة البنك الأمريكى عندما كان ذلك البنك يشترى بعض ديون مصر التى كانت تتداول فى الأسواق بأسعار منخفضة، مما ساعد البنك على تحقيق بعض الأرباح، استحق عليها الابن الحوافز.
ولنعد إلى مرشحنا، لقد عاد السيد جمال مبارك إلى مصر بعد أن أنهى عمله فى بنك أوف أمريكا، وكان والده قد أعلن حينذاك، أن أولاده لا ولن يعملوا »بالسياسة«، وإنما هم يعملون فقط فى المجال الاقتصادى. وبعد ذلك بفترة سمعنا أن السيد جمال مبارك قد عين - بقرار من والده - أميناً »للجنة السياسات«، بالحزب الوطنى. وتساءلت آنذاك: هل العمل فى »لجنة السياسات« هو عمل »بالسياسة« أم لا؟ وهل استخدام لفظ الجمع (سياسات) بدلاً من اللفظ »المفرد« (سياسة) يجردها من طبيعتها السياسية؟
المهم، أنا كمواطن أريد أن أعرف أكثر عن المرشح جمال، إذا قرر دخول الانتخابات. فأنا لا أعرف الكثير عنه باستثناء ما أشرت إليه من شكل تعليمه أو وظائفه الأولى فى البنوك فى مصر أو فى لندن. والسؤال: ماذا يفعل الشاب جمال مبارك لكى يكسب عيشه؟ وهل يكتفى بعمله السياسى فى الحزب الوطنى أم أن له عملا آخر يتكسب منه؟ وإذا كان لديه عمل آخر، فما هو بالضبط؟ كنت أسمع أنه »رجل أعمال«. ولكن ما هى »الأعمال« التى يعمل بها. هل يقوم بالتجارة فى التصدير والاستيراد؟ هل يشارك فى الشركات الصناعية أو العقارية؟ وما هذه الشركات؟ لماذا لا نعرف شيئاً عن نشاط السيد جمال مبارك المهنى، الذى يتكسب منه؟ ومن هم شركاؤه فى نشاطه الاقتصادى كرجل أعمال؟ أليست الشفافية مطلوبة فى العمل السياسى الديمقراطى؟ وبمناسبة العمل السياسى والمصالح الاقتصادية، فما هو رأى مرشح الرئاسة فى دور رأس المال فى الشأن السياسى؟
كذلك يقوم السيد جمال مبارك بريادة »جمعية المستقبل« وهى تقدم مساعدات إنسانية وخدمات كثيرة للشباب، ومنهم من سافر للتعليم فى الخارج على حساب الجمعية. فمن أين يأتى تمويل هذه الجمعية؟ هل من رجال الأعمال المصريين؟ ومن هم؟ وهل يقومون بذلك نتيجة يقظة مبكرة لعمل الخير، أم أنهم يتمتعون بمزايا كثيرة أخرى من الدولة.
إننى أحاول جاهداً أن أقنع نفسى بقبول فكرة انتخاب السيد جمال مبارك إذا رشح نفسه. ولكن دون إجابة عن هذه الأسئلة عن الجوانب المجهولة فى السيرة الذاتية للسيد جمال ودون إيضاح موقفه من تعديل الدستور، فإننى لن أستطيع أن أعطيه صوتى. ومازال هاجس التوريث والخوف على مستقبل الجمهورية مسيطراً على ذهنى. وأشك أننى قادر على التخلص من هذه المخاوف.
.. والله أعلم