يستيقظ عند الفجر، يخشع فى الصلاة، بعدها يغازل النوم الذى قد يأتى وقد لا يأتى. يغادر فراشه فى السابعة صباحاً، استعداداً ليوم جديد. الفطور - كالعادة - تنويعات على مقام الفول الكبير. يعقبه كوب شاى ساخن. يودع زوجته، ثم يهبط إلى الشارع.
يسكن فى طنطا ويعمل فى القاهرة. ينتظر الميكروباص الذى سينقله إلى المحطة. الشارع مزدحم كالعادة لكنه لا يفقد ثباته دائماً. يصل الميكروباص متأخراً، لكن القطار يصل متأخراً هو الآخر. يسير فى تؤدة نحو العربة الأخيرة فى القطار، عربة الشرطة كما يدعوها المخضرمون من أمثاله الذين أدمنوا ركوب القطار.
قصة «عربة الشرطة» تلخص العبقرية المصرية فى التكيف مع ظلم الولاة وظروف المعيشة المستحيلة، وتسطر الجواب لمن يطرح السؤال الحائر: «كيف يعيش المصريون؟». مع الارتفاعات المتتالية فى اشتراك القطار العادى، أصبح مستحيلاً لديه أن يدخر من راتبه ثمانمائة جنيه هى قيمة الاشتراك السنوى، أو يدفع ستة جنيهات فى الذهاب والإياب. لكن فى الوقت نفسه يجب أن يسافر حتى لا تُقطع الأرزاق. النتيجة كانت اجتماع ستة ركاب يشتركون فى تذكرة واحدة يدفع كل واحد جنيهاً واحداً، هو الذى تسمح به ميزانيتهم المحدودة التى تصارع الغلاء.
فى البدء، قامت مشاجرات دامية مع الكمسارية الذين هم جزء من نسيج الوطن، وبالتالى يعرفون باطن الحال. ثم فرض الأمر الواقع نفسه لأن البديل سيكون عصيان الجياع.
رحلة القطار تمر على معظم المراكز وتستغرق ثلاث ساعات. زمن يكفى لاستعراض الملامح الرئيسية لملحمة كفاحه. هو شاب فى بداية الثلاثينيات، وسيم مثقف، تخرج فى كلية الحقوق، عمل لعامين فى مهنة المحاماة، التى لم يجد فيها نفسه، ثم رحلة لليبيا لم تؤت ثمارها، ثم عمل فى مجال الكمبيوتر والتصميم والإعلان. لم يجد عملاً مناسباً سوى فى القاهرة التى يشد إليها - فى كل يوم - الرحال.
شاب عادى جداً يوجد الملايين من أمثاله يشاركونه الظروف نفسها. أحيانا يتساءل - بينه وبين نفسه - ما الدليل على أنه مصرى؟ لا يملك مالاً أو أرضاً أو عقاراً. لكنه سرعان ما يلوذ بالرضا ويحمد الله الذى لا يُحمد على مكروه سواه.
يصل القطار متأخرا فى أغلب الأحوال. يستمع إلى تقريع لا يستحقه من صاحب المال. لكنه حين يبدأ عمله الذى يحبه يندمج فيه بالكلية وينسى كل منغصات الحياة. ينتبه حين تقترب الساعة من السادسة ليبدأ رحلة العودة إلى طنطا، التى تستغرق نحو ثلاث ساعات. يقضيها معظم الأوقات واقفاً. يعود للبيت لا يصلح سوى للنوم بعد تناول العشاء، ليبدأ صباح جديد وتتكرر الدورة إلى ما لا نهاية فى حياة ليس فيها إلا الكفاف.
صدق أو لا تصدق، هذا الشاب يعتبر نفسه محظوظاً لأنه أفلت من طابور البطالة، وحاله أفضل من ملايين الشباب.