بتـــــاريخ : 7/31/2010 8:44:11 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1106 0


    الأمراض النفسية وعلاجها الروحي في الإسلام

    الناقل : SunSet | العمر :36 | الكاتب الأصلى : د. عبد الستار أبو غدة | المصدر : www.qudwa1.com

    كلمات مفتاحية  :


    (تمهيد)
    الدراسات النفسية في التراث :-

    إن من حق التراث علينا أن يكون هو النواة لكل دراسة يراد لها أن تجمع بين الطرف والتليد ، وتربط بين الحاضر والماضي المجيد. ويتأكد هذا في المجالات التي تقتصر معظم الدراسات فيها على ترسم خطى النتاج الحديث مع إغماض الطرف عن الجذور التي تساعد على تحقيق الانتماء إلى هذه الأمة في دينها وعلومها وتطبيقاتها على مدى العصور.. حتى سيطرت الهجانة على معظم مقولات العلوم وبلغ الأمر أن يزعم البعض أنه ليس في التراث مواقف تاريخية مدونة تجاه الأمراض النفسية ، وقد أتى هؤلاء من تغاير الأسماء ، وهولا يؤثر على حقيقة المسميات ، كما غفلوا عن أن علوما معروفة قد استضافت حقائق هذا العلم ، فضلا عن شواهد التاريخ التي تدحض هذه الدعوى ، وأحدها تلك البيمارستانات التي أسست لرعاية المرضى عموما، وبخاصة من جهلت علته أو استعصت على الشفاء أو استطال زمنها. وبعضها يرجع إلى عشرة قرون خلت، وفي صكوك وقفها وسجلات إدارتها نمط عجيب من الرعاية والاهتمام، ولا مجال للتوسع في ذلك بل هي لفتة للموازنة بما هو معروف من أن علم النفس الحديث لا يزيد عمره عن مائتي عام..

    هذا وإن الدراسات النفسية كانت تعتبر جزءا من علم الفلسفة عند اليونان، جريا على تفريع العلوم كلها عن شجرة الفلسفة، وهو ما مشى عليه ابن سينا ومن جاء بعده. على أنه طرأ فيما بعد مزج لطيف بين مقومات كل من علم النفوس والأخلاق والدين ، وكان التصوف هو المحضن الملائم بعد أن جمع مختارات دينية وأخلاقية ونفسية وفلسفية، وظهر هذا في مؤلفات الغزالي المختلفة كإحياء علوم الدين ، وكتاب الأربعين، وميزان العمل.. حتى اعتبر بحق : أول مؤسس لعلم النفس الإسلامي .

    أما قبل ذلك فقد اشتملت على بعض المقولات رسائل إخوان الصفا كتطوير لما جاء عند الفلاسفة. وللغزالي نظرة حادة على انتماء علم النفس للفلسفة وهو يعتبر الريادة فيه للمتصوفة على مدى العصور إذ يقول في كتابه " المنقذ من الضلال " وفى وهو يستعرض معارف الفلاسفة وعلومهم:-
    القدرة على مواجهة في الأزمات النفسية العادية التي تطرأ على الإنسان ، ويرافقها الإحساس الإيجابي بالسعادة والكفاية، ويكون ذلك عادة بإشباع أكبر قدر من حاجاته الأساسية للأمن والحب وإثبات الذات والإنجاز والنجاح.

    ومن المعايير الظاهرة لذلك أن تكون حياة الشخص النفسية خالية من الصراعات النفسية بين النوازع والرغبات أو الاتجاهات في مجال، ما من مجالات حياته، وخالية من العقد النفسية (أو الصراعات اللاشعورية) التي تعوق أداء النفس وكفايتها التفاعلية. وأصل مفهوم الصحة النفسية منبثق عما يسميه علماء الحياة : " تكيف الكائن الحي للبيئة المحيطة به " لكنه هنا (تكيف نفسي) يحكم على من لا يراعيه بأن هناك شكا في صحة حالته النفسية. وقد ازداد الاهتمام بالصحة النفسية حتى غدت علما شبه مستقل موضوعه الاهتمام برفاهية الإنسان وسعادته في جميع نواحي حياته وعلاقاته.

    وسن هذا يتبين أن الصحة النفسية ليست هي مجرد الخلو من المرض، فإن هذا الخلو لا يستلزم قدرة الفرد على مواجهة الأزمات العادية، ولا يتبعه الشعور الإيجابي بالسعادة. كذلك ليست هي النتائج الفردية التي هي غاية للسعادة (الفردية) والكفاية ، لأنها لابد أن تصطدم برغبات الآخرين ما لم تكن مشروطة بالسعادة الاجتماعية فإن مراعاة التعامل الاجتماعي واجبة بحيث تتحقق النتائج الفردية إلى جانب الأهداف الاجتماعية.

    كذلك (أخيرا) لا يمكن اعتبار الصحة النفسية مجرد العمل لسعادة المجتمع، لأن هذا بدوره لا يحتم سعادة الفرد وكفايته إلا إذا لاحظنا التلازم بين نقص سعادة الأفراد ونقص السعادة للمجتمع بأسره.. وهذه الملاحظة شديدة الشبه بالتصوير للأثر الفردي والجماعي في القيام بفرائض الكفاية من حيث انبثاث النفع للجميع ، أو شمول الإثم لهم كلهم، في حيز ينفرد المبادر للقيام به بالأجر وحسن الذكر..

    وقد حان الآن أن نستحضر من التراث المقابل لاصطلاح ( الصحة النفسية) لدى المعنيين بذلك من القدماء ، ولعلنا نجده في إحدى كلمتين هما (الرضا) و (الاعتدال) وهما كلمتان رددهما الغزالي كثيرا في دراساته النفسية ، وهما متصلتان ببعضهما اتصالا وثيقا، أما (الرضا) فهو الانعكاس الداخلي للشخص السوي، وأما (الاعتدال) فهو المظهر الخارجي لسلوكه. وقد قرر الغزالي أن منشأ أكثر الفضائل والرذائل هو من ثلاث قوى: قوة التخيل، وقوة الشهوة، وقوة الغضب، وشرح ما في كل منها من عون للنفس أو تثبيط لها. وبعد بيان طويل مليء بالتدليل والتمثيل والنظائر دعا إلى سلوك الاعتدال قائلا: والمحمود أن تكون معتدلة ومطيعة للعقل والشرع في انبساطها وانقباضها، ومهما أفرطت إحدى هذه القوى فكسرها بوسائل منها شغل النفس بالعلوم واكتساب الفضائل .

    أما الرضا فهو نهاية المطاف لمراحل متدرجة تبدأ عند الغزالي بالابتهاج، فالاستبشار، فالارتياح، فالفرح، فالشرح، فالسرور، وأخيرا الرضا. ويفسر ابن تيمية المراد بالرضا بأنه شيئان: الرضا بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ، والرضا بالمصائب التي تحل به. وليس من ذلك الرضا بالكفر والفسوق والعصيان مهما سيق ذلك مساق الحرص على التكيف مع البيئة والظروف المحيطة بالشخص (التوافق) بلغة علم النفس الحديث .

    ومن الحقائق الإسلامية التي لا تدع مجالا لاتهام الإنسان واستزراعه في الشر والانحراف أن كل مولود يولد على الفطرة ".. وفي الحديث القدسي " إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن لا يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا..، وأن الإنسان مأمور بتزكية النفس ومحذر من تدنيسها (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) (3).

    وهذه الأمراض النفسية لها مضاعفاتها المحققة في التصرف والسلوك السلبي والضار.. ولذا كان لابد من المبادرة إلى علاجها بشتى الوسائل.. وعن طبيعة المرض النفسي وحقيقته يقول ابن تيمية: مرض القلب نوع فساد يحصل له يفسد به تصوره وإرادته. فتصوره بالشبهات التي تعرض له حتى لا يرى الحق أو يراه على خلاف ما هو عليه وإرادته بحيث يبغض الحق النافع ويحب الباطل الضار فلهذا يفسر المرض تارة بالشك والريب وتارة بالشهوة المحظورة.. ولهذا صنف (الخرائطي) كتاب " اعتلال القلوب " أي مرضها وأراد به مرضها بالشهوة.. و (مرض القلب) ألم يحصل في القلب كالغيظ من عدو استولى عليك، وكذلك الشك والجهل يؤلم القلب. ثم يقول عن (الاعتدال) مرض الجسم يكون بخروج الشهوة والنفرة الطبيعية عن الاعتدال ، كذلك مرض القلب يكون بالحب والبغض الخارجين عن الاعتدال وهي الأهواء التي قال الله فيها (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم له (4) .

    وعن (الرضا) نجد لدى عدد من الباحثين المعاصرين شبيه ما قرره الغزالي، إذ يربطون ربطا وثيقا بين (الرضا) وبين كل من الميل والاتجاه والتكيف والروح المعنوية العالية، وبعبارة أخرى: إن استجابة الشخص الأولى نتيجة الميل، وهذا الميل يولد الاتجاه الذي يؤدي بدوره إلى الرضا، والرضا يتفاعل مع البيئة فيستقر الفرد ويتكيف فإذا ما انتشر هذا التكيف أدى إلى ارتفاع الروح المعنوية في الجماعة والتجمع.

    وبعد فإنه لا يختلف الأمر قديما أو حديثا ، في أن المرض هو ضد الصحة، وقد تميز الآن بالمفهوم المقابل لمفهوم الصحة النفسية بأية عبارة كانت..

    تقسيم الأمراض النفسية :-
    إن ما يطلق عليه (الأمراض النفسية) ليس هو الوحيد في ميدان الأحوال الطارئة على فطرة الإنسان ووضعه السوي، فهناك زمر أخرى مشابهة في الدور من حيث إحداث الاختلال وإعدام التوافق أو التكيف.. ومن هنا يؤثر أكثر الكاتبين في دراساتهم أن يتطرقوا إلى (الأمراض العقلية) جنبا إلى جنب مع الأمراض النفسية، بل يضيفون إليهما ما يشكل (نقصا أو تخلفا عقليا) أو ما هو من قبيل الأمراض (السيكوسوماتية أي النفسجسمية) وهي أمراض ذات أعراض تنتج عزل حالات نفسية في حين تأخذ أشكالا بدنية، والاهتمام بها لتلافي تنازع الاختصاص بها لازدواج طبيعتها، وهذا فضلا عن زمرة أخرى لم يتناولها الطب النفسي وحده، بل كانت الغلبة في معالجتها للأخلاق والقانون أحيانا من مثل (انحرافات سمات الشخصية) كالجبن والغضب والخجل، أو (اضطرابات السلوك) كالكذب والسرقة، أو (اضطرابات العادات) لدى الناشئة، وهذا التوسع له ما يسوغه في ظل ما يلحظ من غموض وحيرة في حصر هذه الشرائح ، توزيعها. كما أن بينها قاسما مشتركا يجمعها هو أن موضوعها هو النفس (التي سبق تعريفها بما يميزها عن كل من الروح والجسم) ، كما أنها كلها تجانب الفطرة والحالة السوية الغالبة في الإنسان.

    على أن الأجدر بالحديث عنه كمرض يراد علاجه ويؤمل شفاؤه عن قرب، وفقا للأصول ذات الطبيعة النفسية هو ما يطلق عليه (العصاب) وهو كل خلل وظيفي في السلوك لا يكون- بالرغم من إزعاجه- سببا كافيا لإدخال المصاب به إلى مستشفى الأمراض العقلية، وذلك كالقلق والاكتئاب والوسواس والهستيريا.

    وقد أنصف عد من الكاتبين في مشكلات الصحة النفسية حين تحاشوا رسم إطار عام لها أو مبادىء عامة مطلقة تصلح للتطبيق في النواحي الإيجابية للصحة النفسية. وأقاموا عذرهم في ذلك على أن المعلومات عن كثير من تلك المشكلات لا تزال غير كافية ، وهو ما جعلهم يقنعون بالتوجيهات المبدئية إلى أن يحظى هذا العلم الحديث بطابع الحصر والتحديد.. كما أشاروا- للتأكيد على موانع الإقدام على تلك المحاولة- إلى التعقيد الذي تتسم به مشكلات الصحة النفسية (إذا أريد تتبعها في الميادين التطبيقية المختلفة) بل إن قاموس أكسفورد لعام 1970 يقول إن مفهوم الأمراض النفسية والعقلية قد اتسع في العقود الأخيرة ليشمل أكثر من حالات التعاسة العادية التي تصاحب حياة الإنسان. كما ذكر أن هناك اتجاها في بعض المجتمعات (التي تحاول التخلص من السمات الأولية للفقر) إلى إلحاق بعض مشاكل الحياة بمصطلح الأمراض النفسية.

    ولا حاجة للتنويه في ضوء ما سبق إلى الدور الذي يقوم به العلاج الروحي قاطعا جهيزة هذا الغموض والتردد ، والذي لا يزداد مع الأيام إلا شدة وإمعانا في الاختلاف.
    وفيما يلي تسليط بعض الأضواء على أشهر الأمراض النفسية:-

    1 - القلق (ANXIETY)
    ويسمى في لغة التراث النفسي ويعرف بأنه هو الشعور بالخوف الزائد من شر متوقع، والإحساس بالعجز عن مواجهته. وهذه الحالة النفسية المرضية تتميز بعدم الرضا وعدم التأكد وبالاضطراب، وتنجم عن الخوف لكنه خوف مما يمكن أن يقع غالبا، أو مما كان قد وقع، أكثر منه خوفا من أوضاع مخيفة واضحة.

    والتسمية بالحصار تذكر بالحالة النفسية التي تتصف بها بعض الفئات الضعيفة التي تلوذ بالحياد بدلا من الانتماء واختيار جبهة معينة فتعيش في قلق بسبب هذا الموقف المضطرب. قال الله تعالى في شأن من لم تتح لهم ظروفهم أن يهاجروا ليعيشوا حياة دار الإسلام (أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ) (5) ويسمى هذا النوع (الحزن) بفتح الزاي ، إذا كان خوفا لشر متوقع وله حقيقة. أي يخشى وقوعه، فإن كان الشر قد وقع في السابق فإن أثره يسمى (الهم) ولذا جاءت الاستعاذة النبوية تجمع بينهما في جملة واحدة (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن)..أي من قلق ينشأ عن أمور ماضية لا يزال المرء يجش في ظل مخاوفها كالمصائب، أو ما ينشأ من أمور مستقبلية كالوعيد والتهديد أو الخطر المتوهم.

    ولعل مما يوجه الأبصار صوب العلاج الروحي ما لهذا المرض النفسي من جوانب متباينة بعضها منشؤه شعوري كالخوف أو الإحساس بالذنب أو مشاعر التهديد وبعضها لا شعوري ينشأ عن عمليات معقدة تعمل دون وعي، فلا سبيل إلى إدراك العوامل الباعثة، وإذا كان بعضه موضوعيا يمكن وضع اليد عليه لأنه منوط بخطر خارجي أو أذى متوقع فإن البعض الآخر عام غامض لا يرتبط بأي موضوع محدد، ولهذا يعبر عنه المختصون بأنه حالة من التوتر الشامل الذي ينشأ خلال صراعات الدوافع ومحاولات الفرد للتكيف، وهو مظهر للعمليات الانفعالية المتداخلة التي تحدث خلال الصراع أو الإحباط.

    2- الاكتئاب (DEPRESSION):-
    وهي حالة انفعالية تكون فيها الفاعلية النفسية الجسدية منخفضة وغير سارة، وقد تكون سوية أو مرضية وتشير المرضية منها إلى اليأس والشعور الساحق بالتفاهة. وبعبارة أخرى هو: فقد الاهتمام بالأشياء والعجز عن التركيز وإن بعض الحالات، المبالغ فيها قد تتميز بالشعور بالعجز والميل إلى التخلص من الحياة.. والاكتئاب إذا زاد تحول إلى اضطراب عقاب والاكتئاب كثيرا ما يصاحب القلق.

    هذا وإن الاكتئاب في الدراسات التراثية لا يخرج عما يطلق عليه الهم والغم والكرب والحزن، لأنها هي الأعراض التي يطلق عليها في الطب النفسي الحديث " الاكتئاب النفسي".

    3- الخور، وهو يدعى الآن: (النوراستينيا )NEURASTHENIA
    ويقصد به تقليد شكوى الغير، أو كما يقول الشاعر المهجري أبو ماضي:-
    أيها الشاكي وما بك داء كيف تبدو إذا غدوت عليلا

    وهو خلل وظيفي في السلوك يتصف صاحبه بالتعب غير السوي، والشكايات الجسدية غير المستندة لواقع، وهو نوع من العصاب، ووجه ما في التراث من تسميته بالخور أنه عبارة عن الجبن إزاء أمور لا يجبن عنها الآخرون الأسوياء، فهو ينبع من شعور ذاتي فردي يستروح إليه صاحبه دون أن يكون له حقيقة أو مسوغ .

    ولا يخفى أن علاج هذا المرض يكمن في التسلي عن المصائب والتذرع بالصبر، وإدراك النعم الأخرى السابغة على الإنسان مهما ألحقت به من آلام، وسيأتي مزيد بيان لهذا الإجمال.

    4- الوسواس القهري (OPSESSION):-
    وهر وجود فكرة أو انفعال أو إلحاح مستحوذ بصورة مرضية على فرد ما. وبعبارة أخرى: الانشغال بفكرة تافهة ظاهرا لكنها مسئولية على صاحبها بحيث يعجز عن مقاومتها أو إبعادها، وهي تقتحم تفكيره حتى تعطل اهتمامه بغيرها. وعليه يشعر الفرد) أنه ملزم بأداء عمل معين بدون قناعة، لكنه يقع تحت سيطرة هذا الشعور إلى حد العجز عن فالواقع أن الدين السماوي هو نظام إلهي متكامل واجب التطبيق باعتباره معيارا للحق الثابت، وهو هدف أساسي يتبعه كل ما عداه لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به).

    ثم إن هذا لا ينطبق إلا على الدين الحق ، أي الدين السماوي قبل النسخ أو التحريف، فإن الأديان المحرفة، أو الأديان المخترعة من البشر ما هي إلا مجلبة لأضرار لأحد لها على الصحة النفسية للإنسان، بعد ضررها على الدين والعقل.

    إن هناك كلمة وفيرة من المفاهيم الأساسية في التربية وعلم النفس في مجال العلاج، والقدر الأكبر منها مشترك في التعويل عليه، وتتميز إسلامية علاج ما بالربط الوثيق بين جوهره وبين التطبيقات الأصيلة في القرآن والحديث والتراث الإسلامي الذي نشأ في ظلهما. وكثيرا ما تتبين الريادة والسبق الإسلامي في أساليب نحسبها عصرية وذلك كلما تم الكشف عن مزيد من الثروة العلمية والعملية مما لا يفتقر إلا لبعض الروابط ليفهم بموازين العصر و طببقا لأساليب المعرفة الحديثة.

    وقد اهتم الغزالي بالمعالجة النفسية بشكل لم يضاهه فيه غيره، وأودع ذلك في أكثر من كتاب في هذا المجال، ومن أهمها في موضوعنا ، كتابه " ميزان العمل " وكتابه " معارج النفس " فضلا عما في كتابه " إحياء علوم الدين لا من أبواب تحت اسم: كتاب شرح عجائب القلب، وكتاب رياضة النفس ومعالجة أمراض القلب وكتب عن التوبة، والصبر والشكر، والخوف والرجاء. ومما قاله في ميزان العمل: " القسم الثاني- من أقسام العلوم النافعة- العلم العملي وهو ثلاثة علوم (1) علم النفس بصفاتها وأخلاقها، وهو الرياضة ومجاهدة الهوى (وهو أكبر مقصود هذا الكتاب) 0 (2) وعلمها بكيفية المعيشة مع الأهل والولد والخدم والعبيد، فإنهم خدمك أيضا كأطرافك وأبعاضك وقواك. وكما لا بد من سياسة قوى بدنك من الشهوة والغضب وغيرهما فلابد من سياسة هؤلاء. (3) وعلم سياسة أهل البلد والناحية وضبطهم... وأهم هذه الثلاثة تهذيب النفس وسياسة البدن ورعاية العدل (الاعتدال) من هذه الصفات، حتى إذا اعتدلت تعدت عدالتها إلى الرعية البعيدة من الأهل والولد ثم إلى أهل البلد، " فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" .

    إلا أنه يبقى الفرق واضحا بين العلاج النفسي والعلاج الروحي، وربما يتعين لإبداء الفرق الإلمام بأحدهما على الأقل وهو العلاج النفسي للانتقال إلى تفصيل الآخر.

    صور العلاج النفسي معروفة للمختصين، ولغيرهم إلمام كاف بها، وهي المتبادرة كلما ذكر المرض النفسي ، والطابع المميز لها أنها قابلة للتجريب وخاضعة لأصول ومعايير ذات مرونة. ونحن في غنى عن التوسع فيها، ولا سيما مع اشتمال المؤتمر، على قدر كبير من التعريف بها، فهناك العلاج التحليلي، والعلاج السلوكي، ولكل منهما طرائقه، ومن الوسائل التي تذكر، ولها سندها من عموميات المبادئ الإسلامية المتداولة في تراث علماء النفس والتربية والأخلاق .

    أ - التوجيه، ويعتبر أول الطرق الوقائية، وقوامه تقديم المشورة الهادفة إلى جعل تأثيرات المجال الذي يعايشه الشخص متلائما مع الاستعدادات المختلفة لديه سواء كانت استعدادات عقلية كالذكاء، أو انفعالية كالميول ، ويتصف التوجيه بالاستمرارية ولو حصل التدرج إلى إجراءات أخرى .

    ب- الإرشاد: وهو أيضا طريقة وقائية تسلط الأضواء على أحسن سبل التعامل مع البيئة لحل بعض المشكلات التي لم تتصف بالتعقيد وذلك بهدف التعايش مع المجال الخاص بالشخص دون الإخلال بالتوازن بين الجوانب النفسية السوية.

    ج - العلاج: بتقويم الانحراف في أنماط السلوك لدى الشخص، ويكون عادة بعد فوات فرص الوقاية. ولعل هذه إحدى الفوارق عن العلاج الروحي فإنه ليست هناك فرص تفوت بحيث تتوقف الإجراءات الوقائية، فإن تلك الإجراءات معظمها محل خطاب تكليفي من الشرع بدرجات متفاوتة من الفرضية العينية أو الكفائية أو الندب.

    وللعلاج النفسي خطواته من (الشكوى والتشخيص) وهي شكوى لتوصيف المرض، ثم (تفريغ الشحنة الانفعالية) للتعبير عن أسباب الاضطراب.. وهذا ما يتم عن طريق طلب النصيحة والحرص على استشارة المؤتمن.. والتعاون على البر والتقوى.

    كما أن هناك (الاستبصار) المراد منه إدراك الدوافع التي كان الشخص غافلا عنها أو عاجزا عن إدراكها، وما أشبه هذا بتعريف الإنسان عيوبه في مناجاة الناصح غير المتتبع للعثرات، وفي ظل مبدأي (الحسبة) و (الأمر بالمعروف والنهي عن المنح) . ومن ثم يتم (تغيير السلوك) باكتساب الاتجاهات الجديدة والعادات الفضلى ولابد مع ذلك من (المتابعة) التي ستوثق بها من تمسك الشخص بمكتسباته .

    هذا، وإن مثل هذه الإجراءات والوسائل للعلاج النفسي لا تعدو أن تكون عبارة عن قوالب لتنظيم المواقف الواجب اتباعها تجاه الحالات المرضية دون أن تتطلب- بالضرورة- الالتزام بمعطيات محددة في استحضار نوع خاص من (القيم) أو أنماط معينة من السلوك محكوم عليها من وجهة نظر خاصة بأنها سوية. فلابد لمنحها الثقة أو حجبها عنها من تحري ما تشتمل عليه هذه الوسائل وما تكون وعاء له من تصرفات ليست محل تحفظ شرعي. وإلا فما جدوى علاج يشفي عللا ثانوية ويحدث شرخا في أركان الشخصية الإسلامية.

    فإذا روعيت هذه الضوابط فإن المعالج مطلق اليد في التصرف بحكمة والأخذ برصيد معرفة مسلمة لديه آثارها ومأمونة عواقبها ، وملحوظ فيها كل ما يحقق الحظوة للعليل، فإن المجال هنا مجال النفس في مشاعرها وأحاسيسها وليس الجسم في عضويته الآلية.. وللمعالج المسلم استراتيجيته في خطوات العلاج وما يسبقه من توجيه وإرشاد، وفي الإرشاد متسع ل سلوك أكثر من منحى يتناسب مع مقتضى حال المسلم الكامل، وبدون التعويل على (القيم السليمة) والسعي إلى ذيوعها واستحواذها على اهتمام الفرد والتأييد الطوعي التلقائي للمجتمع ستظل الحالة المرضية هي السائدة ، ذلك أن عدم تأصيل القيم السليمة لدى الأفراد والتناقض بين قيم الفرد وما يجده في المجتمع المحيط به هما عاملان في إيجاد أنماط الشخصية غير السوية في حين أن هدف الإرشاد النفسي هو الصحة النفسية لدى الأفراد كخطوة في سبيل صحة المجتمع .

    وهناك- كما في بحث الدكتور محمد رفقي فتحي عيسى، عن علاقة الإرشاد بالقيم- منهجان: (أحدهما) يهتم (بتوضيح القيم) عند الأفراد بمساعدتهم على استجلاء ما لديهم منها عن طريق الأسلوب الحواري بمناقشات محايدة لا يتدخل فيها المرشد. و (الثاني) يهتم (بإخضاع القيم) إلى سلم ارتقائي معياره الالتزام بالواجب بمناقشات أخلاقية تهدف للمستوى الأعلى.. وهذه الدراسة ترى أن في كل منهما عيبا، يكمن في افتراض نسبية القيم وعدم الخلوص إلى حل الصراع النفس في المنهج الأول ، وفي غموض المعيار وعدم الثبات أو الشمول وعدم اتساق المراحل في المنهج الثاني.. ولذا لابد إبدال هذين المنهجين بمنهج آخر هو (تصحيح القيم) وهي عملية تحليل القيم بعد توضيح المعيار الأسمى المتمثل في البناء القيمي الديني المنبثق من الدين الجامع الخاتم (الإسلام) المتميز بالعصمة والثبات والصدق والشمولية. ولئن كانت العمليات متشابهة في كل من توضيح القيم وتصحيحها فإنها في التصحيح تتميز بتحديد القيمة السليمة فتوقظ أسمى قيمة وهي (الإيمان) ويطمئن القلب والوجدان لها كمعيار فضلا عن اتخاذ موقف من البدائل المزيفة وتكون الممارسة للقيمة باعتبارها معيارا يتم الرجوع إليه في الموقف المشكل.

    العلاج الروحي للأمراض النفسية

    مما لا يسو إغفاله في المناهج والدراسات التي تهتم بها (المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية) أن كلا من الجانب الروحي الديني والجانب النفسي المستمد من المبادئ الإسلامية هما من أهم مميزات الطب الإسلامي لأن وجودهما يعزز الأسس والمبادئ المرضية في حياة الإنسان المسلم ، عليلا كان أو معافى، لأن هذا العلاج غير المادي ما هو إلا وجه من وجوه التطبيق للإسلام بعقيدته الصافية وشريعته الوافية، وهو في الحقيقة عنصر مساعد على وقاية (الطب الإسلامي) من آفة الاقتصار على العلاج المادي والتعلق به وإغفال الأثر الثابت لغيره من أساليب العلاج التي تمت بصلة مباشرة إلى العقيدة والأخلاق وهما الجانب البالغ الأهمية في حياة الإنسان .

    وفي هذا يقول ابن القيم، وهو في أبحاثه القيمة يمثل السفير الناجح للجانب الروحي في ميدان الطب والعلاج: طب الطبائعية (يقصد أطباء الجسم) وعلاجهم بالنسبة إلى العلاج النبوي (يقصد العلاج الروحي) كطب الطرقية بالنسبة إلى طبعهم بل أقل. فإن التفاوت الذي بينهم وبين الأنبياء أعظم وأعظم من التفاوت الذي بينهم وبين الطرقية ، بما لا يدرك الإنسان مقداره، فقد ظهر لك عقد الإخاء الذي بين الحكمة (يقصد المعقولات المدركة) والشرع (الغيبيات) وعدم مناقضة أحدهما للآخر ".

    وهناك شعار يمكن رفعه في الدعوة إلى رحابة الصدر بهذا العلاج، وهو مستمد من قول صلى الله عليه وسلم تعقيبا على استعراضه بعض الرقى المتداولة وإقرار ما كان منها خاليا من الشوائب المخلة بالعقيدة أو السلوك الإسلامي حيث قال: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل) وإن تسليط الأضواء على هذا النوع من العلاج إتاحة للنفع ، كما أن من ينكره - عن جهل بمضمونه ومستنداته- يوصد بابا للنفع ويصد عن سبيله، وقد غاب عنه أن (وفوق كل ذي علم عليم) (6) ولم يستحضر الخطب الإلهي جملة وتفصيلا (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) (7).

    والعلاقة بين التوجيهات الدينية والشفاء وثيقة جدا، فالمؤمن كما يدين لخالقه في حال الصحة يستعين به في حال المرض ، والإسلام يقدم علاجات مختلفة متآزرة لإيجاد الإنسان القويم السوي، فكما يحتاج المريض إلى عقاقير الدواء يحتاج إلى عقاقير الفكر المستخلصة من العقيدة، وآثارها عبادة والتزاما.

    والعلاج الروحي إما أن يكون معقول المعنى ميسور الإدراك لمن لديه مبادىء إيمانية، لما يلحظ فيه من الصلة المباشرة بمسلمات دينية تنبثق من الإيمان بالله عز وجل.. ومنها أمور لا يدرك العقل سرها لكنه في الوقت نفسه لا ينفيها لأنها لا تعارض مسلمات العقل، بل كل ما في الأمر أنه لا يستوعبها ولا يضع الإصبع على علة الأثر الذي ينسب إليها، وهذا النوع سيأتي منفصلا على حدة لأنه يحتاج مزيد من التوثيق وكثيرا من التوطئة ، وإطارا من التحرز بعدما دخلته الشوائب وتسللت إليه الغرائب.

    على أن العلاج الروحي المدرك من حيث الصلة المباشرة بين التصرف والأثر يمكن تقسيمه إلى عام دائم تتحقق به الوقاية والأمان من الوقوع في براثن المرض وإلى علاج تستدعيه الحالة المرضية القائمة وهو- بالرغم من عمومية بعضه وصلاحيته لأكثر- من مرض- يعتبر من قبيل العلاج الرافع للعلة فهو يراد به البرء والشفاء في حين يراد من ذاك الأول السلامة واستدامة الصحة..

    هذا ولم يهتم من تعرضوا للعلاجات الروحية بتقسيم مماثل أو مشابه لوقائي وعلاجي بقدر ما اهتموا بإحصاء تلك العقاقير الروحية وأثرها على الأدواء.. وقد أبلغها ابن القيم في معرض علاج (الهم والغم والحزن والكرب) إلى بضعة عشر، بعد أن ورد في مجالات أخرف العلاج بالتعوذات القرآنية، وبالتعوذات النبوية كما تعرض لعلاج حزن المصائب بالتفكير العميق في حقائق الأمور.

    وباستعراض ذلك كله يتبين أن منه العام أو الوقائي، ومنه الخاص الموجه أساسا لمداواة مرض معين.

    وللقاضي بدر الدين الشبلي اختيار آخر للعلاج الروحي يرشد فيه إلى عشرة أمور تهدف إلى معالجة الضعف الروحي الذي يتسرب معه إلى الإنسان التخبط والوسواس الناشئ عن تسلط أهل الشر من الجنة والناس .

    وإن تلمس طبيعة هذه العلاجات كل على حدة، من حيث توقيت اللجوء إليها، يقتضي تصنيفها إلى ما يستهدف به الولاية وما يستهدف به العلاج والاستشفاء..

    على أن التفرقة في العلاج الروحي بين الوقائي منه والشفائي ليست واضحة المعالم لسبب جوهري في طبيعتها وهو أنها في معظمها واجبات دينية ثابتة إما بصورة شخصية (فريضة عينية) أو بصوره جماعية (فريضة كفائية) .

    ولذا قد ينعدم الخيار أو يضعف في الإقدام على سلوك تلك الأساليب والأخذ بها ما دام الشخص ملتزما بواجباته الدينية... ومن هنا تكون ملازمة هذه العلاجات هي الأصل، فإن كان الشخص معافى سويا قامت بدور الوقاية والتحصين وتعزيز المناعة، حتى إذا عرضت له أدواء وعلل، أو كان في غالب أحواله عليل الروح مريض النفس، فتلك العقاقير الروح، هي الدواء الشافي لما ألم به. ومادام الحديث في إطار العلاج الإسلامي روحيا فإن التوغل في وجهات النظر المختلفة ليس ذ بال هنا لأن هذا العلاج ليس عقارا طبيعيا ينفع للبرء من داء دون آخر ولا سيما أن هذه الأمراض أو الأعراض ملة واحدة في مجافاة الفطرة والتنكب عن الطبيعة السوية.

    ولقد استعرض ابن القيم أهم هذه العلاجات (التي يغلب عليها الطابع الوقائي) وبلغت بضعة عشر من الأمور التي يمكن بل ينبئني ، الجمع بينها ليحصل له الدواء الشافي. وعلى رأسها صحة الاعتقاد بتوحيد الله تعالى على النحو الشامل لكل من:

    أ- توحيد الربوبية : وهو اعتقاد العبد أن الله هو الرب المتفرد بالخلق والرزق والتدبير وهو الذي رب جميع الخلق بالنعم، وربى خواص خلقه وهم الأنبياء وأتباعهم بالعقائد الصحيحة والأخلاق الجميلة والعلوم النافعة والأعمال الصالحة.

    ب- توحيد الألوهية : وهو العلم والاعتراف بأن الله ذو الألوهية وله حق العبودية على خلقه أجمعين، وإفراده وحده بالعبادة كلها، وإخلاص الدين له وحده.

    ج- التوحيد العلمي الاعتقادي ، بإثبات كل كمال أثبته الله لنفسه، وتنزيهه عن كل نقص أو صفة لا تليق بذاته.

    والتوحيد الخالص يفتح للعبد باب الخير والسرور واللذة والفرح والابتهاج، وهذه الصفات زاد للنفس، مناعة للروح من أن تعمل، فيها الأسقام.

    وإذا كان منشأ أكثر الأمراض النفسية وأخطرها هو القلق والاكتئاب فإن علاجهما يكون بأمن الإيمان وطمأنينته، وذلك بعقيدة التوحيد التي يوقن فيها الإنسان بأن خالق النفع والضر هو الله عز وجل، ومن ثم فلا يخشى إلا الله ولا يرجو سواه، دون أن يخل ذلك بمواقف التغيير الإصلاحي دون الاستسلام أو العجز. ثم تأتي العبادات معززة لهذه العقيدة فتوثق صلة الإنسان بربه وتجعل له الغلبة على هواه فلا يكون مقهورا تحت وطأة شهواتها أو نوازعه.

    وفي أبحاث المؤتمر الثاني جملة صالحة عن أثر الإيمان والعبادات في توفير الصحة النفسية.

    ثم يأتي العلاج الوقائي التالي وهو استحضار الكمال في صفات الله وأفعاله الجارية في كونه وخلقه، فهو منزه عن العبث والظلم ولله في خلقه شئون وحكم حكيمة لا يضرها عدم إدراكنا لها.. وحسبنا الاعتقاد الجازم بتلك المسلمات العليا والتي تتضمن على ما ساقه ابن القيم أيضا:

    د- تنزيه الله تعالى عن أن يظلم عبده، أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب ذلك.

    هـ- واعتراف العبد بأنه هو الظالم لنفسه كلما كان في المصيبة سمة العقاب. ثم يأتي بعدئذ ما هو توابع لهذه العقيدة الواضحة الصافية، وذلك من مثل:

    و- إقرار العبد لله بالرجاء، وهذا يقطع دابر اليأس القاتل والقلق والاكتئاب.. ومن كان الخير كله بيده فخليق بالإنسان تحقيق الرجاء برحمته، وتفويض الأمر إليه والتضرع بأن يصلح له شأنه كله ولا يكله إلى نفسه.

    ز- تحقيق التوكل على الله والتفويض إليه والاعتراف بأن ناصية الإنسان في يده يصرفه كيف يشاء وأنه ماض فيه حكمه، عدل فيه قضاؤه.

    ولهذه القناعات القلبية وسائل من كسب اللسان، والمناجاة المباشرة بين المخلوق والخالق تعين على تحقيق النتائج ، بما تفصح عنه من مكنون العقيدة ومضمر القناعات السابقة، وأهم هذه العلاجات:

    ح- الإكثار مزج ترداد ( لا حول ولا قوة إلا بالله) مع استشعار المبدأين اللذين تتضمنهما وهما: البراءة من الحول الذاتي ، فلا حائل يقي من لحوق الشر والضرر إلا بالله ، والبراءة من القوة بمعنى المكنة الذاتية على جلب الخير فلا سبيل إليها إلا بالله ، ومما يجدر التنويه به هنا أن كلمة (الحوقلة) هذه للاستعانة بالله ، وليست للاسترجاع من المصيبة- كما يتوهم ، لذا هي علاج إيجابي. وللتصبر على المصيبة العبارة الخاصة المعروفة.

    ط- التوسل إلى الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فإن تلك الوسيلة أعظم الوسائل وأحبها إلى الله وأقربها تحصيلا للمطلوب.

    ي- التوبة، باعتبارها تصحيحا للمواقف والتصرفات الصادرة من الشخص سواء كانت في حق الله ، أو حق العباد وهي إذا كانت توبة نصوحا تزيل كل ما يبدد الطاقة الروحية للشخص ، وتقويه تجاه الضغوط والنكبات النفسية التي يتعرض لها من محاسبة الذات. ولا تخفى صلة التوبة بالتخلص من عقدة الذنب ودفعها الإنسان لاستئناف حياة ومواقف فضلى.

    ك- الاستغفار ، وهو رفع لشعار التوبة، ومتابعة دائبة لها، وتعزيز لافتقار الإنسان إلى ربه ليكفر عنه خطاياه ويزيل عن نفسه شبحها الذي يشده لليأس والقنوط والضعف والسقوط.

    ل- تكوين الشخصية الإسلامية المتبصرة التي تأخذ وتدع ولا يكون الفرد فيها (إمعة) " لا يكن أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس إن أحسنوا أحسنت وإن أساءوا أسأت ولكن وطنوا أنفسكم: إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تتجنبوا إساءتهم "، وهذا يدفع عن الإنسان خطر الانسياق والاستخذاء في مواجهة ما يسود في بيئة ما من أفكار غير سوية أو ما يتعرض له من تحريض على الشر، وتسويل من النفس للإقدام على مالا تحمد عقباه من مواقف .

    م- الاستعانة بلله سبحانه بالدعاء :
    والدعاء لون هام من ألوان العلاج للأمراض النفسية، وهو علاج روحي (إلهي) بالتعبير المستخدم قديما، فضلا عن كونه مظهرا عباديا بل هو مخ العبادة وخلاصتها.

    والدعاء ليس- كما يخيل للبعض- أسلوبا نفسيا لا يقصد لذاته بل لأثره الإيحائي ، بل هو حقيقة قائمة عام مناجاة العبد لخالقه والاستعانة به في كل من حال الصحة وحال المرض (إياك نعبد وإياك نستعين ) (8) فلا صحة للزج بالدعاء ضمن وسائل (التنفيس) أو (الإيحاء) فليست في ذلك إلا طمس الحقيقة والغفلة عن الطبيعة العبادية للدعاء.

    ن- الصلاة:
    الصلاة علاج شامل ، بل صيدلية ملأى بالعقاقير الروحية لشتى أمراض النفس، وهي ليست علاجا فقط، بل مصدر قوة لنفسه تجعله آمنا من المعاناة ، مصداق ذلك قوله النبي (صلى الله عليه وسلم): " أرحنا بها يابلال ".

    وقد عد ابن القيم ما تكون الصلاة عونا على تحصيله من مصالح الدنيا والآخرة ودفع مفاسدها مما لا داعي لسرده، ومداره ما في، الصلاة من شرح الصدور وشفاء القلوب بلذة المناجاة والراحة النفسية باللجوء إلى الله في تأكيد العبودية له وتحقيق الاستعانة به. على أن ابن القيم لم يكتف بما بينه للمسلم من شأن الصلاة، بل نقل الكلام إلى من اتصف بالزندقة فلم يقم وزنا للأديان والعبادة المتقرب بها والمتوصل بها إلى راحة النفس. فدعا هؤلاء للتأمل فيما تستتبعه الصلاة من حركات فيها تقوية للأعضاء وللنفس مما يقوى طبيعة الجسم ويدفع عنه الألم ثم قال: لكن داء الزندقة والأعراض عما جاءت به الرسل والتعوض عنه بالإلحاد داء ليس له دواء إلا نار تلظى!... ولنا ألا نتفق مع رأي من يرى في الصلاة تحقيقا (للاسترخاء).. فإنه معنى لا يفي بمقاصد الصلاة الإيجابية في النفس والجسم.

    س- الجهاد:
    لأنه مصاولة للباطل ومدافعة للطغيان، إن أخل به من يطلب منه اشتد همه وغمه، فإن جاهد في الله حق جهاده بأية صورة مقدور عليها، أبدل الله ذلك الهم والحزن فرحا ونشاطا وقوة (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ) (9).

    ع- القرآن، و خصوصا: الفاتحة والمعوذتان :
    القرآن شفاء لما في الصدور. ومن في قلبه أمراض الشبهات والشهوات، ففي القرآن من البينات ما يميز الحق من الباطل، فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم والتصور والإدراك بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه، وفيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والقصص التي فيها عبرة ما يوجب صلاح القلب.. هذا ما يقوله ابن تيمية ، ويقول القاضي الشبلي: وفي التطبيب والاستشفاء بكتاب الله غنى تام ومقنع عام وهو النور والشفاء لما في الصدور. وخواص الآيات والأذكار لا ينكرها إلا من عقيدته واهية، ولكن لا يعقلها إلا العالمون وتعيها أذن واعية..

    هذا وإن فاتحة الكتاب، بما تضمنته من إخلاص العبودية والثناء على الله، وتفويض الأمر كله إليه ، والاستعانة به وسؤاله مجامع النعم كلها وهي الهداية، تعتبر من أعظم الأدوية الروحية، وموضع الاستشفاء منها هو (إياك نعبد وإياك نستعين ) (1).

    ف- الصوم:
    الصوم وقاية من أدواء الروح والقلب والبدن، وهو علاج روحي إذا روعي فيه مقصوده وأسراره، لأنه أمر آخر غير ترك الطعام والشراب، وذلك هو اجتماع القلب والهمة على الله تعالى وتوفير قوى النفس على طاعته.

    ص- الصبر:
    هو علاج روحي يرفع عن النفس ضغط المصيبة ويريح الشخص من عناء الشعور بالحرمان أو الألم المبرح نفسيا من المكروه الذي نزل به. والصبر مرتبط بالإيمان ارتباطا وثيقا، لأنه يستند إلى الاعتقاد بالحكمة الكامنة في أفعال الله تعالى نافعة كانت أو ضارة بالنسبة للإنسان .

    وللعلماء غوص وتحليل دقيق للبواعث على الصبر والمرتكزات التي تحمل على التلبس به من خلال قناعات هادفة وليس خضوعا للأمر الواقع، فذاك أدق منزلة فيه، وهو صبر لا يثاب عليه صاحبه. وشعار هذه القناعات استحضار قوله تعالى (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ) (11) فإن هذه الكلمة أبلغ علاج لأنها تتضمن أن العبد وأهله وماله ملك لله ، فإذا أخذه منه فهو كالعارية المستردة، كما يتضمن أن مصير العبد ومرجعه إلى مولاه الحق ولا بد أن يخلف الدنيا وما فيها وراء ظهره.

    وممن أسهم في هذه المعالجات النفسية بالصبر للتخلص من القلق والاكتئاب (الغم والهم وألم المصائب) ابن الجوزي، والمنبجي، وابن تيمية، وابن القيم وآخرون. ومما طرحوه من عناصر كثيرة أشير إلى فحوى ما لديهم جميعا دون تكرار، فمن ذلك:

    - أن يعلم أن الدنيا دار ابتلاء، وأنها ذات أحوال، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه.

    - أن يعلم أن المصيبة ثابتة في القدر السابق ولابد من وقوعها. وهذا العلم بالنسبة للإنسان بعد أن تقع..

    - أن يعلم أن الله ارتضاها له، واختاره لها، فالعبودية تقتضي رضاه بما قسم له.

    - أن يعلم أن المصائب رغم خشونتها فهي دواء نافع سيق إليه من الحكيم الخبير.

    - أن يعلم أن المصيبة ما جاءت إليه لتهلكه بل لامتحان صبره واختباره فإن من سنن الله اختبار عباده وتربيتهم على السراء والضراء والنعمة والبلاء.

    - أن يقدر وجود أكثر من تلك المصيبة، ويلحظ أن ما أبقاه الله عليه مثل ما أصيب به أو أفضل.

    - أن ينظر في حال من ابتلى بمثلها، أو بأكثر منها، فيهون عليه مصابه بالتأسي، أو بالتخفيف عنه.

    - أن يشهد الجزاء والثواب على الصبر، من تكفير السيئات ورفع الدرجات، وأن يرزق الخلف الحسن عنها، وأن فوات ثواب الصبر أعظم من المصيبة.

    - أن يراعى حق الله في البلاء وهو الرضا، أو على الأقل الصبر. فأحد هذين واجب عليه.

    - أن يلحظ أن تشديد البلاء هو من خصائص الأخيار والصالحين .

    - أن الجزع لا يرد المصيبة بل يضاعفها، وأنه يشمت عدوه ويسيء صديقه ويغضب ربه ويضعف نفسه.. وأنه وإن بلغ في الجزع غايته فمآله أن يصبر صبر الاضطرار الذي لا حمد عليه ولا ثواب (الصبر عند الصدمة الأولى).

    كما أن هناك درجات للصبر، فأدناها (التصبر) وهو يحصل بتكلف وتحمل على كره. ثم (الصبر) وهو ثمرة التصبر. ثم (الاصطبار) وهو ما يصدر سجية ويرافقه استبشار باختيار الله له. وهو أبلغ من الصبر.

    العلاقة بين الرجاء والخوف .
    لاشك أن الخوف كعلاج نفسي ليست مقصودا لذاته، بل هو لقمع نزوات الغرور والتسيب مما يقع معه الإنسان في نظير ما يعانيه لو لم يبال بشيء، ولهذا وجب في هذا الخوف ليظل سويا أن يكون متوازنا مع الأمل الذي يحمله الإنسان في جوانحه، فلا يبلغ ، به الخوف درجة اليأس والقنوط، وكي لا يظل إدراك الخوف هنا محل استغراب- من حيث إنه ملاحق في علم النفس ومعدود بين الأعراض غير المرغوبة- أشير إلى أن قصارى ما يعود به الخوف على صاحبه أن يورثه شيئا من القلق.، وهو من القلق غير العصابي إذ له خاصية الدافع إلى العمل والتصرف، ولذا ميزوه باسم (القلق الدافع (DRIVEANXIETY) وهي نظرية جديدة مفادها أن مواقف العمل والتعلم يصحبها شعور بالقلق وعدم الارتياح، وهو شعور يدفع إلى الإسراع في إنجاز واكتساب المعرفة، سعيا إلى تخفيض القلق والتخلص منه فيتلوه الشعور بالارتياح .

    ويربط ابز تيمية بين المحبة وكل من الخوف والرجاء بعد أن يجعل المحبة أصل كل عمل ديني قائلا: الخوف والرجاء وغيرهما استلزم المحبة ويرجع إليها، فإن الراجي الطامع إنما يطمع فيما يحبه لا فيما يبغضه، والخائف يفر من الخوف لينال المحبوب (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ) (13) ورحمته اسم جامع ، لكل خير، وعذابه اسم جامع لكل شر.

    علاجات روحية غيبية:
    والذي يجب أن لا نهمله هو العلاج الروحي الديني بمعناه الغيبي غير المحسوس بالإضافة إلى الاهتمام الملحوظ بالعلاج النفسي الذي أخضع للدراسة على صعيد العلم والتجربة أحيانا.. وبذلك نجمع في العلاج بين الأخذ بالأسباب واللجوء إلى خالقها (وإذا مرضت فهو يشفين ) (13).

    والتأثير- كما يقول ابن القيم- غير موقوف على الاتصالات الجسمية، كما يظنه من قل علمه ومعرفته بالطبيعة والشريعة، بل التأثير تارة يكون بالاتصال وتارة بالمقابلة وتارة بالرؤية وتارة بتوجه الروح نحو من يؤثر فيه، وتارة بالأدعية والرقى والتعوذات، وتارة بالوهم والتخيل..

    وهذه الأنواع تأخذ بنصيب متفاوت قربا أو بعدا من المادة المحسوسة الخاضعة للتجريب والضبط بقاعدة. ويهمنا منها ما جاءت في شأنه نصوص مثبتة وتطبيقات شرعية صحيحة النقل.

    والغرض من استعراضها أن تؤخذ في الاعتبار سواء احتيج إلى العمل بها أم لا، فإن من الغبن والخيانة أن تطوى مثل هذه الأساليب أو يتنكر لها لمجرد مجافاتها لما يروج في عصر أو بيئة، أو لما يمتد من تأثير لمبادىء عاشت في قطاعات غير إسلامية.

    ومن الواضح أن العمل بالشيء أو تركه أمر آخر غير التصديق والجحود فتارك العمل الواجب لا يجني إلا على نفسه، أما من يتمادى حتى ينكر الحقيقة الثابتة فإنه يريد أن يجني عليها وعلى كان من يعمل بها.. ولذلك يكون مدانا بالمعيار الذي توزن به هذه الحقيقة وفي نظر جميع من يعتقد ثبوتها عمل بها أولم يعمل .

    على أننا حين نقرر تميز العلاج الروحي ونشير إلى بعض الصور الغيبية لا نلتزم ولا نقبل من صوره إلا ما ثبتت شرعيته بالنصوص الصحيحة بعيدا عن الخرافات والأوهام، وذلك منهج واضح، لأن الإسلام قد وضع الأسس الكفيلة بإبعاد صور الدجل والاستغلال التي يخترعها كثيرون ممن يستغلون حال ضعف المريض واستسلامه لكل من يلوح له بالعلاج.. أن تسليط الأضواء على المنهج الصحيح كفيل بإزهاق الباطل حتى يذهب الزبد جفاء وبإحقاق الحق حتى يبقى ، وهو ما كان قائما على أدعية وتعوذات مشروعة هادفة، ولابد أن يؤدي هذا إلى دحض الشوائب التي علقت بهذا العلاج بسبب الغموض الذي يستغله بعض المشعوذين .

    إن ما جاء في الطب النبوي من علاجات روحية في المرض والوجع واللدغة والإصابة بالعين مما صحت به الأحاديث كله قائم على الدعاء مباشرة دون وسيط بأن يلهم الإنسان سواء السبيل للوصول إلى العلاج الناجع (فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله). وهذا الدعاء يصدر من المريض نفسه أو ممن يتوسم فيه استجابة دعائه بعيدا عن حمل التمائم والحجب.

    علاج الإصابة بالعين:
    لا تخفي صلة الإصابة بالعين بما يطرأ على النفس من انحراف غير جسماني وإن ذلك لا ينشأ عن تصرف مادي يلحق به، وحين تتغير حالة البدن فإن ذلك لا يخرج عن الأمراض النفسية. والإصابة بالعين أصلها من الحسد. ولكن ليس كل- حاسد عائنا ، وكما يقول ابن القيم: لا ينكر تأثير الحاسد بإيذاء المحسود إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية، إذ يلحق بالمحسود من الأذى المعنوي ثم المادي بسبب ما تتكيف به نفس الحاسد من كيفية خبيثة فتؤثر بتلك الخاصية. وتقوم الإصابة بالعين على الرؤية الحاسدة غالبا، وإن كانت نفس العائن لا يتوقف تأثيرها على العين فقد يعتمد على الوصال.

    وأولى المراحل: إعجاب العائن بالشيء، ثم إتباعه بتوجه نفسه على كيفية خبيثة تهدف للإضرار به، ثم تستعين على ذلك بالنظر إلى الشخص المعين .

    ومن الأحاديث الكثيرة في العين الحديث المروى فى صحيح مسلم " العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين " كما ثبت عنه (صلى الله عليه وسلم) الترخيص في الرقية من الحمة (لسعة العقرب ) والغين، والنملة (قروح تخرج من الجنب).

    وعلاج العين منه نوع وقائي يلجأ إليه المتعرض للإصابة، كما يدعي العائن إلى قوله لوقاية الآخرين من لحوق الذي يخافه عليهم، وهذا العلاج الوقائي هو (التبريك) أي الدعاء بالبركة بمثل قوله: اللهم بارك عليه. وكذلك استحضار الربط بين حدوث النعمة وسبق المشيئة الإلهية بأن يقول " ما شاء الله لا قوة إلا بالله).

    وكذلك الدعاء الذي أخرجه مسلم في صحيحه والذي تعلمه (صلى الله عليه وسلم) من جبريل " باسم الله أرقيك من كل دار يؤذيك، من شر كل حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك " مع تعوذات قرآنية كآية الكرسي والفاتحة والمعوذتين .

    أما العلاج للاستشفاء من العين فهو كما ورد في الأحاديث الصحيحة أن يؤمر العائن بالتوضؤ أو الاغتسال، ثم يغتسل منه المعين ، وفي سنن أبي داود واقعة حصلت في عهده صلى الله عليه وسلم. وقد اهتم علماء السنة وخاصة الإمام الزهري بوصف ذلك بالتفصيل.

    وقد أطال ابن القيم الحديث في التكييف العقلي للإصابة بالعين وتعليل العلاج المأثور ليقرب ذلك إلى العلماء الطبيعيين في عصره .. ولا تزال كثير من الأمور تنكشف وتثبيت أشباه تلك المؤثرات غير المحسوسة في قضايا لم تدعم بنصوص غيبية واجبة التسليم بها..

    علاج الصرع غير العضوي:
    مما ثبت عن (أبقراط) أنه ذكر بعض علاجات الصرع ثم قال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة. وأما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج. ونقل القاضي بدر الدين الشبلي. عننه قوله أيضا في شأن بعض المياه الطبية: " إنه ينفع من الصرع، لست أعني الصرع الذي يعالجه أصحاب الهياكل، وإنما أعنى الصرع الذي تعالجه الأطباء " فأثبت نوعا من الصرع لا ينجع فيه العلاج الطبي المعهود لهذه العلة، ولا يزال هذا النوع مائلا للعيان، وإن كان الطب الحديث لا يأخذ بهذا التنويع. مع المشهود من استعصاء بعض الصرع عن العلاج وليس هذا استمرارا للتطبيقات في العلل الأخرى، لأن الحال مختلف فتلك العلل يدخل اللبس في تشخيصها فلا يوقف على الدواء المطابق للداء، وسنة الله التي أشار إليها الحديث أنه " إذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله " وكثير من حالات الصرع المستعصي، يحصل اليقين بوجود الداء ومع ذلك لا يجدي فيه الدواء الناجع في أمثال تلك الحالات مما يدل على أنه حينئذ مرض غير عضوي.

    ولهذا النوع من الصرع في التراث تفسير ثابت بالنصوص، فلا يهمنا بعدئذ أن يستنكره البعض أو يستغربوه، وربما بلغ الحال التنديد به في غمرة ما يلتبس لديهم من الخلط بين صور مزيفة من علاجه وبين صور مرسومة متبعة.

    ولا يتسع آخر المقام في هذا البحث إلا لبيان ما هناك من ضوابط لدى المنوهين به مع الإشارة لموضع الشاهد من النصوص الشرعية المنقولة وبعض التطبيقات:

    أ- الأصل في المرض أي مرض أن يبحث عن دوائه في الأسباب الكونية الظاهرة المقدور على فهمها وتفسيرها، ولذا لا يصار إلى البحث عن علاج آخر إلا عند العجز وسنرى أن الحالات المنقولة في السنة كلها فيها الإشارة إلى أن ما بهؤلاء المرضى قد أعيا الأطباء علاجه.. على أنه لا ينافي هذا أن يحصل (الاقتران) بين العلاج المادي والروحي الذي لا يتنافى اجتماعه مع الأخذ بالأسباب الظاهرة.

    ذلك أن لالتجاء إلى الله وسؤاله شفاء مريض مصاب بمرض غير معروف لا يقتصر على حالة العجز عن تحقيق شفائه.. بل إن ذلك الالتجاء يرافق عملية العلاج للمرض سواء حصل الأمل بشفائه أو العجز عنه.. إنما لا يسوغ الاقتصار على العلاج الروحي ويترك الأخذ بالأسباب الأخرى التي وضعها الله تعالى في صورة قوانين طبيعية، وجاءت الشريعة بالتأكيد على أن الأخذ بها لا ينافي التوكل على الله بل إن عدم أخذها إنما هو عجز وتواكل منهي عنهما شرعا، ومستنكران عقلا وطبعا.

    ب- يدور العلاج الروحي لهذا النوع من الصرع على قراءة آية الكرسي والمعوذتين والدعاء والصلاة ونحو ذلك مما يقوي الإيمان والنفس، ويجتنب كل من المعالج والمريض الذنوب التي بها كان التسلط عليه.

    ج- الإقدام عن، بعض وسائل العلاج الروحي (الزائدة عن الدعاء والتعوذ) من غلظة وشدة وانتهار وتهديد من المعالج موجهة في الظاهر للمريض لا يحل إلا بعد أن يثبت أنه لا علاج له في الطب، أي حتى يستيقن بأن سبب هذا المرض غير عضوي، وأن يكون المعالج موقنا أيضا بسلامة تصرفه وأن تكون عاقبة ذلك مطابقة لما رآه، وإلا لم يكن بمنجاة من القصاص والتعزير. ولذا جاء في الصحيحين عن عطاء بن أبي رباح أنه قال له ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي، فقال: إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك، فقالت: أصبر، قالت: فإني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها. قال بعض الشراح: الظاهر أن ما بهذه المرأة كان من صرع الأخلاط، وشفاؤه طبي، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم بين الدعاء لها للشفاء منه (على سبيل الخوارق للعادات والأسباب الكونية) وبين أن تصبر وتسعى للبحث عن علاجه بالسبل الظاهرة.

    وإلى جانب هذا هناك عدة حالات عالجها النبي صلى الله عليه وسلم علاجا روحيا خاصا، أخرج إحداها أحمد وأبو داود والطبراني من رواية أم أبان بنت الوازع أن جدها انطلق إلى النبي بابن له- أو بابن أخت- وأن هذا المريض أقبل بعدئذ ينظر نظر الصحيح ليس، بنظر الأول " وفي حالة أخرى أخرجها الدارمي وابن عساكر من رواية صحابيين هما أسامة بن زيد، وجابر بن عبد الله وهو أشهر من روى القصة الكاملة لحج النبي، وفي هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم في طريق حجته اعترضته امرأة تحمل صبيا لها ما زال به الصرع ، وإنها رجعت به بعدئذ ولم يعد به شيء تكرهه، وذكر هؤلاء الرواة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في علاجه مخاطبا من تسلط من شرار الجن: اخرج عدو الله، داعيا للمريض معوذا إياه. كما روى المؤرخون في سيرة الإمام أحمد بن حنبل قيامه بنحو ذلك في جارية أرسل بها الخليفة المتوكل وشفائها بدعاء أحمد وتسببه في دفع ذلك الإيذاء. وإنها عاودها ذلك بعد موته فبعث بها المتوكل إلى أبي بكر المروزي صاحب الإمام أحمد فلم يفلح تصرفه في زوال ذلك التأثير. ويشير ابن تيمية وتلامذته، كابن القيم وابن مفلح والبدر الشبلي إلى حوادث عالجها ابن تيمية وشهد بعضها ابن القيم عيانا، وعلق هؤلاء حصول الأثر على ما يتصف به المعالج من صلاح وقوة نفس والتزام بالشرع.

    د- ومدار إثبات هذا النوع من الصرع غير العضوي اعتقاد وجود الجن ونحن جميعا لا حاجة بنا إلى الكلام عن ثبوت الجن وتصرفهم ، ولكن ثار جدل من قديم في مقدرتهم على إيذاء البشر، وفي الكيفية التي يحدث بها هذا الإيذاء، ولم يقتصر إثبات وجودهم على أهل الأديان بل ذهب أكابر الفلاسفة والأطباء إلى الإقرار بهم ، ومن أنكر ذلك وليس معه حجة يعتمد عليها تدل على النفي معه عدم العلم إذ كانت صناعته ليس فيها ما يدل على ذلك، كالطبيب الذي ينظر في البدن من جهة صحته ومرضه الذي يتعلق بمزاجه، وليس في هذا تعرض لما يحصل من جهة النفس ولا من جهة الجن ، وإن كان قد علم من طبه أن للنفس تأثيرا عظيما في البدن أعظم من تأثير الأسباب الطبية، وكذلك للجن تأثير في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ". هذا بعض ما قاله المحدث الفقيه القاضي بدر الدين الشبلي في كتابه " آكام المركان في أحكام الجان " وأورد فيه من الأدلة والأخبار والبيانات التي، نقلها عن عدد جم من العلماء منهم ابن تيمية في شأن الأثر النفسي الذي قد يلحق بالشخص من إيذاء الجن، وبين سبل العلاج الروحي من ذلك بشتى أنواعها ثم حصرها في (10) أمور استدل عليها بنصوص
    القرآن والسنة وتتلخص في:-

    ا- الاستعانة بالله من نزغات الشياطين.

    2- قراءة المعوذتين، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الجان وعين الإنسان، حتى نزلت المعوذتان.

    3- قراءة آية الكرسي.

    4- قراءة سورة البقرة لحديث: إن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يقربه الشيطان.

    5- قراءة الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة.

    6- قراء- أول سورة غافر.

    7- الإكثار من " لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".

    8- كثرة ذكر الله، ومن ذلك المواظبة على الأذكار المأثورة في الحالات المختلفة من أفعال الإنسان وتصرفاته.

    9- الوضوء والصلاة.

    10- إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس، فالتوسع والإفراط في هذه الأمور الأربعة يضعف القوة الروحية للنفس ويجعل من السهل أن يتسلط عليها شرار الإنس والجن.

    وأرى أن بكون ختام هذه النقطة إيراد الأجوبة الشرعية لهيئة الفتوى بالكويت عن أسئلة طرحها أحد الأطباء كالتالي : ــ

    سؤال: نحن نعتقد بالجن باعتبارنا مسلمين إلا أنه ما هو الدليل المستخرج من الشريعة على أن الجن قد يسبب الأمراض وخاصة الأمراض العقلية (النفسية) وما هو الدليل على أن الشفاء يتم باستخراج أو طرد الجن؟

    الجواب: أردت بعض الأحاديث الصحيحة التي تدل على أن الجن قد يتسلطون على ضعاف الناس ويسببون لهم أحوالا مرضية لا يجدي فيها العلاج الطبي. وورد أن بعض هذه الحالات عولجت بتقوية نفس المصاب، وذلك بالتعوذ والأدعية وزجر الجني المتسلط عليه. ولا يقوى على ذلك إلا من كان قوي الإيمان والعزيمة، حتى يكون ، سلطانه على الأنفس الشريرة أقوى من سلطانها. فإذا تخلص المصاب مما كان يعانيه دل ذلك على جدوى العلاج.

    هذا وإن درجة هذه الأحاديث تصلح للأخذ بها عملا ولم تصل إلى درجة أن يبني عليها اعتقاد.

    سؤال: ماذا نقصد بالجن الخير والجن الشرير وما هي الأمراض المتسببة عن الجن؟

    الجواب: الجن- كالإنس فيهم الصالحون، وفيهم المفسدون وذلك بنص القرآن الكريم في قوله ! تعالى (وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا) (14) وقوله أيضا (وأنا منا المسلمون رمنا القاسطون ) (1) ومعنى القاسطين: الجائرون.

    أما ما ينشا عن تسلط الجن ، فهو الصرع في بعض حالاته، وكذلك بعض الأمراض النفسية كالقلق ، والوسوسة والاضطراب في التصرفات المعاشية.

    سؤال: لماذا يفضل (أو يميل) الجن إلى النساء؟

    الجواب: إن كثرة ميل الجن للتسلط على النساء (كما تدل على ذلك الوقائع، وليس على ذلك دليل شرعي) ربما كان من غلبة العاطفة، وقلة التقوى في بعضهن.

    سؤال: كيف نتعرف على أن الجن مسيطر على شخص ما؟
    الجواب: إذا أصيب الإنسان بمرض أو خلل في جسمه أو عقله فإن السبيل التي دعت إليها الشريعة هي الرجوع الى المختصين من الأطباء، فإذا لم يجد العلاج الطبي فإن من المحتمل أن يكون سبب الإصابة أو المرض، غير عضوي . فيضم إليه العلاج الروحي من مثل الأدعية والأذكار وتقوية نفس المصاب والتغلب على تسلط النفس الشريرة المؤثرة عليه.

    سؤال: هل مسموح التعلم بكيفية استخراج أو التخلص من الجن؟
    الجواب: ليس هناك أمور خاصة تحتاج إلى تعلم أو تعليم بل كل ما يحتاج إليه العلاج هو الدعاء بالأدعية المأثورة وترداد الأذكار الواردة ، مضافا إلى ذلك صلاح المعالج وتقواه وقوة نفسه . شيطان وهامة، ومن كل عين لامة. و: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شرما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر طوارق الليل والنهار، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمان.

    -(ومنها):أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون.

    - (ومنها): اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامات، من شر ما أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت تكشف المأثم والمغرم، اللهم إنه لا يهزم جندك، ولا يخلف وعدك، سبحانك وبحمدك.

    - (ومنها): أعوذ بوجه الله العظيم الذي لاشيء أعظم منه، وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى- ما علمت منها وما لم أعلم- من شرما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر كل ذي شر لا أطيق شره، ومن شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، إن ربي على صراط مستقيم.

    - (ومنها): اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، عليك توكلت، وأنت رب العرش العظيم، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم.

    - (ومنها): تحصنت بالله الذي لا إله إلا هو إلهي وإله كل شيء، واعتصمت بربي ورب كل شيء، وتوكلت على الحي الذي لا يموت، واستدفعت الشر بلا حول ولا قوة إلا بالله ، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الرب من العباد، حسبي الخالق من المخلوق، حسبي الرازق من المرزوق، حسبي الله هو حسبي، حسبي الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، حسبي الله وكفى، سمع الله لمن دعا، وليس وراء الله مرمى، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم.
    ــــــــــــــــــــــــــــــ
    المصادر والمراجع

    (1) الرعد / 28 .
    (2) الفجر / 28 ـ 29 .
    (3) الشمس / 9 ــ 10 .
    (4) الروم / 29 .
    (5) النساء / 90 .
    (6) يوسف / 76 .
    (7) الإسراء / 85 .
    (8) الفاتحة / 5 .
    (9) التوبة / 14 ــ 15 .
    (10) الفاتحة / 5 .
    (11) البقرة / 156 .
    (12) الإسراء / 57 .
    (13) الشعراء / 80 .
    (14) الجن / 11 .
    (15) الجن / 14 .


    المصدر : الطب الإسلامي على الإنترنت


    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()