بتـــــاريخ : 7/26/2010 4:43:01 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1433 0


    العراق في تقارير السفير البريطاني كينهان كورنواليس (1941- 1945م)

    الناقل : SunSet | العمر :36 | الكاتب الأصلى : عبد التواب أحمد سعيد | المصدر : www.altareekh.com

    كلمات مفتاحية  :
    المقدمة:
    كان كينهان كورنواليس ((K.Cornwallis  )) خبيراً بالشؤون العراقية، وعلى دراية واسعة بأحوال العراق ؛ لأنه شغل منصب مستشار لوزارة الداخلية العراقية منذ تكوين أول وزارة عراقية بعد تتويج الملك فيصل بن الحسين في 23 آب 1921م حتى عام 1935م ، عندما أنهى رشيد عالي الكيلاني وزير الداخلية خدماته في عهد وزارة ياسين الهاشمي.
    وعندما تولى مهام عمله سفيراً لبلاده أرسل عدداً كبيراً من البرقيات والمذكرات والتقارير إلى مسؤوليه في الخارجية البريطانية، اشتملت على قضايا واسعة ومتشعبة، وقد اخترنا عدداً منها، وتم الاطلاع عليها في دائرة السجلات العامة في لندن P.R.O  ، لتكون موضوع بحثنا هذا، وهي تشكل معلماً مهماً في تاريخ العراق المعاصر، وقد اعتمدنا عليها لتكون الدراسة وثائقية خالصة رغم رجوعنا إلى عدد قليل جداً من المصادر الأساسية الأخرى.
    يشتمل البحث على نقطتين: -
    الأولى: - دراسة التطورات السياسية العراقية فيما بين 1941- 1945م وهي حول أحداث نيسان وما تلاها، وانطباعات السفير بشأن عدة قضايا.
    الثانية: - دراسة القضايا القومية، وهي حول موقف العراق من مسألتي فلسطين وسوريا.
    التطورات السياسية في العراق 1941- 1945م
    مع بداية الأزمة السياسية التي وقعت أوائل عام 1941م ودفعت الجيش إلى الإمساك بزمام الأمور لصالح رشيد عالي الكيلاني في الأول من نيسان من ذلك العام، وكانت السفارة البريطانية في بغداد ترصد الأحداث عن كثب، وتراقب التطورات حتى هروب الوصي على العرش من بغداد إلى البصرة عن طريق الحبانية(1).
    في الثاني من نيسان 1941م وصل كينهان كورنواليس إلى بغداد لتسلم مهام عمله سفيراً جديداً لبلاده، وقد أشار في التقارير الأولى التي أرسلها إلى وزارة الخارجية البريطانية إلى أن رئيس الوزراء الجديد رشيد عالي اتصل بالسفارة عن طريق المستشار البريطاني في وزارة الداخلية العراقية، وطالب اعتراف بريطانيا بحكومته(2). غير أن الإنكليز كانوا في وضع منزعج، فقد امتعضوا تماماً من الانقلاب العسكري وعودة الكيلاني إلى الحكم رغم إظهاره الولاء لمعاهدة عام 1930م باعتبار أن ذلك لم يكن منه إلا ستاراً يخفي وراءه حقيقة تعامله مع ألمانيا لاشتراكها في عمل عسكري إلى جانبه ضد بريطانيا كما قال السفير(3)..
    والحق أن كورنواليس أبدى فيما بعد رأيه، ومن خلال خبرته الطويلة بشؤون العراق، فيما يتعلق بشؤون الحكم قبل أحداث عام 1941م، حيث أشاد بقدرات الملك فيصل الأول 1921- 1933م، وانتقد ما أسماه ((طيش)) الملك غازي 1933م – 1939م وخجل وتردد وجبن الوصي عبد الاله وعدم كفاءته في اختيار العناصر الجيدة لمساعدته، كما انتقد أيضاً قلة وجود القوات البريطانية في العراق، مهاجماً الكيلاني بقوة ؛ لأنه اعتمد على من أسماهم ((زمرة من السياسيين والضباط المتأثرين بالنظام العثماني التركي)).
    وأنهم أصبحوا مقبولين من الشعب بسبب مواقفهم من بريطانيا وأساليبهم المضادة لها، وبسبب ضعف الإدارة والحكم قبل وصولهم، وقوة الدعاية الألمانية التي تولاها رجل نشط متمرس هو الدكتور فرتز غروبا Fritz Grobbe(4)..
    لم تلبث الأحداث أن تطورت بسرعة لتصل إلى الحرب بين القوات البريطانية والجيش العراقي، والتي انتهت بالاحتلال البريطاني الثاني للعراق، ومغادرة قادة الحكم إلى خارج العراق... وخلال ذلك أرسل السفير تقارير عديدة دعا في أحدها إلى ضرورة عودة الوصي على العرش عبد الإله إلى بغداد، وتشكيل حكومة تكون مهمتها الأولى إعادة إنشاء علاقات مع بريطانيا ، وإعادة الانضباط للجيش والشرطة، وطمس معالم دعايات المحور، وإنشاء محاكم خاصة لمحاكمة الثوار... غير أنه تحدث بمرارة عن بقاء العناصر المعادية لبريطانيا في الجيش والدوائر العامة ، وهو ما جعلهم يشكلون معارضة واسعة الانتشار(5)..
    أما الجيش العراقي، فإن السفير وجه إليه اهتماماً خاصاً في تقاريره، فهو يقول مثلاً: "يشكل الجيش عنصراً فعالاً وخطراً لأن مرارة الهزيمة (كذا) تشكل بين أفراده نيران الحقد ضد البريطانيين ، وهي نيران تحت رماد من السكون الظاهر"(6).
    ولاشك أن الإنكليز بذلوا جهوداً واسعة لمنع الجيش من القيام بأنشطة تزعزع النفوذ البريطاني في العراق ، ويلاحظ أن القائد العام للجيش البريطاني في الشرق الأوسط الجنرال ويفل G. Wavell   يدعو في شهر أيار 1941م إلى ((عدم الطلب من الجيش العراقي إلقاء سلاحه شريطة تأكيد ولائه للوصي، وبقاء جنوده شرق بغداد، وقيامه بمنع أية محاولة لتخريب منشآت النفط في كركوك وخانقين)) (7). وكان ذلك أمراً بديهياً ؛ لأن النفط ومنشآته أهم لبريطانيا من أي شيء آخر.
    وحول الشؤون الداخلية العراقية بالبحث نجد آراء السفير واضحة جلية مترابطة مع نظرته للعلاقات التي كان يريدها أن تقوم بين العراق وبريطانيا.

    أ –العلاقات العراقية البريطانية :
    أكد كورنواليس في تقاريره على ضرورة اتباع سياسة خاصة من أجل الاحتفاظ بعلاقات سماها كورنواليس ودية مع العراق أهم سماتها: -
    أولاً: - المعالجة المتفهمة والمتعاطفة مع المشاكل العراقية من قبل الحكومة البريطانية ، وبالذات الاقتصادية المتعلقة بالانتقال من حالة الحرب إلى حالة السلم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إن معالجة كهذه ستجعل هذا الشعب يحس بأنه محاط برعاية الآخرين، وأن ارتباطهم معنا سيعود عليهم بمنافع مادية(8).
    ثانياً: - يجب أن يتحلى كل موظف ترسله بريطانيا إلى العراق بشخصية دقيقة ومطلعة، كما تحدد نفوذ السفير ضمن مهام منصبه فقط، والنفوذ الحقيقي داخل الحكومة يتركز في أيدي الموظفين البريطانيين، وإذا وفرنا رجالاً أكفاء فإنه ما من شك بأن العراق سيطالبنا بالمزيد، ولا يجدي نفعاً أن نفرض الموظفين بالقوة على الحكومة العراقية، ويجب أن نتذكر دائماً بأن العراقيين شديدو الحساسية من الأجانب الذين يتقاضون أجوراً أعلى من الوزراء أنفسهم(9).
    ثالثاً: - من الأهمية بمكان أن نبقي في أيدينا ما قمنا به من الاتصالات الشخصية، كما علينا أن نستمر بالاحتفاظ بهيئات المستشارين السياسيين والعلاقات العامة أطول فترة ممكنة، وعندما يحين الوقت الذي نتخلى عنها يجب أن نعمل على إبقاء بعض المفتشين الإداريين في المدن، ولأجل ذلك يجب أن نعمل على تعيين مستشارين أكثر تكون واجباتهم بصورة رئيسة سياسية واجتماعية، فضلاً عن إعطاء الأهمية البالغة للاتصالات الشخصية التي أهملت لسنوات، وهذه مهمة العلاقات العامة ومنظمة إخوان الحرية التي تشكلت في منتصف عام 1941م، كل هذه الأجهزة تعمل متقاربة ومتفاهمة(10).
    إن أهداف كورنواليس من كل ما تقدم هي:
    1 - ضمان كافة التسهيلات للأغراض الحربية. 
    2 - اقتلاع جذور – النازية – كما يسميها كورنواليس، وتغير وجهة نظر الشعب، وتعزيز موقفه عن طريق توعية الناس بأهمية التحالف مع بريطانيا. 
    3 - التأكيد على الصداقات القديمة (بالشخصيات السياسية وشيوخ العشائر) (11)
    وعندما أعلن العراق دخوله الحرب بجانب الحلفاء ضد ألمانيا يوم 17/1/1943م تحسنت العلاقات أكثر، ولم تعد نظرية بغض الإنكليز موضع فخر البلاد وبين طبقات الشعب، وأبدت حكومة نوري السعيد أعلى درجات التعاون مع بريطانيا، لكن السفير البريطاني حذر حكومته قائلاً: ((يكون خطأ جسيماً الافتراض بأنه في مقدورنا الاسترخاء في المقاعد الخلفية في أمان ؛ لأن المشهد في هذا البلد يمكن أن يتغير بسرعة مذهلة، كما أن المشاكل ستزداد في العراق كماً وتعقيداً كلما انحسرت الحرب أكثر فأكثر عن الشرق الأوسط(12).
    ب –الشؤون الداخلية :
    تشكلت في الثاني من حزيران 1941م حكومة جميل المدفعي ، واستمرت لغاية 21 أيلول 1941م ، بعدها شكل نوري السعيد الوزارة في 9 تشرين الأول 1941م لغاية 23 أيار 1944م، أجرى خلالها تغييراً وزارياً عام 1943م، هذه الوزارة نفذت ما تريده بريطانيا ؛ لأن نوري السعيد كما يصفه السفير البريطاني: "عنصر توازن وذو تأثير في السياسة العراقية ، وأن تعاطفه مع بريطانيا فوق مستوى التساؤل، وهو سهل الاستجابة إلى النصيحة وحازم في أداء واجبه"(13).
    لم يكن مجلس وزراء نوري السعيد منسجماً، فنوري السعيد خاب أمله في وزير ماليته صالح جبر، وبالمقابل فقد غضب صالح جبر على نوري لعدم موافقته على منحه قطعة أرض مساحتها آلاف الأفدنة، كما أن تحسين العسكري قد فشل في وزارة الداخلية، وحتى رئيس الديوان غير أهل لمنصبه ؛ لأن صغار موظفي البلاط يستغلون مراكزهم استغلالاً سيئاً للتأثير في الزوار من القبائل ، وبطبيعة الحال فإن مثل هذا المجلس لم يدم طويلاً ، لذلك تردد نوري على السفير البريطاني لتبادل الرأي معه، وحدث التعديل يوم 23 حزيران 1943م.
    ويصف كورنواليس التغيير الوزاري بقوله: "لم يكن للتغيير أي شعبية ، ولم يحصل على ثقة الوصي على العرش ؛ لأن عبد الإله يبغض توفيق السويدي وعمر نظمي وعلي ممتاز الذين يعتبرهم غير مخلصين له، كما توجد معارضة قوية لنوري السعيد في البرلمان، الذي رفض طلب نوري بحله ، واستطاع المعارضون الصمود بوجه رئيس الوزراء"(14).
    وكانت أول مناورة للمعارضة في البرلمان بخصوص تعيين توفيق السويدي بمنصبه نائباً لرئيس الوزراء، وهي الوظيفة التي أنشأها نوري خصيصاً له، وبعد إحالة الموضوع إلى المحكمة العليا اضطر توفيق السويدي إلى الاستقالة من منصبه، وهذا ما شجع نواب المعارضة للاشتباك أكثر من الحكومة في كل مناسبة، ونصح السفير البريطاني عبد الإله أن يضع حداً لذلك ؛ لأن الوضع غير مستقر ومتأرجح، فالمعارضون لرئيس الوزراء مستمرون في كسب وتجسيم حجم هجومهم، ووصل الأمر إلى نهايته عند مناقشة الميزانية عندما تحول النواب من النقد إلى التشهير ، ثم تلاه صخب وهرج، اضطر بعدها رئيس الوزراء إلى وقف الجلسة، بعدها قدم نوري استقالته إلى الوصي موضحاً أنه من المستحيل عليه الاستمرار في منصبه دون تأييد الوصي تأييداً كاملاً وصريحاً ومعلناً(15).
    وبعد أن ناقش كورنواليس وعبد الإله وضع مجلس الوزراء أعطى عبد الإله لنوري السعيد مهلة أمدها 2- 3 أشهر، وأوضح الوصي للسفير أنه إذا اضطربت الأمور فلن يحاول تسويتها، ورد عليه كورنواليس بضرورة مساندة المجلس إلى أن يثبت فشله أو يغيره فوراً، أما إتباع سياسة الوسط فلابد أن يترتب عليها شد وشك، وأشار السفير إلى أنه خلال العامين ونصف الأخيرة طرأت على مجلس الوزراء تغيرات مستمرة نتج عنها عدم إعطاء الوقت الكافي أو الثقة للوزارة لكي تعمل على الإصلاح(16).
    عند البحث عن بديل لنوري السعيد يقول السفير: "لم أر شخصية مناسبة، فإبراهيم كمال كان هو البديل الوحيد، لكني سمعت من جميع الأطراف أنه لا يستطيع النجاح، ووافقني الوصي على ذلك ، وكان يعتقد أنه لا أمل في مجموعة إبراهيم كمال، وأنه لا يستطيع الاستعانة بغيرهم".
    في مثل هذا الموقف كان السفير متشائماً، وقد عبر عن ذلك بقوله: "يبدو أننا على وشك مواجهة وقت عصيب"(17).
    على أي حال كلف عبد الإله حمدي الباجه جي لتشكيل الوزارة ، وبعد 15 يوماً من التكليف تشكل المجلس في 3 حزيران 1944م الذي عرف في كل مكان على أنه من صنع الوصي ، وقد عرض حمدي الباجه جي منصباً وزارياً لكل من نوري السعيد وإبراهيم كمال، ولكنهما رفضا ؛ لأن نوري بحاجة إلى الراحة بينما لم يرض إبراهيم بديلاً عن منصب رئاسة الوزارة ، وفي بيان تشكيل الوزارة أبدى الباجه جي اسفه لعدم إعداد برنامج مكتمل لحكومته، لكنه أكد على أن المجلس أمامه ثلاث مهمات:
    1 - تحسين وتنظيم شؤون التموين. 
    2 - اتخاذ كافة الوسائل لتخفيف الاستقرار والأمن. 
    3 - رفع كفاءة موظفي الحكومة واستقامتهم(18).
    لم تستمر حكومة حمدي الباجه جي لفترة طويلة، لانعدام الانسجام فيها فحدثت أزمة وزارية ، يعلل سببها كورنواليس بقوله: "عندما تبلغ حرارة الطقس أقصاها كالمعتاد في منتصف الصيف تتوتر الأعصاب فتنشأ الأزمات عادة في مجلس الوزراء، ففي آب 1944م اختلف وزير الدفاع مع زملائه الوزراء على مشروع الجنرال رنتون Renton   لإصلاح الجيش، وبعد إجراء التعديل الوزاري على المجلس بوقت قصير استقال الباجه جي في 25 آب 1944م، لكنه كلف بتشكيل الوزارة مرة أخرى، فشكلها في 29 آب 1944م"(19).
    أن التشكيل الوزاري الجديد لم يختلف عن الذي سبقه، فوزارة التموين التي رأسها أكثر من وزير خلال بضعة شهور حظيت أخيراً بوزير كان يشغل وظيفة مدير عام التموين ورقي إلى مرتبة وزير، ويعلق كورنواليس على ذلك قائلاً: "لم يوجد سياسي قدير ومعروف على استعداد لقبول هذه الوظيفة المثيرة للأحقاد".
    وتم إجراء تعديلات أخرى في تشرين الثاني 1944م في وزارتي الشؤون الاجتماعية والدفاع، ويسود الهدوء مجلس النواب فيما عدا إشارات تشير إلى أن رئيس الوزراء المقبل نوري السعيد(20).
    جـ - نظرة السفير إلى الرأي العام) :
    بعد مرور عام على ثورة مايس 1941م تمت محاكمة قادة الثورة ، وصدرت بحق بعض منهم حكم الإعدام الذي نفذ في آيار 1942م، ويبالغ كورنواليس في وصفه للإعدامات وإلى أي مدى كان تأثيرها فيقول: "اظهرت التقارير أن أحكام الإعدام ينظر إليها عموماً بمثابة عقاب عادل" - وهذا لا يتفق مع رأي شعب العراق – ويضيف كورنواليس قوله: "التخوف من الألمان لا يزال أكثر من أي وقت مضى، ولم تعد لهم أي شعبية كما كان في السابق".
    أما العسكريون فقد وصف لنا كورنواليس وجهة نظرهم بقوله: "إني لا أدافع عن الجيش العراقي ، ولكني أتساءل عما إذا ما كان موالياً لألمانيا كما كان يبدو فلماذا لم يعبر عن شعوره خلال محاكمة أعضاء اثنين من القادة الأربعة، وبعد إعدامهم، وكان يمكن أن يُرى على الأقل بعض علامات القلق في أثناء تلك الفترة، ولكن لم يردني تقرير واحد يشير إلى حدوث ذلك"(21).
    لم يدافع كورنواليس عن الجيش العراقي كما قال، لكنه ذكر حقيقة ، ونسى أن الجيش العراقي بعد فشل الثورة تحجمت قوته من خلال عملية التسريح والإحالة على التقاعد لخيرة الضباط.
    ويبقى من المهم إلقاء نظرة على الوضع في شمال العراق والتأثيرات الفكرية على المجتمع العراقي حسبما نظر إليها السفير، فالشيخ محمود(22) في شمال العراق رجل فوضوي متعجرف كثير المشاكل التي يثيرها أمام الإدارة والحكومة التي فرضت سلطتها بالتعاون مع القوات البريطانية... وتفاوضت مع الشيخ محمود الذي طالب بمطالب معينة جعلت الوزارة ترفضها ؛ لأنها خطوة أولى واسعة نحو الحكم الذاتي(23) لكن الأمر الذي يهم السفير لم يكن إضعاف أو عدم إضعاف الحكومة في بغداد ولا خداع الشيخ محمود المتمرد، وإنما عدم قيام أي شخص أو زعيم بعرقلة المجهود الحربي البريطاني(24).
    وخلال عام 1945 كان كورنواليس على وشك الرحيل عن العراق بعد انتهاء مهامه، شهد العراق تطورات مهمة مع انتهاء الحرب الثانية، عندما أرسل السفير أفضل تقاريره التي تعلقت بالوضع العام في العراق، ونظرته للرأي العام وأرائه بشأن المستقبل، فالهدوء سمة واضحة في العراق بعد فشل ثورة الكيلاني، لكن ذلك لم يكن ليدوم فترة طويلة أو يمكن لأحد الاطمئنان إليه، ذلك أن النار التي ظلت تحت الرماد كما عبر عن ذلك القائد العام البريطاني جعلت إمكانية التغيير الدراماتيكي والسريع للوضع أمراً ممكناً مع عدم الوثوق بأي ضمان(25).
    لم يكن الرأي العام بعيداً عن تفكير السفير فهو ينبه مسؤوليه إلى أهمية تأثر الجماهير بما تسمع، ويصف تلك الجماهير بأوصاف سيئة متمنياً نجاح الحكومة في بغداد بالتصدي للجماهير إذا لزم الأمر، ويورد هنا عبارة مهمة وصريحة تقول: "لا أحد في بريطانيا يدرك كم هو صعب حكم العراق حتى في وقت السلم"(26).
    شارحاً العوامل التي تقف وراء تلك الحقيقة، منها سنوات التخلف الطويلة التي عاشها البلد، ووجود نزعات مختلفة ، وحقيقة وجود تباين شاسع بين سكان المدن والبدو المسلحين، ثم مشاكل الحدود مع جيران العراق، وأخيراً مشكلة التمرد المزمن في شمال العراق ، والتي تبدو مصدراً للتوتر الشديد(27).
    ومع إن عدداً من العوامل يبدو منطقياً فإن الأمر الذي لم يشر إليه السفير هو أن بريطانيا نفسها مسؤولة عن بعض تلك العوامل.
    ومن الجدير بالذكر إن السفير البريطاني كان يؤمن بأن الاستقرار لن يدوم فترة طويلة، فهناك ((أحقاد شخصية، ونزاعات داخلية، وضعف في الانسجام، وانحسار للروح الجماعية بين فئات الشعب، وتصميم سيء من الحكم القائم على استمرار الوضع على حاله)) (28).
    إنها عوامل مؤذية حقاً شكلت واقعاً في الأربعينيات، وسعى المخلصون إلى تجاوزها مع السنين، وكان للمثقفين دور كبير في هذا الشأن، غير أنهم في نظر السفير كانوا مندفعين نحو ما أسماه ((الأفكار السياسية السوفيتية دون إدراك منهم بطبيعة النظام السياسي السوفيتي حتى أصبحت الشيوعية واجهة تختفي وراء ستارها المعارضة النزيهة وغير النزيهة لتظهر بمظهر التقدمية)) (29).
    إن الوضع الذي بدأ يتبلور مع نهاية الحرب كان مؤشراً على بداية مصاعب أخذت تتسع مع الأيام لتصبح أصعب ما يواجه الإنكليز، وهم يدعمون نظاماً حاكماً تقليدياَ دون ظهور فريق حاكم جديد يمكن التعامل معه ؛ لذلك فإن السفير يقول بصراحة: "إن مشكلة العراق الحقيقية ليست معنا، بل هي مع أولئك الحكام الذين يرفضون بعناد التنازل عن أي من امتيازاتهم للآخرين، مع خوفهم من المستقبل بعد تحذيرنا لهم من مخاطر المستقبل... وأن صداماً سيحدث بين من يملكون والذين لا يملكون"(30).
    ورغم المرارة التي كانت ظاهرة في تقارير السفير الأخيرة، فإن التمسك بوجهة النظر البريطانية في العراق بدت واضحة أكثر، إنه يشير بصراحة إلى أن الوجود البريطاني في العراق ومع نهاية الحرب كان قوياً جداً، لكن ذلك الوجود قد يتدهور رغم نموه المستمر خلال الحرب الثانية، ويبادرنا السفير بسؤال مهم حيث يقول: "إذا كان العراق غير ذي أهمية لنا فإنه يتعين علينا الجلاء عنه... ولكنه في الواقع مهم جداً بسبب موقعه الاستراتيجي والنفط والمواصلات... وإن بريطانيا لن تتركه هدفاً لأطماع الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية... ويجب عدم السماح لموقفنا في العراق بالتدهور"(31).
    إنها نظرة شاملة وبعيدة، تلك التي كتبها كورنواليس، فالعراق مهم جداً لبريطانيا، ولم يكن سهلاً عليها أبداً التخلي عن نفوذها هنا لدول أعظم منها، لكن ظروف ونتائج الحرب العالمية الثانية، فرضت على بريطانيا تنازلات وتنازلات كثيرة وكبيرة في العالم.
    ولأجل العمل على إبقاء النفوذ البريطاني قوياً في العراق أطول مدة ممكنة ((فإن توثيق الروابط بين الطرفين على أسس من التعاطف والتفهم، وحل المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد العراقي، وإشعار المواطنين العراقيين بأنهم محط رعاية الآخرين، كل ذلك كفيل بالنجاح في المساعي البريطانية من أجل عدم إضعاف العراق ؛ لأن إضعافه إنما هو إضعاف لبريطانيا وإيذاء لها، وإن على من يتعامل مع العراقيين أن يتجنب جرح كبريائهم ؛ لأنهم شديدو الحساسية والعاطفية)) (32).
    هكذا إذاً كانت الحقيقة، وهي أن إضعاف بريطانيا هو إضعاف للعراق والعراقيين، حتى إن السفير يطلب من مسؤوليه الكف عن أي موقف أو قرار يؤذي العراقيين... وينصحهم – ينصح المسؤولين الإنكليز – بإرسال شخصيات تمتلك خبرة عالية لتتولى وظائف تحتاج إلى الكفاءة، وتشعر الشعب هنا بأنها تستلم رواتب أو أجوراً عالية ؛ لأنها كفوءة ونشطة نظراً لحساسية العراقيين القوية تجاه الأجانب وأجورهم العالية ، والإبقاء على جسور الاتصال غير السياسية بين الإنكليز والعراقيين، ومنها تعزيز الروابط الثقافية والعلمية من خلال المعاهد البريطانية(33).
    ثانياً – القضايا القومية:
    أ – العراق والمسألتان الفلسطينية والسورية:
    أظهر العراق اهتمامه الكبير بالقضايا العربية وخاصة بعد استقلاله عام 1932م، ثم جاءت أحداث عام 1941م لتؤكد ارتباطه الوثيق بالقضايا القومية عندما استهدف الرجال الذين قادوا الحركة الثورية، تحقيق الوحدة بعد تحرير العراق وسوريا وفلسطين... لكن الحركة انتكست وتعرض العراق للاحتلال ، وعاد رجال الحكم المتعاونون مع بريطانيا إلى السلطة.
    ومع إن الرجال الذين حكموا العراق بعد عام 1941م قد أدركوا عظم المشاكل التي يواجهونها في الداخل، فإنهم انغمسوا بالمسائل العربية حتى وجدت السفارة البريطانية نفسها في وضع صعب بسبب اهتمامات الحكومة العراقية بالقضايا العربية، فكتب كورنواليس مذكرة تتحدث عن اهتمام نوري السعيد بقضايا عربية تدفعه إليها ((أوهام التطلع إلى أقطار أخرى... رغم إدراكه التام لمدى الضرر الذي أصاب العراق جراء المغالاة بالاهتمام بالمسألتين السورية والفلسطينية)) (34).
    إن تلك (الأوهام) و(المغالاة) التي يتحدث عنها السفير البريطاني هي التي دفعت بريطانيا وبمساعدة جلية من الناشطين الصهيونيين إلى الدخول في حرب مع العراق ومن ثم احتلاله... لكن الأمر الذي أقلق السفير هو استمرار الاهتمام الرسمي بالمسألتين الفلسطينية والسورية حتى ما بعد الاحتلال.
    في ربيع عام 1943م جرى لقاء بين السفير ورئيس الحكومة نوري السعيد، وخلال اللقاء أعرب السعيد عن أمله في ألا يدلي الساسة الإنكليز بتصريحات تثير مشاعر العراقيين بشأن فلسطين مما يدفع باتجاه عقبات صعبة الحل(35).
    إذاً لم يكن اهتمام السعيد بالتطورات الفلسطينية نابعاً من أوهام خاصة بإقامة إمبراطورية عراقية، بل من اهتمامه خاصة بالاستقرار الداخلي مع مشاعره العربية... ووجدت مواقفه تلك اهتماماً من الجهات البريطانية عندما قام كورنواليس بإبلاغ حكومته عن ((مدى المتاعب التي يمكن أن تواجه بريطانيا في العراق بسبب مشكلة فلسطين التي يمكن أن تفسد كل شيء مع شعب تثيره الانفعالات بسهولة)) (36) ذلك أن التطورات المتلاحقة للحرب الرهيبة في أوربا جعلت الإنكليز يتخوفون من عمل ثوري جديد يعرقل مساعيهم الأساسية في الحرب، ولذلك وأدوا أي عمل ثوري في فلسطين يثير مشاعر العراقيين، ومن ثم حدوث فوران جديد(37).
    يعيد كورنواليس عوامل الإثارة في العراق إلى وجود المفتي الحسيني في العراق قبل أحداث عام 1941م وخلالها، مما تسبب في تهديد وضع بريطانيا هناك بشكل خطير، ودفع الكيلاني وصحبه إلى تحدي بريطانيا ، ودفع الذين جاؤوا بعد فشل الحركة أيضاً إلى تبني سياسة قومية بالنسبة لفلسطين، وهي سياسة ستؤدي كما قال إلى: ((احتمال حدوث أضرار خطيرة للمصالح الإستراتيجية البريطانية في العراق ، خصوصاً إذا استمر التأييد الأمريكي البريطاني للحركة الصهيونية وأنشطتها)) ) (38).
    ولأجل تهدئة الأوضاع والنفوس وربما لإرباك العناصر الشعبية المؤيدة لعرب فلسطين في المدن العراقية والتي يتخوف السفير من وصولها للسلطة في بغداد[39] فقد بادرت وزارة الخارجية البريطانية إلى تقديم مشروع سري يستهدف حل المشكلة الفلسطينية بتقسيم فلسطين.. ويبدو أن كورنواليس أطلع المسؤولين في بغداد على ذلك المشروع ، وخرج بانطباع سلبي حين قال في مذكرة له: "إن مشروع التقسيم سيجعل الصدام بين العرب واليهود أمراً محتملاً، بل إنه سيديم الصراع بينهما لآماد طويلة"(40).
    ووقع الصدام حقاً ودام الصراع فعلاً، لكن المسألة الجوهرية التي لم يشر إليها السفير هي أن بلاده كانت المسؤولة تماماً عن ذلك، لكنه على أي حال حذر حكومته من مغبة احتمال ردود الفعل العربية والعراقية، وطالبها بالإسراع في إيجاد حل للمشكلة موضحاً أن أي تأخير في ذلك سوف يزيد من حالة الإحباط لدى الجماهير العراقية التي تدرك ((اتساع الهوة بين العرب واليهود تنظيمياً ومالياً وإعلامياً – وعدم إدراك السلطات لمدى اتساع الدعاية الصهيونية العالمية)) (41).
    كم كان قاسياً ودقيقاً ذلك الحكم الذي أصدره كورنواليس، فالجماهير تدرك والسلطات لا تدرك، ومن هنا نجد ضجة واهية لا قيمة لها حدثت في عامي 1943م و1944م تحت إشراف السلطات لوقف التأييد الواسع المدى للصهيونيين في الولايات المتحدة خاصة، وتمثلت في إرسال برقيات للأحزاب الأمريكية يحتج فيها مرسلوها على التأييد الأمريكي.. وفي تصريحات رسمية تدعو إلى الانتظار لما بعد الانتخابات الأمريكية ، وربما لما بعد انتهاء الحرب(421).
    ولم تكن تلك الوسائل قادرة على مواجهة أو مجاراة الصهيونيين وأساليبهم ، فكان طبيعياً أن يكون الكفاح العربي مبتوراً منذ بدايته وحتى وقت لاحق.
    أما سوريا ولبنان فإن كورنواليس كتب حولهما عدة تقارير تظهر مدى اهتمام العراق بشأنهما.. فقد صرح عدد من رؤساء الحكومات السابقة بتصريحات تنم عن الأمل في قيام الحلفاء بمساعدة سوريا على تحقيق استقلالها(43).
    مع اقتراب العالم من السلام وتحقيق الحلفاء لانتصارهم على ألمانيا في أيار/ مايس 1945م، فإن حصول سوريا ولبنان على استقلالهما أصبح قريب المنال وتوضحت معالم أهمية البلدين بالنسبة للعراق اقتصادياً... وسياسياً فضلاً عن العامل القومي... لكن كورنواليس يضيف إلى ذلك قائلاً: "إن سوريا ولبنان أهم من فلسطين للعراق، وإن العراقيين يأملون في وقوف بريطانيا إلى جانب استقلال سوريا من فرنسا"(44).
    ولو نظرنا بإمعان إلى العبارة التي أوردها السفير لأدركنا حقيقة الموقف البريطاني الذي كان يعمل بكل جهد مستطاع لتغييب فلسطين ونسيانها لكي تصبح يهودية، فيما كان العراقيون مهتمين بشؤون فلسطين مثلما هم مهتمون بسوريا ولبنان والمغرب العربي في سبيل حصول تلك الأقطار الشقيقة على استقلالها يحدوهم الأمل في أن يكون ذلك مقدمة لتحقيق الوحدة العربية.
    ب – العراق والوحدة:
    خلال المدة التي قضاها كورنواليس سفيراً في بغداد أرسل عدداً من التقارير تحدث فيها عن قوة المشاعر الوحدوية في العراق، مذكراً المسؤولين الإنكليز بالمبادرات التي صدرت عن العراق منذ وقت مبكر في سبيل تحقيق هدف الوحدة، وتزعم هذا البلد للحركة القومية العربية، وتعاطف شعبه مع أي إنجاز سياسي عربي وحدوي، وتركز ذلك التعاطف منذ أواخر الثلاثينيات، وجرى اهتمام مؤقت بالحرب عند بدايتها... ثم عاد الاهتمام بالوحدة ببروز تيارها الرامي إلى بعث الأمة وإقامة وحدة متماسكة للعرب تكون بدايتها باستقلال سوريا وفلسطين تمهيداً لتوحيدهما مع العراق بمساعدة دولة كبرى لحين تتمكن الدولة الاتحادية من الاعتماد على نفسها بلا مساعدة(45).
    ويتحدث السفير في تقريره المسهب ربيع عام 1943م عن زعماء الوحدة في العراق، ونجده يقول: "إنهم يتمتعون بتأييد طيب من الجماهير، وإن هؤلاء الزعماء مرتاحون للانكليز ، ويتصورون أن أماني العرب يمكن تحقيقها بالتعاون الوثيق والودي مع بريطانيا... إلى جانب مجموعة من الشباب ترى القيام أولاً بإصلاحات أساسية اجتماعية واقتصادية قبل تحقيق الوحدة الكاملة"(46).
    كانت الوحدة تطوراً مؤلما للإنكليز، ولو قالوا غير ذلك، ومن أجل إبعاد العراق عن الوحدة والاهتمام بها، فإننا نجد كورنواليس يكتب إلى ايدن – وزير الخارجية – تقريراً حول الاهتمام العراقي بالمسألة الفلسطينية ليورد في نهاية التقرير أخطر فكرة قدمها للمسؤولين الإنكليز حين قال: "إن من الحكمة العمل على إبقاء العراق معزولاً قدر الإمكان"(47).
    لكن السفير لا يتمسك بحكمته تلك بعد التطورات اللاحقة حيث أشار إلى أن الوحدة لا تضر بالمصالح البريطانية لو قامت بين العرب وأنه ينبغي على البريطانيين ((ألا يوقفوا تياراً سوف يشتد مع السنين)) (48). مضيفاً إلى ذلك قوله في تقرير آخر ((إن من الأفضل لبريطانيا أن تتعامل مع العالم العربي كدولة واحدة)) (49).
    فيما بين 1942م وعام 1945 تحددت الوحدة ومسألة العمل لتحقيقها من خلال تطورات ثلاثة هي: تصريح ايدن وزير الخارجية البريطانية ، ومذكرة نوري السعيد المعروفة بالكتاب الأزرق، ومباحثات الجامعة العربية،
    ففي 29 أيار 1941م صرح ايدن في البرلمان البريطاني بأن حكومته ((تؤيد أي مشروع يوثق الروابط الثقافية والاقتصادية بين البلدان العربية ، ويحظى بموافقة جماعية منها)) (50) ولم يلبث أن صرح بتصريح آخر بعد فترة من الزمن تاركاً مسألة الشروع بالاتحاد العربي إلى العرب أنفسهم(51).
    وفي أعقاب التصريح البريطاني الرسمي بادر نوري السعيد إلى العمل لتحقيق الاتحاد العربي وتبلور نشاطه في المذكرة التي كتبها وعرفت بالكتاب الأزرق، وانطوت على مشروع اتحادي هاشمي عرف بمشروع الهلال الخصيب، وأرسل المذكرة إلى وزير الدولة البريطاني ريتشارد كيسي في القاهرة بتاريخ 14 كانون الثاني 1943م(52).
    وبعث كورنواليس بأول تقويم له للمذكرة بعد دراستها، فكان تقويمه سلبياً رغم الإشادة بها، فقد وصفها بأنها ((تؤثر في عواطف القراء وتبعد أفكارهم عنها، ولا تأخذ بالمصاعب العملية لتنفيذ مشروعها.. لكنها وثيقة ستكون بالغة الأهمية)) (53).
    وانزعجت الحكومة البريطانية من مذكرة نوري السعيد ، لأنه أرسل نسخاً كثيرة منها للخارج، لكنه أكد شخصياً للسفير أنه أرسل تلك النسخ بموافقة الحكومة البريطانية وعلمها(54) أي أنه لم ينفرد بالتصرف بموقفه ، لكن الخارجية البريطانية غضبت لأسباب عديدة لعلها تتعلق بالقلق من تزعم العراق ثانية لمساعي الوحدة ومبادراتها، أو بسبب القلق من الاهتمام العراقي بالولايات المتحدة بعد تسلم مندوبين أمريكيين نسخاً من المذكرة، وقد يكون السبب ما سببته المذكرة من ألم وازعاج لعدد من المسؤولين العرب المتعاونين مع الإنكليز ومنهم ابن سعود.
    ولكن نوري السعيد لم يترك الفرصة تضيع، فقد اجتمع مع كورنواليس ، وأبلغه بتطورات مشروعه الوحدوي ، مشيراً إليه في ذلك الاجتماع إلى أن العراق لا يعمل مطلقاً على إثارة المتاعب للحكومة البريطانية(55) لكن الخارجية البريطانية أبدت قلقها من المتاعب التي أثارتها المذكرة في أعقاب قيام نوري السعيد بإرسال مبعوث شخصي عنه إلى سوريا ولبنان وفلسطين، لإقناع المسئولين العرب في تلك الأقطار بمشروعه، لكن المبعوث فشل في ذلك حسبما أورد السفير(56) لذلك فإن نوري السعيد بدأ العمل بنفسه لإقناعهم، واقترح أمام السفير لأول مرة ((فكرة عقد اجتماع عربي وحدوي موسع في القاهرة وليس في بغداد)) (57).
    كانت تلك أولى المبادرات العملية لإقامة جامعة الدول العربية ، وأساسها مذكرة نوري السعيد، والذي لم يلبث أن توجه بنفسه إلى القاهرة ، واجتمع مع رئيس الحكومة المصرية مصطفى النحاس، مكرراً عليه فكرة إقامة وحدة تضم العراق وسوريا ولبنان وشرق الأردن وفلسطين.. لكنه اقنع النحاس بعقد مؤتمر عربي تحضيري للوحدة، فيما فشل في مسعاه سواء في عمان أو في الرياض والقدس(58).
    وعلى الرغم من استمرار نوري السعيد في تشبثه الواضح بمشروعه فإن الإنكليز سعوا إلى إهمال وإسقاط المشروع، وزادوا من اهتمامهم بفكرة الاجتماع العربي الموسع والمقترح على النحاس من قبل نوري السعيد، والذي كان مقرراً له أن يضع خطة عمل لقيام نوع من الاتحاد العربي(59) وهي خطة لم ير فيها السفير خطراً على بريطانيا ؛ فقد كتب إلى أيدن يقول له: "إن قيام اتحاد عربي اليوم ليس وارداً إلا أن الإمكانية المتاحة هي في عقد اتفاقيات ثقافية واقتصادية بين العرب"(60).
    وأدت الجهود العراقية الحثيثة إلى إقناع المسئولين العرب في أقطار عديدة لعقد مؤتمر في الإسكندرية ، حيث تم إصدار ميثاق الإسكندرية الذي كان ميثاقاً للجامعة العربية ، والذي رحب به العراقيون خاصة ، ووجدوا فيه أملاً في تحرير فلسطين، لكن السفير كورنواليس أبدى قلقه من احتمال التوصل إلى خطة عربية موحدة تعارض أية سياسة أجنبية لن تكون مقبولة للعرب ، معرباً عن أسفه الشديد ((لأن العراق سيكون له دور رئيس في أية خطة من ذلك القبيل.. وسيكون موقفه مستقيلاً أكثر تشدداً)) (61) وفي ذلك دليل واضح على الأهمية البالغة للعراق ، وتخوف القوى الغربية أو قلقها من تطوره العقلاني الرصين.
    أخيراً فإن من المناسب أن نورد آخر تقرير لكورنواليس ، وهو عبارة عن مذكرة شمولية كتبها وهو على وشك مغادرة العراق، وفيها نظرة مهمة بل خطيرة حول العراق فيقول: "علينا اعتبار العالم العربي وحدة واحدة لا مجموعة دول متعددة على الخارطة.. وعلينا إعادة التوازن إلى سياستنا في الشرق الأوسط.. وأن إدامة المصالح البريطانية والنفوذ البريطاني هو ما يجب أن نكرس له جهودنا... وإذا تخلينا عن موقفنا المتميز هنا في العراق فإن الفوضى سيعم الشرق الأوسط، خاصة وأن هناك أمماً غيرنا تتلهف لمشاركتنا امتيازاتنا ومسؤولياتنا.. لذلك يجب حفظ الاستقرار في هذه الأرض ذات التراث التاريخي العظيم" (62).
    الخاتمة
    من خلال ما تقدم يلاحظ اهتمام كورنواليس بمستقبل العراق والوجود البريطاني فيه. واهتمامه الشديد بالأفكار التي يمكن أن تتمخض عنها التطورات السياسية والاجتماعية في العراق، لذلك لم يترك في تقريره جانباً من جوانب التطور في العراق إلا وقدم فيه رأياً، وأعطى عنه موقفاً.
    لقد توضحت من خلال تقارير السفير أيضاً قيمة العراق ومكانته في الشرق الأوسط والوطن العربي على وجه الخصوص، والتي مازالت قائمة حتى اليوم، وهي ما دفعت كورنواليس إلى الاستنتاج بأن مستقبل العراق سيكون قوياً ومؤثراً في الشؤون العربية والدولية. لذلك نجده يطالب بعزل العراق عن الوطن العربي، إلا أن الملاحظ أن كورنواليس لم ينجح في مساعيه وتمنياته ، وذلك من خلال الأحداث التي جرت في العراق بعد ذلك،
    كما يتضح قلق بريطانيا خلال الحرب من احتمالات المستقبل سواء حول نفوذها في العراق، أو بشأن علاقات المنطقة بدول كبرى جديدة ، وخاصة بعدما أصبح العراق عنصراً مهماً وخطيراً في أعقاب الغزو الألماني للاتحاد السوفيتي.
    ونستنتج أيضاً أن السفير كان راغباً بل عاملاً من أجل دفع العراق نحو الاهتمام بقضاياه الداخلية البحتة، وعدم ممارسته لدوره الفعال والنشط عربياً.
    وينبغي على المطلعين والمهتمين بالشؤون العراقية والعربية تسليط الضوء على تاريخنا المعاصر من خلال توجيه الاهتمام بما كتبه السفراء الأجانب، لما تكشفه من جوانب مفيدة لحاضر العراق ومستقبله، ويتطلب ذلك جمع كل ما يمكن جمعه من وثائق أجنبية تخص تاريخ العراق المعاصر.
    ـــــــــــــــــــــــــ
    الهوامش :
    (1)  للتفاصيل عن أحداث نيسان وأيار 1941م يمكن الرجوع إلى: -
    عبدالرزاق الحسني: الأسرار الخفية في حركة السنة 1941 التحررية . صيدا 1971 .
    اسماعيل ياغي: حركة رشيد عالي الكيلاني، بيروت 1974 .
    (2)  F.o. 371: E328b. Sirk. Cornwallis to Mr. Eden. 28/ Apr/ 1941.
    (3)  F.o. 371: E2431. Confidential, Sirk. Cornwallis to Mr. Eden. 30/ mar/ 1945. p.1 
    (4)  F.o. 371: E2431. Ibid p2.
    الدكتور غروبا: من الشخصيات الدبلوماسية الألمانية المرموقة، وقد عمل في فلسطين وأفغانستان وتولى مسؤولية الشعبة الشرقية في وزارة الخارجية الألمانية قبل أن يتولى مهامه الديبلوماسية في العراق وزيراً مفوضاً فسفيراً حتى قطع العلاقات مع ألمانيا بعد نشوب الحرب العالمية الثانية . انظر: الدليل العراقي الرسمي لسنة 1936، محمود درويش والياهو دنكور ص180 بغداد 1937 .
    (5)F.o. 371: E4231: Confidential. Sirk. Cornwallis to Mr. Eden.
    (6)  F.o. 371: E2431: Ibid p2.
    (7)  F.o. 371: E7723: Top Secret, from Cairo to Baghdad. 31/ Ma/ 194.
    (8)  F.o. 371: E2431: Ibid. p3.
    (9)  F.o. 371: E2431: Ibid. p3.
    (10)  F.o. 371: E2431: Ibid. p3.
    منظمة إخوان الحرية: منظمة أسستها المخابرات البريطانية خلال الحرب، لها فروع في عدن ومصر والعراق وفلسطين برئاسة الميجر سكيف، عملها بث الدعاية للحلفاء ومكافحة الدعاية الألمانية . للمزيد انظر: عبدالرحيم ذو النون: جمعية إخوان الحرية في العراق.. بحث مقبول للنشر في مجلة المؤرخ .
    (11)  F.o. 371: E2431: Ibid. p3.
    (12)  F.o. 371: E1143: Confidential Sirk. Cornwallis to Mr. Eden. Baghdad 8/ Feb/ 1944.
    (13)  F.o. 371: E608. Sirk. Cornwallis to Mr. Eden. Baghdad. 9/ Jan/ 1945. P1.
    (14)  F.o. 371: E4699; British Embassy, Baghdad, 26 Jul/ 1943.
    (15)  F.o. 371: E608: Ibid. PP 2-3.
    (16)F.o. 371: E172: Sirk. Cornwallis to F.o. 6/ Jan/ 1944.
    (17)  F.o. 371: E172: Ibid.
    (18)  F.o. 371: E608: Ibid. P3.
    (19)F.o. 371: E608: Ibid, P4.
    (20)  F.o. 371: E608: Ibid, P. 4.
    (21)F.o. 371: E2936; Important Secret, Sir k.Cornwallis. to. F.o.8/ jun/ 1942.     
    (22)  الشيخ محمود البرزنجي: عينه الأتراك حاكماً على السليمانية خلال الحرب العالمية الأولى . ولما احتل الإنكليز كركوك عرض خدماته لهم . فتم تعينه حكمداراً للسليمانية أعلن على الحكومة في عهد الملك فيصل الأول . وآخر تمرد له كان في منتصف عام 1941 . انتهى عن طريق المفاوضات . بعدها انتقلت القيادة إلى الملا مصطفى البارزاني . انظر: محمود الدرة: القضية الكردية: ط2 بيروت 1961 .
    (23)F.o. 371: E4231; Ibid .
    لاشك أن منح الاكراد حكماً ذاتياً كان تطوراً بالغ الأهمية ومعلماً بارزاً بعد عام 1968 .
    (24)F.o. 371: E4231: Ibid .
    (25)  F.o. 371: E608: Ibid. P. 5
    (26)  F.o. 371: E1494: Sir.K. Cornwallis to Mr.Eden Top Secret. 24/ Feb/ 1944.
    (27)  F.o. 371: E2431: Ibid. PP 3-5.
    (28)  F.o. 371: E2431: Ibid. PP 2-3.
    (29)  F.o. 371: E2431: Ibid. P. 4.
    (30)  F.o. 371: E2431: Ibid. P. 4.
    (31)F.o. 371: E2431: Ibid, P 6.
    (32)  F.o. 371: E2431: Ibid. P. 6.
    (33)  F.o. 371: E2431: Ibid. PP 6-8.
    (34)  F.o. 371: E4779: Sir K. Cornwallis to. F.o. 21 Jan/ 1943.
    (35)F.o. 371: E1615: Sir K. Cornwallis to. F.o. 2/ Mar/ 1943.
    (36)F.o. 371: E1382: Sirk. Cornwallis to Mr. Eden 8/ Mar/ 1943.
    (37)  قام كورنواليس بتحذير نوري السعيد من وجود عناصر (لم يذكرها) قد تعمل على إضعاف العراق بتقسيمه أو الضغط عليه . انظر .
    F.o. 371: E1465: War Cabinet Distribution, Sirk. Cornwallis to. F.o. 12/ Mar/ 1943.
    (38)  F.o. 371: E2755: Sirk. Cornwallis to Mr. Eden 26/ Apr/ 1943.
    (39) F.o. 371: E1494: Sirk. Cornwallis to. Mr. Eden. Top Secret. 24/ Feb/ 1944. 
    (40)  F.o. 371: E7436: Sirk. Cornwallis to. F.o. 5/ Dec/ 1944.
    (41)  F.o. 371: E608: Ibid. P. 3.
    (42)  F.o. 371: E608: Ibid. P. 4.
    (43)  F.o. 371: E2755: Ibid. P. 3.
    (44)F.o. 371: E608: Ibid. PP 6-7.
    (45)  F.o. 371: E2755: Ibid. P.3.
    (46)  F.o. 371: E2755: Ibid. P. 4.
    (47)F.o. 371: E1382: Sirk. Cornwallis to Mr. Eden 8/ Mar/ 1943.
    (48)  F.o. 371: E1494: Ibid. P. 12.
    (49)  F.o. 371: E2431: Ibid. P. 4.
    (50)  Hurewitz J: Diplomacy in the Near and Middle East Adocumentary Record. 1914- 1956. V II New york. 1972. P236.
    (51)  Kimball; L.K.; The Changing Pattern of Political Power in Iraq. New york. 1972. PP. 77- 78.
    (52)  F.o. 371: E794: from. M. of. S (Cairo) to f.o. 5/ Feb/ 1943.
    (53)  F.o. 371: E538: Sirk. Cornwallis to. F.o. 22/ Jan/ 1943.
    (54)  F.o. 371: E636: Sirk. Cornwallis to. F.o. 29/ Jan/ 1943.
    (55)  F.o. 371: E1222: Sirk. Cornwallis to. F.o. 27/ Feb/ 1943.
    (56)  F.o. 371: E1227; F.o. To. Sirk. Cornwallis. 3/ Mar/ 1943.
    (57)F.o. 371: E1382: Ibid.
    (58)  F.o. 371: E4391; H.C. for Palestine to. Sirk. Cornwallis, Top Secret, 24/ Jun/ 1943.
    (59)  F.o. 371: E4699; Sirk. Cornwallis to. F.o. Report 26/ Jul/ 1943.
    أشار السفير بعد ذلك بشهور إلى محادثات مفيدة بين الرجلين حول الاتحاد: انظر
    F.o. 371: E7807; Sirk. Cornwallis to. F.o. 3/ Dec/ 1943.
    (60)  F.o. 371: E1494: Ibid. P.1.
    (61)  F.o. 371: E1494: Ibid. P.2.
    (62)  F.o. 371: E2431: Ibid. P.3.
    المصدر: مجلة آداب الرافدين، العدد 23


    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()