وكم نحن الآن في حاجة ملحة إلى بعث هذا المعنى وشرحه ، وتعميقه لدى الناس , ولا سيما عند أبنائنا من الشباب حتى نواجه دعاوى كثير من المستشرقين والمستغربين الذين يدعون – في تعصب مقيت وذاتية ضيقة – أن هذا العصر الذي نحياه مدين للغرب بما آل إليه من فكر علمي ، ومنهاج تجريبي ، وأن المسلمين السابقين – إن كان لهم دور في بعض الميادين مثل الطب أو الفلك أو الطبيعة إن هم إلا نقلة مقلدون ، وليسوا روادا مبدعين.
وتناسوا ما تحلى به المسلمون الأوائل من مثابرة على البحث الدقيق ، والمصابرة على التنقيب المتأني في ظروف (تقنية) صعبة ومن خلال إمكانات (اتصالات) قاسية ، فلقد كان على الباحث المسلم آنذاك – ولم يكن هناك باحث غيره – أن يستهلك عصارة عينيه على ذبالات الزيت والشموع , وأن يستنفذ جميع جهده في نسخ مؤلفاته المخطوطة بأقلام بدائية على قراطيس معتمة.
ولعمرك ، إن هذا كله وغيره من ضروب المشقة ، وألوان المعاناة لهو أمر جد يسير إزاء المحاولات المتوالية ، والحيل المتتالية في سبيل الحصول على مرجع يطلع عليه ، أو سفر يهتدى به ، فكل صعب يهون بجانب هذا الأمر الشاق , إذ لا مطبعة حينذاك تفرز ألوف الألوف من النسخ ، كما نرى الآن ، وإنما هي أحاد من المخطوطات اليدوية لا يدرك أحدها إلا بالجهد الجهيد ، والعناء الشديد.
وبالرغم من ذلك كله فقد تمتع هؤلاء الأسلاف العباقرة من المسلمين بعناد صارم ، وإصرار حازم ، حتى خلفوا لنا تراثا عجبا ، كان له في الآفاق دويه وصداه ، وكان له في حياة البشرية وآثاره التي ما زالت الإنسانية تجترها حتى اليوم في صور متباينة ، وألوان شتى.
فأية طاقة هائلة تلك التي دفعت هؤلاء الباحثين الرواد إلى إبداع هذا التراث الأًصيل , مستعذبين في سبيل ذلك كل صعب وشاق ؟
إذا كان مفكرو العالم قد شغلوا بتناول هذا التراث الفذ من جوانب عدة دون أن يعنوا كثيرا بالبواعث التي جعلت من مبدعي هذا التراث علماء أجلاء يفتحون لخلفائهم أبواب البحث العلمي الصحيح , ويضعون أيديهم على طرائق الاتجاه التجريبي الدقيق , فما أحرانا أن ندق اليوم هذا الباب دقا حثيثاً إنصافاً للحق وإبرازا لدور العقيدة الإسلامية الجليلة التي كانت وراء ذلك التراث العظيم ..
إذ لم يعد يكفي التنبيه إلى تأثير هذا التراث العلمي الخلاق في النهضة الأوربية , أو التنويه بأئمة البحث والتجرييب من أمثال الحسن بن الهيثم , وجابر بن حيان , وابن النفيس , وغيرهم من ذوي الأفكار الرائدة التي أثرت دون جدال على فكر روجر بيكون , وفرنسيس بيكون ، وجون ستيورت مل , وهارفي وأمثالهم .
نعم ، لم يعد هذا الواقع الجهير كافيا للتعرف على فضل الإسلام الحنيف على عمارة الكون ، وحضارة الإنسان , ومن ثمة كان جديراً بنا مدارسة العامل الأساسي , والوازع الأصيل الذي جعل علماء المسملين يتسنمون قمة الحضارة , ويحتلون محل الصدارة في مواكب المعلمين الخالدين بما قدموا للإنسانية من أساس سليم لمنهج فكري قويم .
لقد عزى نفر من الدارسين ذلك التقدم العلمي عند المسلمين الأوائل إلى بعض العوامل التي هي إلى العرض أقرب منها إلى الجوهر في هذا المجال ، وإننا مهما بدت أمامنا الأسباب المتصلة بالتقدم العلمي عند المسلمين – لا نرى على قمة هذه الأسباب جميعا إلا سببا واحدا أصيلا ، ألا وهو "العقيدة الإسلامية الصادقة " التي أوحى بها إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، والتي ربى عليها النبي عليه الصلاة والسلام تلاميذه الذين أشاعوها بدورهم في قلوب المؤمنين المخلصين من التابعين ، وتابعي التابعين ، رضوان الله عليهم أجمعين.
إنها العقيدة الدافعة التي كان الاستشهاد في سبيلها هو أسمى ما يأمل أصحابها الإبطال الذين هتف أحدهم ذات يوم :
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعى
هؤلاء قوم لم يملكو – أمام قلوبهم العامرة بالإيمان – إلا أن يكونوا طلاب علم ورواد حضارة.
فقد كان تقدير العلم والاحتفال به من صميم جوهر العقيدة الإسلامية التي احترمت الإنسان وسمت بعقله ، ودعته إلى التفكير في خلق السموات والأرض ، ولم تفرض عليه مصادرات مسلما بها دون برهان ، أو قضايا مبهمة تفتقر إلى بيان ، بل فتحت أمامه الآفاق لاكتناه المعلوم ، واكتشاف المجهول حتى يعمر الكون ، ويتقدم العمران ، وبهذا استحق الإنسان أن يكون – بحق – خليفة في الأرض مصداقاً لقول الخالق سبحانه وتعالى "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة"( الآية 30 سورة البقرة ).
وان يكون جديرا بالتكريم الألهي والحكيم "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر" (الآية 70 سورة الاسراء ).
ومن ثمة انطلق المسلمون يدفعهم إيمانهم الصادق ، وتحفزهم عقيدتهم الحقة , يبحثون فيما حولهم من كائنات ، وينقبون عن حقائق الأشياء ، ويتدبرون صنع الله الذي أتفق كل شيء , وبهذا يزدادون إيمانا مع إيمانهم ، ثم هم إلى هذا يفيدون الفائدة العظمى مما سخر الله لهم في هذا الكون العامر بما ينفع الناس ، وهكذا يجمعون بين النظر والعمل , أو بين العقيدة الخالصة والسلوك العلمي البناء ..
فجعلوا من البحث العلمي الحافل بالمجاهدة أشبه ما يكون بالطقوس العلمية التي تعبر عن الإيمان المتدفق الفياض, فهم لم يبحثوا في السنن الكونية ليكونوا علماء ، أو ليقول الناس عنهم ذلك ، ولكن ليتقربوا إلى الله عز وجل ، وليكونوا عبادا قانتين له مذعنين لأوامره ، عاكفين على تأمل خلقه الأكمل ، ونظامه الأبداع الأجمل ، وعنايته المثلى بالعالمين.
وهكذا التقت فطرة العقيدة التي فطر الله الناس عليها ، وفطرة السنن الكونية ، فتم الاتساق بين الذات الباحثة ، والموضوع المبحوث ، فلله ما أروع الاتساق !! وأبدع الاتفاق !!.
ومن هنا رأينا أن هؤلاء المسلمين الذين دفعهم إيمانهم إلى البحث العلمي كانوا يرجون التوفيق دائما من الله وحده ، ويبتهلون إليه سبحانه كلما حزبهم أمر فكري أو استعصت عليهم مسألة علمية مؤمنين – بصدق – بأن الله سبحانه وتعالى الذي حثهم على التفكير والبحث لا بد فاتح لهم بقدرته أبواب العلم الموصدة , ما داموا مخلصين له الدين ، متجهين إليه ، قاصدين وجهه , ولله در حجة الإسلام الامام " أبو حامد الغزالي " رضي الله عنه عندما يقرر " أردنا أن نطلب العلم لغير الله فأبى العلم إلا أن يكون الله".
ورضي الله عن عالم قريش الإمام الشافعي عندما ينشد في ابتهال عميق
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصــــــي
ولك أن تعيش الآن مع الطبيب المسلم العالم ، ابن سينا بعض الوقت لتستمع إليه وهو يتحدث في ترجمته الذاتية التي نقلها عنه تلميذه عبدالواحد الجوزجاني:" وكلماكنت أتحير في مسألة , أو لم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس , ترددت إلى الجامع وصليت ، وابتهلت إلى مبدع الكل , حتى فتح لي المنغلق ، وتيسر المتعسر ".
أرأيت كيف تمكنت العقيدة من قلب المفكر المسلم ، ودفعته إلى الابتهال إلى المبدع الأعظم ليفتح له مغاليق العلم ؟.
ولنستمر في الإنصات إلى حديث الشيخ الرئيس :"ثم عدلت إلى "الإلهي" وقرأت "كتاب ما بعد الطبيعة"فما كنت أفهم ما فيه ، والتبس علي غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرة ، وصار لي محفوظاً ، وأنا مع ذلك لا أفهمه ، ولا المقصود به ، وأيست من نفسي , وقلت : هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه ، وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوارقين , وبيد دلال مجلد ينادي عليه , فعرضه علي فرددته رد مبرم , معتقدا أن لا فائدة في هذا العلم , فقال لي اشتر مني هذا فإنه رخيص , أبيعكه بثلاثة داراهم , وصاحبه محتاج إلى ثمنه ، فاشتريته فإذا هو كتاب "أبي نصر الفارابي" في "أغراض كتاب ما بعد الطبيعة" .
ويستطرد ابن سينا فيقول :"ورجعت إلى بيتي ، وأسرعت إلى قراءته , فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب , ثم يقول : " وتصدقت في ثاني يوم بشيء كثير على الفقراء شكرا الله تعالى " (منطق المشرقيين – تصنيف الرئيس أبي علي بن سينا).
نعم شكرا لله تعالى الذي فاض عليه بالفهم والاستيعاب , ذلك هو ابن سينا صاحب كتاب "القانون " الذي ظل المنهل الوحيد لطلاب الطب والمشتغلين به في أوروبا حتى القرن السابع عشر.
ثم هذا هو عالم الطبيعة , ومؤسس علم الضوء في كتابه الأشهر "المناظر" ذلكم الحسن بن الهيثم الذي يحكي عن نفسه فيقول :"اشتهيت إيثار الحق ، وطلب العلم ، واستقر عندي أنه ليس ينال الناس من الدنيا شيئاً أجود , ولا أشد قرابة إلى الله من هذين الأمرين.
ولعلنا نذكر أن كتب الكندي التي كان يوجهها إلى الخليفة المعتصم , وابنه احمد كان يستهلها ويختتمها جمعيا بالدعاء إلى الله بالتوفيق لطالب المعرفة ؛ لأن التأييد والتوفيق والعون من الله تعالى ، خالق كل شيء ، والمبدع المدبر ، الفاعل القادر ، مما يشير إلى تأصل الروح الإسلامية في قلب الكندي ، وإلى عقيدته التي يؤمن بها ، ويخلص لها ، ويدعو إليها.
أما ابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية – ونسبت في غفلة من الزمن إلى العالم الأنجليزي هارفي – فقد نصحه طبيبه المختص – في مرض وفاته – بتناول قليل من النبيذ كدواء ، لكن ابن النفيس رفض شرب الخمر ولو دواء قائلا :"لا أريد أن ألقى الله وفي بطني شيء من الخمر" فما أصدق الإيمان !!.
وطيب الله ثرى العالم الكيميائي المسلم الأشهر جابر بن حيان الذي كثيرا ما صرح بأن مصدر علمه هو النبي صلى الله عليه وسلم , فيقول مثلا في المقالة الرابعة والعشرين من كتاب "الخواص الكبير" : "فو الله مالي في هذه الكتب ألا تأليفها ، والباقي علم النبي صلى الله عليه وسلم" وعلى هذا الضوء يمكن أن نفهم اسم الكيمياء الذي أطلق على أبحاث جابر إذ هو اسم معرب من اللفظ العبراني , واصله : كيم يه – أي "إنه من الله".
وقد عنى جابر بن حيان بإبرز السلوكيات العلمية التي ينبغي أن يتحلى بها العلماء ، وقد كان الإسلام عنده أهم مصدر يجب أن يستمد منه العالم أخلاقه ، وكم نصح العلماء في مقالته آنفة الذكر بأن يثابروا على البحث العميق ، والدرس الدقيق مهما اشتد العناء دون يأس ، ثم هو يستشهد في هذا بقول الله عز وجل : "ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" (الآية 87 سورة يوسف) .
وأنت تحس عند هذا العالم المسلم الجليل بقوة الدافع الديني نحو البحث العلمي في وصيته التي يرويها عن أستاذه جعفر الصادق" ومنها قوله لمن يريد أن يكون باحثاً عالماً :"ابدأ الطهر بأن تفيض على بدنك ماء نظيفا في موضع نظيف ، ثم تلبس ثيابا طاهرة نظيفة , ثم تستخير الله ألف مرة , وتقول في استخارتك : اللهم ! إني استخيرك في قصدي فوفقني ، وأزغ الشيطان عني إنك تقدر عليه ، ولا يقدر عليك ".
ثم تستمر الوصية في النصح بالصلاة والابتهال والدعاء العميق ومنه : "اللهم إني قد مددتهما إليك – أي يديه ـ طالبا مرضاتك ، وأسألك ألا تردهما خائبتين" .
ويستطرد الدعاء كما يلي في ضراعة ضارعة : "اللهم ! إني قصدتك فتفضل علي بموهبة العقل الرصين ، وإرشادي في مسلكي إلى الصراط المستقيم ".
فأكرم بهؤلاء من قوم طلبوا العلم لله !، فرفعهم الله بعلمهم ، ولم يطلبوه شهوة في شهرة ، أو طمعا في مال ، أو زلفى إلى جاه أو سلطان..
كما طلبوا العلم للعمران ، وهو مناط خلافة الإنسان في الأرض وليس للدمار والفناء ، وهكذا اتفق نبل الدافعية الإيمانية , ونبل الغاية العصماء , إذ انتشر العلماء والمسلمون في الأرض , فانتشر في ركابهم ما أفاء الله به عليهم من معرفة بناءة , وعلم مفيد.
والله أعلم بمارده حين يضع العلماء في موقف خشيته ، وتقواه إذ يقول عز وجل : "إنما يخشى الله من عباده العلماء" (الآية 28 سورة فاطر ).
وأي موقف أرقى وأسمى من هذا الموقف , ولعلنا ندرك أن الخشية هنا ليست مجرد موقف سلبي ، ولكنها عمل إيجابي فعال , إنها سلوك نابع من طاعة الله , والائتمار بأمره , والانتهاء بنهيه ، والإيمان بعقيدته ، والقيام على شريعته , والأمر بالمعروف , والنهي عن المنكر.
ذلك إن العلماء ..يدركون مواطن العظمة في الشهادة ( أي ما يرى أو يدرك بالحواس ) , فيستدلون بها على مواطن العظمة في الغيب ، وهي مسائل تحتاج إلى المعاناة العقلية ، والمجاهدة النفسية التي لا قبل بها إلا لأولى العزم ..وقليل ما هم.
ويذكرنا هذا بسحرة فرعون الذين ألقوا ساجدين من خشية الله " قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون" (الآيتان 121 ، 122 سورة الأعراف ) وذلك عندما أدركوا ـ وهم العلماء الخبراء في فنهم ـ أن ما أتى به موسى ليس هو بالسحر ، ولكنه الآية المعجزة من رب العالمين.
ولله ما أوثق الرباط بين التقوى الحقة والعلم الحق في قول الله سبحانه وتعالى :" واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم " (الآية 282 سورة البقرة " .
ولئن دفعت العقيدة الإسلامية الصادقة أبطال المسلمين إلى الدفاع عنها في فتوحات الأمصار والبلدان ، فقد حفزتهم هي أيضا إلى الحرص عليها في فتوحات العلم والعرفان ، فاستحقوا بهذا سيادة الأرض , وهي سيادة لم تقم على تسلط جبروت أو طغيان , وإنما نبعت من ذل العبودية الخالصة للواحد البارئ الديان ..لا شريك له..
المصدر : مجلة الوعي الإسلامي الكويتية ( العدد244 ربيع الثاني سنة 1405هـ يناير سنة 1985م )