بتـــــاريخ : 7/26/2010 3:18:00 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1110 0


    نظام الضرائب في الإسلام

    الناقل : SunSet | العمر :36 | الكاتب الأصلى : د / أحمد حاج علي الأزرق | المصدر : www.altareekh.com

    كلمات مفتاحية  :
    نظام الضرائب الإسلام تاريخ
    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
    فإن مما عنيت به الشريعة الإسلامية عناية كبيرة الشئون المالية، حيث وضعت لها سياسة رشيدة عادلة راعت فيها تحقيق العدالة في كل من جمع المال من أربابه، وصرفه في مصارفه، وإن الباحث ليجد في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفيما خلفه لنا الأئمة المجتهدون الثروة الفقهية الغنية أصدق شاهد على عدالة تلك السياسة المالية.
    أساس وضع الضريبة في الإسلام:
     الضريبة فعيلة بمعنى مفعولة وهي : ما يقرره السيد على عبده في كل يوم أن يعطيه، وقد ترجم لذلك الإمام البخاري في صحيحه بقوله: ضريبة العبد وتعاهد ضرائب الإماء ثم ذكر حديث أنس رضي الله عنه قال : "حجم أبو طيبة النبي صلى الله عليه وسلم فأمر له بصاع أو صاعين فكلم مواليه فخفف عن غلته أو ضريبته" (1) .
    والآية الكريمة التي حددت مصارف الزكاة بدأت بذكر الفقراء والمساكين، وتقديمهما في الذكر يدل على عناية الإسلام بهما، لأن هذا الصنف من الناس قلما يخلو منه مجتمع من المجتمعات وهو كثيرا ما يهدد بحاجته المجـتمع في أمنه واستقراره ، فـإن ثورة الفقر عارمة، فبالزكاة تسد حاجة هذا الصنف، ويطهر قلبه من الحـقد والحسد فيعيش متعاونا مع إخوانه الأغنياء الذين شعر منهم بالعطف والرحمة، قال تعالى: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ "(4).
     ومن مصارف الزكـاة العاملون عليها وهم: السعاة الذين يبعثهم الإمام لأخذها من أربابها وجمـعها وحفظها ونقلها ومن يعينهم في ذلك ممن يسوقها ويرعاها ويحملها، ويدخل فيهم الكاتب والحارس والقاسم.
     وقد حرص الإسلام على أن يقوم العامل بعمله مقابل أجر يتناسب والعمل الذي قام به ، وبهذا يتحقق الحـافز المادي الذي يجعل العامل يخلص في عمله ، ويجتهد فيه ويؤديه علي أكمل الوجوه وأحسنها ، ومن هنا يظهر لنا أن الشريعة الإسلامية كان لها فضل السبق في تقرير هذا المبدأ العظيم.
    وفي صرف الزكاة إلى المؤلفة قلوبهم رجـاء تأييدهم، واتـقاء كـيدهم، وإلى الغزاة في سبيل الله المقاتلين للأعداء الذائدين عن الدين والوطن ما يوحي بأن من أغراض الزكاة تمكين ولاة الأمر من القيام بما عهد إليهم من الدفاع عن العقيدة، والدعوة إليها بالترغيب في الإسلام من طريق نشر محاسنه، ودحض المفتريات والشبه التي يثيرها أعداء الإسلام.
    ومما ينبغي الوقوف عنده والإشادة به اهتمام الإسلام بمحاربة تلك المشكلة التي كانت ظاهرة متفشية في المجمعات السابقة للإسلام لا سيما في جزيرة العرب ألا وهي مشكلة الرق، وقد بدأ الإسلام بمعالجة هذه المشكلة بوسائل شتى منها: أنه خصص من ميزانية الزكاة لتحرير الرقاب ، وذلك بأن يشترى من السهم المخصص لفك الرقاب عبيدا ويعتقون، ويعان منه المكاتبون، وبذلك تكون الدولة الإسلامية أول دولة حاربت الرق، وحسبها أنها خصصت جزءا من الزكاة لفك الرقاب.
     وفي قضاء دين المدين العاجز عن الوفاء من الزكاة إبقاء للثقة بين الناس، وتنمية لروح التعاون والتضامن بين الأفراد.
    أما الجزية فقد وجبت على غير المسلمين كما وجبت على المسلمين الزكاة في مقابل تمتعهم بحقوقهم، وأمانهم على أنفسهم وأموالهم، لأن أهل الكتاب - اليهود والنصارى - ينتفعون بمرافق الدولة العامة كما ينتفع المسلمون، ثم هم لا تجب عليهم الزكاة الواجبة على المسلمين، لأنها وجبت على وجه العبادة ، وهم ليسوا أهلا لها لعدم الإسلام، فأوجب الله عليهم الجزية بدلا من الزكاة، قال تعالى: "قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ"(5).
    فهي كسائر الضرائب الإسلامية واجب في نظير حق ، وأما ضريبة الخراج، فقد وضعت على الأرض التي أقر عليها أهلها من غير المسلمين ، وتركت بيدهم يستغلونها وينتفعون بها، وأول من فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته عندما استولى المسلمون على سواد العراق عنوة، وكتب قائد جيش المسلمين في موقعة القادسية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بذلك مستشيرا إياه في أمر سواد العراق، وكانت تعتبر في ذلك الوقت من أخصب بلاد الدنيا، وكان سعد بعد أن أتم الله النصر للمسلمين قام بقسمة الغنائم بين المجاهدين ما عدا الأرض فإنه توقف في قسمتها، وكتب بذلك إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب طالبا رأيه في ذلكن وبعد أن وصل الكتاب إلى عمر رضي الله عنه استشار في ذلك كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، وبعد حوار طويل استقر رأي عمر ووافقه مجلس شوراه الذي كونه لذلك على ترك الأراضي بيد أهلها، وفرض عليهم فيها الخراج ، ووضع على رقابهم الجزية(6).
    ولم تكن ضريبة الخراج معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد خليفته الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فعمر رضي الله عنه هو أول من اجتهد في فرضه، قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: "وإنما كان الخراج في عهد عمر رضي الله عنه" (7).
    وروى أبو يوسف عن عامر الشعبي رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه مسح السواد فبلغ ستة وثلاثين ألف ألف جريب، وأنه وضع على جريب الزرع درهما وقفيزا، وعلى الكرم عشرة دراهم، وعلى الرطبة خمسة دراهم، ووضع على الرجل - يعني في رقبته - اثني عشر درهما، وأربعة وعشرين درهما وثمانية وأربعين درهما (8).
    وقد راعى عمر رضي الله عنه في وضع الجزية درجة يسار كل شخص، فجعلها على ثلاث درجات:
    غني موسر عليه ثمانية وأربعين درهما في العام.
    ومتوسط في حالته عليه أربعة وعشرون.
    وفقير يعمل عليه اثنا عشر درهما.
     كما أنه راعى في وضع الخراج على الأرض ما تحتمله ويطيقه أهلها.
    وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعل بأرض الشام حين فتحت مثل ما فعل بأرض العراق وكذلك فعل بمصر.
    يقول العلامة السرخسي: "واعتمد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما صنع بسواد العراق على السنة ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "منعـت العراق درهما وقفيزها ، ومنعت الشام مُديها ودينارها، ومنعت مصر إردبَّها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، قالها ثلاثا"(9).
    قال أبو عبيد: "معنى هذا الحديث والله أعلم أن هذا كائن وأنه سيمنع بعد في آخر الزمان". قال: "وفي هذا الحديث تقوية وحجة لعمر فيما فرضه على أهل العراق من الدرهم والقفيز" قال: "فاسمع قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الدرهم والقفيز كما فعل عمر بالسواد وهذا هو التثبت"(10).
    وقال الإمام الخطابي: "معنى هذا أن ذلك كائن ، وأن هذه البلاد تفتح للمسلمين ، ويوضع عليها الخراج شيئا مقدرا بالمكاييل والأوزان، وأنه سيمنع في آخر الزمان ، وخرج الأمر في ذلك على ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، وبيان ذلك ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأرض السواد ، فوضع على كل جريب عامر أو غامر درهما وقفيزا"(11) .
    وهذا الحديث من أعلام النبوة لإخباره صلى الله عليه وسلم بما سيكون من ملك المسلمين لهذه الأقاليم ، ووضعهم الجزية والخراج عليها، كما يقول الإمام الشوكاني (12) .
    وكما أن المسلم يجب عليه العشر أو نصفه في الخارج من أرضه فالكتابي يجب عليه الخراج فيما تنتجه أرضه، وكلا من الزكاة والخراج إنما وجب بصفة المؤنة للأرض؛ لأن بقاء الأرض يأيدي ملاكها يستغلونها وينتفعون بها موقوف على جهود كبيرة تبذل شق الأنهار، وتعبيد الطرق، وبناء الجسور، ثم إن أربابها لا ينتفعون بما تخرجه إذا لم تعين الدولة من يأخذ على أيدي المعتدين، ويحفظ الأمن ويصون النظام، وبما أن هذه الأعمال التي تقوم بها الدولة لمنفعة أرباب الأملاك، وجب أن تكون نفقة من يقومون بها في غلات الأرض وخراجها.
    وأما العشور التي تؤخذ في البلاد الإسلامية على عروض التجارة الواردة إليها، والصادرة منها، فأساسها تبادل المعاملة بالمثل بين البلاد الإسلامية وغيرها من البلدان.
    وسمى الفقهاء العامل الذي يقوم بأخذ العشور: العاشر، لأن ما يأخذه يدور على العشر، فإنه من المسلم ربع العشر، ومن الذمي نصف العشر، ومن الحربي العشر إن لم يعلم ما يأخذون منا.
    ومما ينبغي في العمال الذين ينصبون لجباية العشور أن يكونوا أولي بأس ومنعة، ليؤمنوا التجار من اللصوص وقطاع الطرق ويحمونهم منهم، وفي مقابل تلك الحماية ساغ لهم جباية رسوم على ما يمر به التجار من أموال ظاهرة أو باطنة تختلف في صفتها، وقدرها تبعا لاختلاف الشخص المار بها، فهي من المسلم زكاة ، ومن الذمي جزية، ومن الحربي جزاء الحماية.
    وأما ما يؤخذ غنيمة بالقتال فقد فرض خمسة لمصالح عامة بينتها آية الأنفال ، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (13) وفي تخصيص هذا الخمس لمن سمى الله تعالى رعاية للمصلحة العامة، وتزكية لنصيب الغانمين حتى لا يحقد عليهم الضعفاء والمحتاجون.
    أما الخمس الذي يؤخذ من المعادن والركاز فإنه يصرف في مصارف الزكاة التي مرجعها إلى المصلحة العامة.
    وهكذا نرى أن الأساس في هذه الضرائب الإسلامية هو تكوين مال للدولة تستعين به على القيام بواجباتها، والوفاء بالتزاماتها.
    شرائط الضريبة العادلة:
    لا شك أن جباية الضريبة من الأفراد فيها استيلاء على جزء من مالهم وحرمان لهم من التمتع به، وهذا الحرمان إنما رخص فيه لأن الضرورة قضت به ، إذ لا يمكن القيام بالمصالح العامة بدونه، ومن القواعد المقررة أن الضرورة تقدر بقدرها، فيجب ألا يتجاوز بالضرورة القدر الضروري، وأن يراعى في وضعها وطرق تحصيلها مما يخفف وقعها.
    وقد وضع بعض علماء الاقتصاد في العصور الحديثة قواعد ثابتة لجباية الضرائب (14) وتقديرها، وطرق تحصيلها، وموعد جبايتها، وأصبحت هذه القواعد المقياس الذي تقاس به صلاحية الضريبة، وسلامة النظام المالي كله، وأولى هذه القواعد:
    قاعدة العدالة:
     والمقصود بها: أن يكون اشتراك كل مكلف في نفقات الدولة متناسبا مع قدرته ويساره؛ أي أن يكون اشتراكه بنسبة الدخل الذي يتمتع به في ظل الدولة.
    القاعدة الثانية ـ اليقين: ومعناها: أن الضريبة التي تفرض على كل فرد يجب أن تكون واضحة معلومة من حيث موعد الدفع، وكيفيته ومقدارها يدفع بحيث لا يتطرق إلى ذلك أي شك.
    القاعدة الثالثة ـ الملاءمة: ويقصد بها أن تكون جباية الضريبة في أكثر الأوقات ملاءمة للمكلف، وبالكيفية المتيسرة له أكثر من غيرها.
    القاعدة الرابعة ـ الاقتصاد: ومعناها: الاقتصاد في نفقات الجباية،  فتفضل الضرائب التي تقل نفقات جبايتها على الضرائب التي تكثر نفقات جبايتها، حتى يكون الفرق بين ما يخرج من خزائن المكلفين وما يدخل في خزائن الدولة أقل فرق مستطاع.
    وإلى هذه القواعد الأربعة أضاف بعض علماء الاقتصاد قواعد أخرى بعضها متفرع عنها، وبعضها مكمل لها، وأهم هذه القواعد: أن كل ضريبة يجب أن لا تقع إلا على الدخل لا على رأس المال، وعلى صافي الدخل لا على جملة الناتج لتكون الضريبة من ثمرة المال، ولا يكون من عوامل نقص أصله، وأن الضرائب يجب أن لا تمس الدخل الضروري لحياة المكلف، فالحد الأدنى للمعيشة يجب أن يعفى من كل تكليف.
    هذه هي القواعد والشروط التي التزمها علماء المالية في شأن الضرائب.
    وإذا نظرنا في الضرائب الإسلامية وعن مدى موافقتها لهذه القواعد وجدنا أن الضرائب الإسلامية تجاري أحدث الأنظمة المالية في العصر الحديث.
    فالعدالة التي هي أولى القواعد مطلب الشارع الحكيم، وهذه القاعدة مراعاة في جميع الضرائب التي فرضها الإسلام.
    ففي الزكاة يجب العشر أو نصفه، وهو مقدار نسبي ولا فرق في هذا بين مال ومال ولا بين شخص وشخص، وهذا خلاف ما كانت تسير عليه التشريعات الغربية القديمة التي كانت تعفي من الضريبة طبقة النبلاء ورجال الدين.
    وحدد التشريع الإسلامي في الزكاة نصابا معينا فإن بلغه المال أخذ منه فالواجب بنسبة محددة، وإلا فهو عفو.
    وضريبة الجزية لا يطالب بها إلا الغني القادر، ولا يؤخذ من أحد إلا ما يناسب ماليته ودرجة يساره، وبذلك صدر أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى ولاته في مختلف أقاليم الدولة، وجعلها على ثلاث درجات: ثمانية وأربعين درهما، وأربعة وعشرين، واثني عشر درهما على قدر إقلال الرجل وإكثاره (15 ).
    وكذلك ضريبة الخراج التي فرضها عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الأراضي التي فتحت في عهده ورأى عمر إبقاءها بيد أهلها، راعى في وضع الخراج عليها منتهى العدل والرفق بأهل الأرض كل على قدر طاقته، وما تحتمله الأرض من جودة يزكو بها زرعها، أو رداءة يقل بها انتاجها ، وفي هذا يحدثنا القاضي أبو يوسف رحمه الله فيقول: "بعث عمر رضي الله عنه حذيفة بن اليمان على ما وراء دجلة، وبعث عثمان بن حنيف على ما دونه، فأتياه فسألهما كيف وضعتما على الأرض لعلكما كلفتما أهل عملكما ما لا يطيقون، فقال حذيفة: لقد تركت فضلا، وقال عثمان: لقد تركت الضعف ولو شئت لأخذته، فقال عمر عند ذلك: والله لئن بقيت لأرامل أهل العراق لأدعنهم لا يفتقرون لأمير بعدي" (16).
    أما قاعدة اليقين فإنا نراها ماثلة في جميع الضرائب الإسلامية ، فمقدار الواجب، وموعد الدفع، وكيفيته كل ذلك معلوم علما يقينيا في كل الضرائب.
     
    فموعد أداء الواجب حين يحول الحول على المال في الزكاة والخراج، وعلى الشخص في الجزية، ويوم الحصاد في العشر ونصف العشر.
    وجعل الشارع أداء الحق موكولا إلى رب المال في الأموال الباطنة؛ لأن في عدها على صاحبها حرجا وإضرارا به، والستر على الناس من محاسن الشريعة الإسلامية فوكل إلى رب المال الباطن أن يؤدي الواجب الذي عليه بوازع من دينه.
    وطلب إلى ولاة الأمور أن يراعوا في تحصيل الأموال من أربابها وصرفها في مصارفها ما يقضي به العدل والرفق.
    وقد حرص القاضي أبو يوسف رحمه الله أن يؤكد هذا المعنى لأمير المؤمنين هارون الرشيد ويشير به عليه يقول يوسف مخاطبا لهارون الرشيد في شأن من يوليه جباية الخراج: "وتقدم إلى من وليت ألا يكون عسوفا لأهل عمله، ولا محتقرا لهم، ولا مستخفا بهم ولكن يلبس لهم جلبابا من اللين يشوبه بطرف من الشدة والاستقصاء من غير أن يظلموا، أو يحملوا ما لا يجب عليهم، وأن تكون جبايته للخراج كما يرسم له وترك الابتداع فيما يعاملهم به، والمساواة بينهم في مجلسه ووجهه حتى يكون القريب والبعيد، والشريف والوضيع عنده في الحق سواء (17) .
    وأما قاعدة الملاءمة والاقتصاد فتقضيهما المصلحة العامة التي يترسمها الشارع أينما وجدت، فقد روعي في تحصيل الضرائب الإسلامية وموعد جبايتها أكثر الأوقات ملاءمة للدافعين تيسيرا لهم ورحمة بهم.
    وكانت الضرائب الإسلامية لا تكلف الدولة في النفقات على جبايتها إلا الشيء القليل، الأمر الذي يختلف عما تسير عليه كثير من الدول في العصر الحاضر حيث تعين لجمع الضرائب عددا من الكتبة، والمحصلين، والمراجعين وغيرهم ممن يمكن الاستغناء عن بعضهم وليس هناك حاجة لبقائهم.
    والشروط التكميلية التي أضافها بعض علماء المالية نجدها أيضا متحققة فيما جاء به التشريع الإسلامي، فاشترط أن تكون الضريبة في صافي الدخل لا في أصول المال هذا الشرط مراعى في كل الضرائب الإسلامية.
    فمن شروط الزكاة أن يكون المال الذي تجب فيه ناميا، وأن يحول عليه الحول الذي هو مظنة إنتاجه وإثماره، ومظنة لأن يكون أداء الزكاة منه من الثمرة لا من الأصل ، والخراج لا يؤخذ إلا من أرض أمكن زرعها، بل يروى عن الإمام مالك رحمه الله أنه لا يجبى إلا من أرض مزروعة بالفعل، أما إذا ترك ربها زرعها ولو مختارا فلا يؤخذ منها الخراج، وإنما شرط زرعها، أو إمكان زرعها لتكون الضريبة من ثمرتها ونمائها والعشر، ونصف العشر في الزكاة إنما يؤخذان من الثمر والزرع بعد بدوّ صلاحه واشتداده.
     فمبادئ العدالة والاقتصاد، واليقين، والملاءمة، وغير ذلك مما ذكره علماء المالية والاقتصاد كل ذلك متحقق في النظام الضريبي في الإسلام، مما يدل على أنه نظام بلغ الغاية في الدقة، وتوخى العدالة "صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ".
    وقد سبق التشريع الإسلامي إلى تقرير مبدأ يعتبر من المبادئ الأساسية في علم الضرائب وهو مبدأ عدم تعدد الضرائب، وشرح فقهاء الإسلام حدود هذا المبدأ فقالوا: لا يجوز إيجاب زكاتين في حول واحد، وبسبب واحد.
    ومما يلاحظ في أمر الضرائب الإسلامية أن الإسلام لم يكتف ببيان أحكام الضريبة، بل حرص على التدقيق في اختيار رجال الضرائب الذين يقومون بجمعها ممن تجب عليهم، لأن العدالة في نظر الإسلام ليست في سَنِّ التشريع فقط بل هي مراعاة في حسن تطبيقه، ولذلك نرى القاضي أبو يوسف في كتابه "الخراج" يولي عناية كبيرة لمتولي جباية الخراج، ويدقق في أمر من يختار لهذه الوظيفة.
    يقول أبو يوسف مخاطبا لهارون الرشيد الذي طلب منه وضع كتاب يسير على هديه في السياسة المالية للدولة يقول: "ورأيت يا أمير المؤمنين أن تتخذ قوما من أهل الصلاح والدين، والأمانة، فتوليهم الخراج، ومن وليت منهم فليكن عالما مشاورا لأهل الرأي، عفيفا لا يطلع الناس منه على عورة، ولا يخاف في الله لومة لائم، ما حفظ من حق وأدى من أمانة احتسب به الجنة، وما عمل به من غير ذلك خاف عقوبة الله فيما بعد الموت…" إلى أن قال: "وتقدم إلى من وليت ألا يكون عسوفا لأهل عمله، ولا محتقرا لهم، ولا مستخفا بهم، ولكن ليلبس لهم جلبابا من اللين يشوبه بطرف من الشدة والاستقصاء من غير أن يظلموا أو يحملوا ما لا يجب عليهم" (18).
    هذا وإن العدل في الضرائب الإسلامية، وإحاطتها بالشرائط الاقتصادية كان من أقوى الأسباب التي ساعدت المسلمين على فتح البلدان، وتثبيت أقدامهم والتفاف أهل البلاد المفتوحة حولهم، وحبهم لهم، لا سيما البلاد التي كانت تقع تحت سيطرة الرومان والفرس، فقد كان أهل تلك البلاد يئنون من وطأة الضرائب الفادحة، والمعاملة القاسية التي كانوا يعيشون فيها.
    وأصدق شاهد على ذلك ما روى البلاذري: أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة "اليرموك" ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: "قد شغلنا عن نصركم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم"، فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم"، ونهض اليهود فقالوا: "والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد"، فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من اليهود والنصارى (19) .
    فالرومان والفرس كانوا قد أرهقوهم بالضرائب، وحملوهم مالا يطيقون ، ولم يرحموا أحدا، ولم ينقذ الناس من ظلمهم إلا الفتح الإسلامي الذي كان عدلا ورحمة لجميع الناس.
    وهذه الضرائب الإسلامية التي تحدثنا عنها من زكاة، وجزية، وغنائم، وخراج، وعشور، كانت تمثل أهم موارد بيت المال المسلمين (خزانة الدولة الإسلامية) مضافا إليها ما يعثر عليه من معادن وركاز والتركات التي لا وارث لها، ومال الضوائع وكل مال لا يعرف له مالك فمآله إلى بيت مال المسلمين.
    وقد يسأل بعض الناس قائلا: إذا كان دخل الخزانة العامة للدولة الإسلامية منحصرا في هذه الموارد، فهل تجيز الشريعة الإسلامية فرض ضرائب أخرى إذا لم تف هذه الموارد بحاجة الدولة الإسلامية؟ والجواب على ذلك : نص كثير من علماء الإسلام على أنه لا مانع من فرض ضرائب عادلة إذا دعت لذلك ضرورة ملحة، وليس في بيت المال ما يكفي لسدها.
    وقد ذكر ابن العربي المالكي والقرطبي اتفاق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها، ونقلا عن الإمام مالك - رحمه الله - قوله يجب على الناس فداء أسرهم وإن استغرق ذلك أموالهم (20).
    ونص الإمام الغزالي والشاطبي على أنه إذا خلى بيت مال المسلمين من المال جاز للإمام - ولي الأمر - أن يفرض على الأغنياء ما يراه كافيا.
    يقول الشاطبي في الاعتصام: "إذا قررنا إماما مطاعا مفتقرا إلى تكثير الجنود لسد الثغور، وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم فللإمام إذا كان عدلا أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم - أي الجند - في المال إلى أن يظهر مال بيت المال".
    ثم يبين الإمام الشاطبي أن هذا الأمر لم ينقل عن أهل الصدر الأول، لأن ما في بيت المال كافيا لسد نفقات الدولة، لكثرة الإيرادات، والقصد في المصروفات فكانت رواتب العمال والولاة لا تتجاوز حد الكفاية، والجند يكفيهم القليل والخلفاء أنفسهم كانوا متعففين عن أموال المسلمين، وكان ولاتهم على الأمصار والأقاليم متمسكين بدينهم يحذرون الإسراف في مال الدولة، ولا يضيعون مال الجباية في غير المصالح العامة، ولذلك حسنت حالة الدولة المالية، ولم تكن بها حاجة إلى فرض ضرائب يقول الشاطبي: "وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين، لاتساع بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا، فإن القضية فيه أحرى ووجه المصالح هنا ظاهر، فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام بطلت شوكة الإمام، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار، وإنما نظام ذلك كله شوكة الإمام بعدله، فالذين يحذرون الدواهي لو تنقطع عنهم الشوكة، يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها، فضلا عن اليسير منها، فإذا عوض هذا الضرر العظيم بالضرر اللاحق بهم، يأخذ البعض من أموالهم فلا يتمارى في ترجيح الثاني على الأول، وهو مما يعلم من مقصود الشرع قبل النظر في الشواهد".
    ونفس هذا المعنى ذكره الإمام الغزالي في كتابيه شفاء العليل والمستصفى (21 ).
    ويقول ابن حزم في كتابه المحلى: "إنه يجب على أغنياء كل بلدة أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنّهم من المطر، والصيف، وعيون المارة" (22).
    هذا وإن ما ذكرته من بعض أوجه الشبه بين النظام الضريبي في الإسلام والنظم الضريبية في عصرنا الحاضر لم أقصد منه عقد مقارنة بين ما جاء به الإسلام وما عرف في العصر الحديث، فإن هذا الباب واسع، وإنما أردت أن أبيّن أن الإسلام بتعاليمه السمحة، وتشريعاته الحكيمة، كان له فضل السبق في كثير مما يظنه الناس أنه وليد الحضارة الحديثة.
    وقد كانت السياسة المالية التي انتهجها الإسلام سياسة رشيدة عادلة حققت الخير الكثير للمجتمع الإسلامي في صدر الإسلام، ولمن كانوا يعيشون في ظله الوارف من غير المسلمين.
    وما أحوج المسلمين اليوم في أن يعودوا إلى تعاليم دينهم ليتمسكوا بها حتى يكونوا كما وصفهم الله جل شأنه بأنهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله.
    والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى أقوم طريق.
    وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    الهوامش :
    1 ـ انظر ج5 من صحيح البخاري مع شرحه للقسطلاني ص654 ط دار الطباعة العامرة مصر.
    2 ـ التوبة الآية 103.
    3 ـ سورة المعارج الآية: 24/25.
    4 ـ  التوبة الآية: 60.
    5 ـ سورة التوبة الآية: 29.
    6 ـ انظر ما جرى بين عمر ومجلس الشورى من حوار في كتاب الخراج لأبي يوسف ص29/31/ ط السلفية.
    7 ـ  انظر كتاب الاستخراج في أحكام الخراج لابن رجب الحنبلي ص/7 ط أولى.
    8 ـ  انظر الخراج لأبي يوسف ص42.
    9 ـ الحديث أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة وأبو داود انظر ج4 من معالم السنن للخطابي بذيل مختصر السنن للمنذري ص248.
    10 ـ انظر كتاب الأموال لأبي عبيد ص71/72 ط امبابي بالقاهرة.
    11 ـ انظر ج5 من معالم السنن للخطابي ص/248.
    12 ـ انظر ج8 من نيل الأوطار للشوكاني ص/17 ط الحلبي.
    13 ـ  انظر سورة الأنفال الآية: 41.
    14 ـ تنسب هذه المبادئ إلى أحد كتاب القرن الثامن عشر وهو آدم سميث، ويرجعها بعضهم إلى غيره وفات هؤلاء أن الإسلام وضع هذه المبادئ والتزامها فيما فرضه من الضرائب.
    15 ـ انظر كتاب الخراج لأبي يوسف ص43 ط السلفية.
    16 ـ  المصدر السابق ص43/44.
    17 ـ انظر كتاب الخراج لأبي يوسف ص127/128 المطبعة الحلبية.
    18 ـ انظر كتاب الخراج لأبي يوسف ص127/128 و ط السلفية.
    19 ـ أنظر فتوح البلدان للبلاذري ص143/44/ط الأولى.
    20 ـ انظر ج1 من أحكام القرآن لابن العربي ص59/60 وج2 من تفسير القرطبي ص223 ط الأولى دار الكتب.
    21 ـ انظر شفاء الغليل للإمام الغزالي ص236/37/ط بغداد تحقيق د.الكبيسي وج1 من المستصفى ص303.
    22ـ  انظر ج6 من كتاب المحلى لابن حزم ص156 ط منير.
    المصدر : مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة العدد 46
    كلمات مفتاحية  :
    نظام الضرائب الإسلام تاريخ

    تعليقات الزوار ()