: دور العلماء في بناء الحضارة:
تنبثق أهمية العلماء الحضارية من أهمية العلم والمكتبة والترجمة في بناء حضارة ما، وكما رأينا في المبحثين السابقين أهمية دور الكتب والترجمة، فإننا نؤكد هنا أهمية دور العلماء في بناء الحضارة، والذي يهمنا ههنا هو أن نقف على بعض فضلاء المسلمين الذين كانت لاكتشافاتهم العلمية إثراء ملموس في مسيرة الحضارة الإسلاميةـ والتي –فيما بعد- أصبحت قاعدة للحضارة الأوربية، وهذا يؤكد لنا أهمية العلم في بناء حضارة إسلامية جديدة أو بالأحرى إعادة تجديد حضارتنا السابقة، ومن هؤلاء:
1- جابر بن حيان، رائد الكمياء، كمياء المسلمين الأول، لم تكن الكمياء قبله علماً قائماً على التجربة العليمة، بل كانت نوعاً من الصناعة يتناقلها الناس بلا تجربة، فقعد قواعدها حتى أصبحت جامعات أوربا في عصر النهضة إلى كتبه .
2- الحسن بن الهيثم وعلم الفيزياء، رائد علم الضوء، ولقد بلغت الحضارة الإسلامية في عهده الذروة، وهو كأحد علماء الطبيعة (الفيزياء) الإسلاميين يعتبر الأرفع شأناً، والأعلى كعباً، والأرسخ قدماً، ولعله في مقدمة علماء الطبيعة، دأب ابن الهيثم على تحصيل العلوم الفلسفية والطبيعية والفلكية والرياصية، قرأها قراءة تدبر وتفكر، واعتنى بتلخيصها وشرحها، وألف العديد من الكتب النافعة.
3- ابن سينا والطب، ولد في بخارى في فترة تعتبر من أزهى عصور الحضارة العلمية الإسلامية، سطع في سمائها ابن سينا وابن الهيثم والبيروني،درس الطبيعيات والعلوم الدينية، وقرأ كتب أرسطو وأفلاطون، واشتهر بالطب والفلسفة، كما اعتنى بالرياضيات والفلك، وكان يعالج المرضى دون أجر، واكتسب شهرة فاق بها أهل زمانه حتى لقب بالشيخ الرئيس .
4- ابن البيطار والصيدلة، كان المسلمون أول من أسس مدرسة خاصة للصيدلة، كما كانوا أول من أسس الحوانيت لبيع العقاقير والأدوية، فقد قام الأطباء المسلمون أول صيدلة منظمة تمد الناس بالأدوية، كما وضعوا كثيراً من المصنفات والكتب في خواص الأدوية وتركيبها وتصنيعها ومفعولها وخواصها، واخترعوا الأشربة والخلاصات التي كان يصنعها الأطباء للمرضى.
ومن خير الكتب التي دونت في الصيدلة والأدوية كتاب (جامع المفردات) لابن البيطار، وكذلك ابن رشد ذكر الأدوية اللازمة لعلاج مختلف الأمراض وأثرها سواء الأعشاب أم السوائل أم البقول أم الفواكه أم الأدوية المعدنية .
5- الخوارزمي والرياضيات، نهض المسلمون نهضة عظيمة سواء في الحساب أو الهندسة أو الجبر أو حساب المثلثات أو المكاتب أو الفلك. وقد بنوا معارفهم في الرياضيات على أساس من علوم اليونان والهند ثم تقدموا بهذه العلوم، وخطوا بها خطوات واسعة نحو الأمام.
حين ظهر في الشرق علماء مبرزون أمثال الخوارزمي وثابت بن مرة والبياتي والخيام والخازن البصري وأبو الوفاء اليوزجاني، أما في المغرب الإسلامي فقد ظهر مسلمة المجريطي إمام الرياضيين بالأندلس، والذي كان من تلامذة ابن السمح وابن الصفار والكرماني وأمية بن الصلت، ويجدر بالذكر أن الصفر من أخطر المبادئ التي اهتدى إليها العقل البشري في الرياضيات، ولم يعرف الغرب الصفر إلا عن طريق المسلمين في القرن الثاني عشر حيث قال إير:"إن فكرة الصفر تعتبر من أعظم الهدايا العلمية التي قدمها المسلمون إلى غرب أوربا" .
6- أبو الريحان البيروني وعلم الفلك، نبغ من الفلكيين المسلمين كثيرون من أبرزهم أبو الريحان البيروني محمد بن أحمد، ففد كان فلكيا مرموقا وعالما جليلاً، وهو ثالث الثلاثة، (ابن سينا وابن الهيثم والبيروني)الذين ازدهرت بهم الحضارة الإسلامية، فدرس الفلك والطب والتاريخ، ومن أبرز مؤلفاته (الآثار الباقية من القرون الخالية)وترجم إلى اللاتينية، كما ألف كتاب (القانون المسعودي في الهيئة والنجوم)، وهو من أضخم مؤلفاته، وقام على البحث والتجربة الشخصية، وبلغ عدد مؤلفاته مائة وثمانين كتاباً ورسالة ترجمت إلى اللغات الأوربية، ووضع ملخصاً للرياضيات والفلك والتنجيم في كتابه .
7- المسعودي وعلم الجغرافيا، كان المسلمون يجولون البحار، ويشتغلون التجارة، فشجعهم ذلك على تدوين ما عرفوه في كتب مكتوبة، تضمنت أوصافاً وتقارير وافية عن أحوال البلدان الإقتصادية والاجتماعية والعمرانية، والتي تعد مرجعاً أساسياً في دراسة علم الجغرافيا بفروعه، وكانت الجغرافيا في نظر المقدسي علماً لا بد منه للتاجر والمسافر والملوك والكبراء والقضاة والفقهاء.
وقد بلغت رحلات المسلين أوجها في القرن الرابع عشر الميلادي الذي عاش فيه الرحالة ابن بطوطة الذي زار معظم بلاد العالم القديم على مدى ثلاثين عاماً، وعاد إلى بلاه ليسجل ملاحظاته على هذه الرحلة التي أفادت علم الجغرافيا فوصف ما رأى وسمع، وعبرت هذه الأوصاف عن البيئة الطبيعية والتضاريس والجغرافية البشرية والسكان والعادات والتقاليد، فكانت رحلاته وكتاباته أحسن ما كتب في أواخر القرون الوسطى، وقد نبغ من علماء المسلمين أفذاذاً من أبرزهم المسعودي الذي وضع في كتابه"مروج الذهب" فصولاً عن المدن والبر والبحار، وكذلك المقدسي الذي ألف كتابه القيم: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، وزار معظم أقاليم العالم الإسلامي وغيره، وتحدث في كتابه المذكور عن كل أنواع الجغرافيا .
8- ابن رشد والفلسفة، شهد المشرق الإسلامي نشاط بعض كبار الفلاسفة، أمثال الفارابي والكندي وابن سينا، لكن تأثير الفلسفة الإسلامية على الحضارة الغربية كان مركزه الأندلس، لأن أوربا لم تعرف فلاسفة المشرق إلا عن طريق الأندلس، حين أشرف ريموند أسقف طليطلة على ترجمة أعمال الفارابي وابن سينا والغزالي وغيرهم.
ويعتبر ابن رشد أكبر شارح لفلسفة أرسطو، وعبر عن آراء أرسطو تعبيراً صادقاً فأعلن كرهه للاستبداد، ويرى البعض أن ابن رشد استمد فلسفته من أسلافه أمثال الكندي والفارابي وابن سينا، وكلها تعاليم أرسطو، ولكن ابن رشد أضاف إليها نظريات من الأفلاطونية، وشروح فلاسفة العرب، وفاق ابن رشد الجميع في دقة النقد، ومتانة العمق، وقوة الأدلة .