سؤال خبيث جداً: هل وفاة خمسة من مراقبين امتحانات الثانوية العامة فى أسبوع واحد فى مصر المحروسة الغالية فى ٢٠١٠ تلك التى تتدثر بشعار الحزب الحاكم (من أجلك أنت!) أمرٌ منطقى ومعقول أم أنه مريب ويدعو للتساؤل؟.
تُرى هل هناك ما يربط بين وفاتهم، ووفاة خالد سعيد وانتحار عمرو عبد اللطيف شنقاً على كوبرى قصر النيل ؟! وبين قتلى «أسطول الحرية» الذى سار إلى غزة !! وقتلى حريق سوق الجمعة.
الإجابة القاتلة هى: نعم.
المراقب أحمد فهمى من لجنة الثانوية بنات الأقصر، توفى عقب مغادرته استراحته بالمدرسة متجهاً إلى قريته «كيما» بأسوان، استقل القطار، أصيب بأزمة قلبية بسبب الحر الشديد بعدما انقطع تكييف القطار، تم نقله من محطة قوص إلى المستشفى المركزى، لكن القاتل كان له بالمرصاد، والداهية الأكبر أن لجنته لم تعلم بموته وقامت بتغييبه يومى الأربعاء والخميس..
المسألة ليست مسألة حَرّ فقط لأن الرجل من أسوان أصلاً، لكن الحرّ مع الضغط النفسى الشديد مع صورة الوزير الخفير الجديدة، واختلال منظومة الدولة ككل، من حال الاستراحات إلى حال المراقب نفسه إلى حال عربة الإسعاف وإلى حال المستشفى إلى انعدام التواصل وعدم علم لجنته بوفاته فتسجله غائباً عنها وهو غائب عن الحياة، إلى حال الثانوية العامة وحال التعليم.
المراقب الثالث «حسب ترتيب وزارة الصحة» الذى قتله القاتل المأجور المنخور النفس المهترئ القيمة والفاقد المعنى، مات يوم الأربعاء بعد شعوره بالتعب والإعياء الشديد وفى مستشفى أسيوط فاضت روحه، وكان فوزى حماد، ٥٨ سنة من إسنا، يراقب فى سوهاج وتعرض لأزمة قلبية فور دخوله إلى الاستراحة ونُقل قبل وصوله إلى المستشفى،
أما مراقب لجنة طهطا فمات داخل استراحة المراقبين الفقيرة الموارد فى كل شىء، أصيب بإعياء بسبب الحرّ، وعند قيام زملائه بإيقاظه من النوم فوجئوا بوفاته، وأرجح تقرير مفتش الصحة الوفاة إلى تأثير الحرارة على وظائف المخ، وصرحت النيابة بدفن الجثة وتسليمها لذويه لعدم وجود شبهة جنائية.
نرى أن معظم هؤلاء الرجال فوق الخمسين (ما عدا واحداً كان عمره أربعين سنة)، وأن معظمهم فارقوا الحياة فى المستشفى أو فى الطريق إليه، وأنهم تعرضوا كلهم لأزمة قلبية ولإعياءٍ شديد. الحرّ ليس متهماً ولهذا فلا توجد شبهة جنائية، لكن القاتل معروف والسبب مفضوح والضغط النفسى الشديد يؤدى إلى انهيار جهاز المناعة والأجهزة الحيوية، وغالباً ـ والله أعلم ـ أن هؤلاء المواطنين المصريين قد فقدوا حبهم للحياة وحبهم لمصر، وماتت داخلهم روح المقاومة والأمل والرغبة فى التغيير.
إن قبلة الحياة التى يحاول النظام أن يطبعها على ثغور الميتين لن تجدى فى موت النظام الصحى والتعليمى، لن تجدى فى إضفاء الشباب على جسد الوطن المترهل وروحه العجوز.
إن هذا الموت هذا العام بهذا الشكل محصلة حتمية لحال المجتمع، وما حدث ما هو إلا تأصيل وتقنين لتدنى سعر الإنسان فى ظل غلاء لحم الحيوان والزيارات العنترية لوزراء يستعينون بصديق ويختزلون الإدارة والتنظيم وكرامة البنى آدم فى تصريح ولقاء تليفزيونى.
ربما أدرك العقل الباطن لشهداء مراقبة الثانوية العامة، كم هو عقم هذا التعليم، وكم هذه الثانوية العامة آلية فاشلة لقياس التعلم والمهارة، فالواقع يدلنا على أن نسبة غير قليلة من متفوقى الثانوية العامة تعانى من مشكلات جمّة فى التعليم الجامعى تصل إلى حدّ الرسوب وتكراره. وفاة مراقبى الثانوية العامة وخالد سعيد قتيل الإسكندرية ومنتحر كوبرى قصر النيل تدل على حالة من الاتزان المرضى (أى أن الأمور ماشية وبتزق بعضها وما دامت الدنيا متلصمة يبقى مافيش داعى للحسرة أو الاعتراض).. بمعنى أن هناك مرضى عندما يشفون من اضطراباتهم ويهتزون ولا يتمكنون من مواجهة الواقع.
إن مراقبى الثانوية العامة كانوا من عداد الموتى على قيد الحياة قبل وفاتهم المُعلنة (معظم المصريين الذين يقضون جُل وقتهم فى المرض وعلاجه، فى الكبد ومداواته، فى الكلى وغسلها، فى دوامة الجمعيات والديون، فى هلكة الرشوة والواسطة والمحسوبية، فى طاحونة القسوة والفظاظة والفجاجة، فى كل من يضع يده على الأرض والعرض، فى الاتجار بالأجساد والأطفال، فى البحث عن لقمة شريفة وهدمة نظيفة وسكنى صحية وهواء نقى، خرجت جثث المراقبين من عباءة كل هؤلاء الذين يمسحون ريالتهم وهم يشاهدون قنوات التليفزيون الأرضية والفضائية تنقل محاكمات المليارديرات والفاسدين والمفسدين، خرجت من عباءة كل هؤلاء الموتى على قيد الحياة، ليموتوا كمداً وحسرةً وإعياءً، ماتوا فى كرامة الموتى بلا أوراق نقدية تمن بها عليه قفاً غليظة أو كرش ممتلئ).
لكن ماذا لو قضينا على الرشوة والواسطة والمحسوبية والإهمال والفوضى، ماذا لو أمسكنا باللصوص الحقيقيين، هل سيظهر القاتل الحقيقى وهل سنتمكن من العيش فى رفاهية وكرامة وحب وإنسانية، أم أن ما فعلناه بأنفسنا وما فعله بنا هؤلاء من هدر للطاقة والوقت والمال قد تمكن من جيناتنا، وقضى على قدرتنا على الحب ولو حتى خطوة إلى الأمام دون خطوتين إلى الخلف.
إن النظام الذى يتزين بورقة توت ويحرص على طلاء المعابد وإضاءة الكشافات والهرولة حول القرى السياحية والكبارى والمطارات الجديدة، يعلم جيداً أن القاتل واحد وأن القضية لن تُقيّد ضد مجهول لأن الحرّ هو الحرّ، والامتحانات هى الامتحانات لكن الظروف غير الظروف والبنى آدم غير البنى آدم.
تُرى هل القاتل الحقيقى، وليس الافتراضى، أتى من بطن هؤلاء: الهتّيفة والصقّيفة، القرعجية والبلطجية، صيادى الفرص وسارقى المليارديرات، ناهبى الأراضى وقاتلى الفرحة وخاطفى اللقمة من أيدى اليتامى، قطاع الطرق وشُذّاذ الأفاق، السائرين نياما ً والضائعين بلا هدف فى الوطن الكبير يغنون فى بلاهة (وتعيشى يا مصر، ويموت أبناؤك)...
القمع يقتل وسدّ الحنك يقتل والعطش للشكوى والحرية والرفض يقتل.
ربما تنهض مصر يوماً ما حقاً.. ربما تقوم من عثرتها، لتعود لتدفن مراقبيها، وللصلاة مرة أخرى على خالد سعيد، وللبحث عن جثث ضحايا العبارة. وعن موتى أسطول الحرية، وعن الجثث المتفحمة فى سوق الجمعة وقطار الصعيد. ربما وربما تحللت أنسجة مخ المراقبين من الحر، لكن ليس الحرّ وحده ما يوقف وظائف المخ، إنه أيضاً القمع بجميع صوره وقبحه وبشاعته.