مقدمة:
يقول العلامة ابن خلدون في مقدمته: «إن الاجتماع الانساني ضروري، ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم الانسان مدني بالطبع، أي لا بدّ له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم وهو معنى العمران».فالفرد الواحد غير قادر وحده على تحصيل حاجته وما يغذي استمرارية حياته، ومن هنا كان لابد له من التعاون مع أبناء جنسه للحصول على قوت يومه ونمو فكره وعقله والذي بهما يقوى لكي يتعرف ويتطلع على كل ما هو جديد ويدور في فلكه، واذا لم يتحقق هذا التعاون فاستمرارية حياته تغدو مهددة بالخطر والتي قد تصل فيما بعد إلى الزوال."لذلك فان هذا الاجتماع ضروري للنوع الانساني، ومما لا شك فيه فانه لا بدَّ لهذا الاجتماع من رادع يدفع البشر بعضهم عن بعض، فواحد منهم له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة... وهذا هو معنى الملك"
(1).والانسان قد عرف الحياة الاجتماعية منذ نشأته الاولى، وبدأت معه عندما كان متنقلاً (مجتمع الجمع والصيد) ولازمته في استقراره (المجتمع الزراعي والصناعي). وتعبير انسان اجتماعي يعني علاقات اجتماعية مع الاخرين.لقد استدعى وجود الانسان مع الاخرين ارتباطه بقواعد معينة من السلوك تتمشى مع عاداتهم وتقاليدهم، وهذا الترابط نجده عند بعض الكائنات الحية أيضاً «كما في الجراد والنحل... إلاّ أن ذلك موجود لغير الانسان بمقتضى الفطرة والهداية لا بمقتضى الفكرة والسياسة»[/color]
(2).والذي يميز الترابط الانساني عن غيره هو الترابط الثقافي، ومن ثم تحدد علاقاته وسلوكه مع الاخرين لا بالفطرة وانما بالتعلم من خلال تجارب الاخرين.واذا كان السلوك الفطري الحيواني يتميز بالثبات فالسلوك الانساني يتميز بالتنوع والتغير تبعاً للمكان والزمان، فما يصح هنا لا يصح هناك.«من هنا نجد ان اهتمامات علم الاجتماع بالمجتمع او الجماعة او المجتمع المحلي لا يتوقف عند الحدود العددية لها بقدر ما يتوقف عند الابعاد النوعية وكيفية تنظيمها وانماط عيشها وسلوكها، وهذا ما يصطلح عليه بعلاقات اجتماعية.وهذه العلاقات الاجتماعية بين الافراد ما هي إلاّ علاقات تفاعلية محورها المشاركة في المجتمع
(3).وقد يتناول الباحث الاجتماعي موضوعاً مبسطاً ومباشراً كالعلاقات بين الزوجين أو الابناء، أو موضوعاً منظماً كالنظام الاسري والثقافي والاقتصادي والسياسي والديني، وهو ما يعرف في علم الاجتماع بالنظم الاجتماعية. إلاّ ان المفهوم السوسيولوجي في الوقت الحاضر تخطى المنظور التقليدي، فمجتمع اليوم اكثر تنقلاً وحراكاً وبالتالي فان قيمه عرضة للتغير والتبدل.مفهوم علم الاجتماع وتعريفه:إنّ لفظ «المجتمع» انما يطلق على نظام له وجود واقعي، وله أسس واركان محددة. وبمعنى أدق إن «المجتمع» لا يطلق إلاّ على التشكيلة الاجتماعية التي لها نظرية حول الوضع الشرعي أو القانوني للجماعة والمنزلة الاجتماعية والحقوقية للافراد. وفي ضوء طبيعة ذلك الوضع تصاغ العلاقات الاجتماعية المناسبة
(4).وعلم الاجتماع هو أحد فروع علم السلوك الانساني التي تحاول إكتشاف العلة والمعلول في العلاقات الاجتماعية بين الافراد. فهو يتناول دراسة العادات والاعراف، والتركيبات والمؤسسات الاجتماعية الناشئة من التفاعل بين الناس.ويحاول دراسة القوى التي تستطيع أن تكتنف تلك العادات والاعراف والمؤسسات الاجتماعية أو تضَّعفها. وبكلمة، فإن علم الاجتماع يدرس الطبيعة الانسانية للمجتمع واساليب الحفاظ على تركيبته الثقافية والسياسية، باعتبار ان اهم ما يميز السلوك الانساني عن سلوك بقية الكائنات هو طبيعته الاجتماعية.ولا شك أنّ تنظيم المؤسسات الاجتماعية يلعب دوراً رئيسياً في صياغة شكل أفعال الانسان على ساحة المجتمع. فمهمة علم الاجتماع تتلخص باكتشاف الطرق التي تستخدمها المؤسسات الاجتماعية على الفرد، وطبيعة تفاعله مع الاخرين. ومثال ذلك: التركيبة العائلية، التي تعتبر من اهم الحقول الدراسية في بحوث علم الاجتماع، والتركيبة الاقتصادية والسياسية ونحوها.ومع أن منشأ علم الاجتماع كان ولا يزال غربيّاً في اطاره العام، وتركيبته العلمية والثقافية كانت ولا تزال منتزعة من التقاليد والاعراف الاوروبية، إلاّ ان إرتباط مبادئ علم الاجتماع بالفلسفة الاخلاقية يجعلنا ننظر ـ وبتحفظ ـ من زاوية العلم الذي يدعو إلى التماس الارتكاز العقلائي في تنظيم المؤسسات الاجتماعية
(5).وقد كان طموح علم الاجتماع ان يتطور بشكل متواز لتطور العلوم الطبيعية كالكمياء والفيزياء والطب، إلاّ إنّ ذلك الطموح لم يتحقق لاختلاف المباني التي استندت عليها العلوم الاجتماعية قياساً لاشقائها في العلوم الطبيعية. بل إن العلوم الاجتماعية ـ في بعض مراحلها المتقدمة ـسلكت مسلك الاداة التنفيذية للاستعمار الاوروبي في فهم سلوك المجتمعات غير الاوروبية وتفاعلاتها الاجتماعية وعقائدها الدينية.وكل ذلك النشاط كان يهدف إلى غاية غير نبيلة تمثّلت بالسيطرة على مقدرات تلك الشعوب سياسياً واجتماعياً واقتصاديا
(6)ً.وعلى اي حال فقد ارتبطت دراسة الاحداث الاجتماعية بظهور الازمات الاجتماعية وكل ما يتعلق بها، فكلما تعدت الحوادث نطاق المألوف او تباعدت عنه، كلما استدعى ذلك الوقوف عند تلك التغيرات والتقلبات التي تلفت الانتباه، لا تلك الاحداث العادية المستقرة التي لا تحتاج إلى حلول. وعلم الاجتماع او السوسيولوجيا كما يُعرّفه «غاستون بوتول»: «هو العلم الوحيد الذي ما زال يتتبع ـ منذ نشأته ـ دراسة موضوع ما زال في طريق التطور السرمدي، وارتبطت كل خطوة من خطواته الكبرى بقلق اجتماعي كبير»
(7).ويحدد «اليكس انكلس» ثلاث طرق لتعريف علم الاجتماع وهي: الطريق التاريخي وذلك من خلال دراسة الكتابات السوسيولوجية الكلاسيكية للوقوف على رأي المؤسسين لعلم الاجتماع. فالعاطفة واحترام التراث تدفعاننا للاستعانة بالطريقة التاريخية التي من خلالها نستنشق حكمة الاجيال السابقة. والطريق الامپيريقي من خلال دراسة الاعمال السوسيولوجية المعاصرة والموضوعات التي يوجهون إليها أكبر إهتماماتهم. والطريق التحليلي أو النظري من خلال تحديد موضوع علم الاجتماع وموقعه بين العلوم الاخرى
(8).هذا، ولا شك إن التوجه الحديث لعلم الاجتماع في جمع المعلومات عن المشاكل الاجتماعية وتحليلها، كان قد نقل ذلك العلم من مرحلة التحليلات الذهنية إلى مرحلة العلم التجريبي. فبفضل التقنية الحديثة في جمع المعلومات عن الافراد والمجاميع، والمنظمات، والشعوب، أصبح علم الاجتماع قادراً ـ إلى حد ما ـ على التنبؤ العلمي بسلوك المجتمعات او الافراد المتوقع حدوثه عقب احداث خاصة وقعت توّاً كالثورات والانتفاضات والحروب ونحوها.فعلم الاجتماع يدرس سلوك الافراد في المدن ذات الكثافة السكانية الكبيرة عن طريق طبيعة توزيع الثروة الاجتماعية. فيدرس قيمة الاراضي، والتوزيع العرقي للافراد في المدينة، ومستويات التخلف العقلي بين الناس، وتحلّل الاسرة، ومستويات الجريمة ونحوها، وبعد جمع المعلومات عن كل تلك القضايا الاجتماعية، يبدأ بتحليلها وبناء الاستنتاجات المستنبطة على ضوئها.إلاّ ان التغير المستمر في أساليب جمع المعلومات والمنهجية العلمية، يجعلنا دائماً نتردد في حمل النتائج المستخلصة من البحوث التجريبية لعلم الاجتماع على سبيل القطع او على صورة المسلّمات العقلية. فلا بد لنا من حمل تلك النتائج على اساس أنها افضل المعلومات والتحليلات المتوفرة لنا لفهم النظام الاجتماعي والمؤسسات الملحقة به