البكاء عاطفة إنسانية ملازمة للحزن، والرثاء هو التعبير الأصدق الذي يتجاوز حدود الدموع، هو صور تندفع من أعماق الروح وتتنزى كلمات ترتدي لون الغروب وترتسم غيمة شاردة في سماء الخريف. ولعل أصدق ما يقال في هذا حينما يرثي الشاعر نفسه ويتكئ على جذع النخلة، تغوص قدماه بالرمل ويرجع باللحظات المتبقية قبل أن يريق الأصيل دمه وتسحبه جذور النخلة إلى حتفه. تمر الخيالات وراء عينيه كالنجوم حينما تبدو خلف الغمام، وتعبر الأصداء فوق رأسه كطيور المساء. وحين نحاول اصطياد حمامة ونصغي فقد يكون بعض الهديل: ميت أنا، غسلوني من دمع أمي قبري المدى، وكفني الغروب يبكيني الأدهم في الليالي الغر وقلة تبقى تذكرني من الأصدقاء وابنة تسلي روحها إن سلتني وصغار يتذكرون ضحكات المساء ميت أنا، وأخشى من سكتة العمر أيقظوني حتى أموت، لا تتركوني أموت مرتين فتعالوا معنا لنعيش تلك اللحظات ونعد أنفاس شاعرنا الأخيرة. الشاعر هو مالك بن الريب المازني التميمي ترعرع في بادية بني تميم عند البصرة، اتخذه سعيد بن عثمان بن عفان والي خرسان من قبل معاوية وعند قفولهما من خراسان مرض وراح يرثي نفسه، عاصر الحجاج ومعاوية. والقصيدة جاءت على أوزان البحر الطويل. أَلا لَيتَ شِعْري هَلْ أَبيْتَنَّ لَيْلَةً بِجَنْبِ الغَضَى أُزْجِي القِلاصَ النَّواجِيا فَليت الغَضَى لَم يَقْطَعِ الرَّكْبُ عَرْضَهُ و لَيت الغَضَى ماشَى الرِّكابَ لَياليا لقد كان في أهل الغَضَى لوْ دَنا الغَضَى مَزَارٌ ولكنَّ الغَضَى ليس دَانِيا أَلَمْ تَرَني بِعْتُ الضَّلالةَ بالهدى و أصبحتُ في جيشِ ابنِ عَفَّان غازِيا! وأصبحتُ في أرضِ الأَعادِيِّ بعدما أَرانيَ عن أرض الأعادِيِّ قاصِيا دَعاني الهوى منْ أهلِ أُودَ و صُحْبتي بِذي الطَّبَسَيْنِ فالْتَفَتُّ وَرائيا أَجَبْتُ الهوى لَمَّا دعاني بِزَفْرةٍ تَقَنَّعْتُ منها، أن أُلامَ، رِدائيا أقول و قد حالَتْ قُرَى الكُرْدِ دُوننا: جزى الله عَمرواً خير ما كان جازِيا إنِ اللهُ يُرْجِعْني منَ الغزو لا أُرى وإن قَلَّ مالي طالباً ما وَرائيا تقول ابنتي، لَمَّا رأتْ طول رحلتي: سِفارُكَ هذا تاركي لا أبا ليا لَعَمري، لَئنْ غالتْ خُراسانُ هامَتي لقد كنتُ عن بابَيْ خُراسانَ نائيا فإن أَنْجُ من بابَيْ خُراسانَ لا أَعُدْ إليها، وإنْ منَّيْتُموني الأمانيا فللهِ دَرِّي، يومَ أَترُكُ طائعاً بَنيَّ بأعلى الرَّقْمَتَيْن، ومالِيا وَ دَرُّ الظِّباءِ السَّانِحاتِ عشِيَّةً يُخَبِّرْنَ أنّي هالِك، مَن وَرائيا و دَرُّ كَبيرَيَّ اللَّذَينِ كِلاهُما عليَّ شَفيقٌ ناصِحٌ لو نَهانِيا و دَرُّ الرِّجالِ الشَّاهدينَ تَفَتُّكي بأمريَ ألاَّ يَقْصُروا مِن وَثاقِيا و دَرُّ الهوى مِن حيثُ يدعو صِحابهُ و دَرُّ لَجَاجاتي ودَرُّ انْتِهائيا تَذَكَّرْتُ مَن يَبْكي عليَّ فلم أَجِدْ سِوى السَّيفِ و الرُّمْحِ الرُّدَيْنيِّ باكيا وأَشْقَرَ مَحْبُوكٍ يَجُرُّ لِجامه إلى الماءِ لم يتركْ لهُ الدَّهْرُ ساقِيا ولكنْ بأَكْنافِ السُّمَيْنَةِ نِسْوةٌ عَزيزٌ عليهنَّ العَشِيَّةَ ما بِيا صَريعٌ على أَيدي الرِّجالِ بِقَفْرَةٍ يُسَوُّونَ لَحْدي حَيْثُ حُمَّ قَضَائيا ولمّا تَراءَتْ عند مَرْوَ مَنِيَّتي وخَلَّ بها جسمي وحانَتْ وَفاتيا أقول لأصحابي: ارْفعوني فإنَّهُ يَقَرُّ بعَيْني أنْ سُهَيْلٌ بَدا ليا فيا صاحبَيْ رَحْلي، دَنا الموتُ فانْزِلا برابِيَةٍ، إنِّي مُقيمٌ لياليا أَقيما عليَّ اليومَ أو بعضَ ليلةٍ ولا تُعْجِلاني، قدْ تَبَيَّنَ شانِيا وقوما، إذا ما اسْتُلَّ روحي، فهِّيِئا ليَ السِّدْرَ و الأكفانَ عند فَنَائيا وخُطَّا بأطراف الأَسِنَّةِ مَضْجَعي ورُدَّا على عَيْنَيَّ فَضْلَ رِدائيا ولا تَحْسُداني، بارك الله فيكما، منَ الأرضِ ذاتِ العَرْض،أن توسِعا ليا خُذاني فَجُرَّاني بِبُرْدي إليكما فقد كنتُ قبلَ اليومِ صعباً قِيادِيا وقد كنتُ عَطَّافاً إذا الخيلُ أدبرتْ سَريعاً إلى الهَيْجا إلى من دَعانيا وقد كنتُ صَبَّاراً على القِرْنِ في الوَغى و عن شَتَمِيَ ابنِ العمِّ و الجار وانيا فَطَوْراً تَراني في ظِلالٍ ونعمَةٍ ويوماً تراني والعِتاقُ رِكابيا ويوماً تراني في رَحىً مُسْتديرةٍ تُخَرِّقُ أَطرافُ الرِّماحِ ثِيابيا وقُوما على بئرِ السُّمَيْنَةِ أَسمِعا بها الغُرَّ و البيضَ الحِسانَ الرَّوانيا: بأنكما خَلّفْتُماني بِقَفرَةٍ تَهيلُ عليَّ الريحُ فيها السَّوافِيا و لا تَنْسيا عهدي خَليليَّ بعدما تَقَطَّعُ أوصالي و تَبلى عِظاميا ولنْ يَعْدَمَ الوَالُونَ بَثًّا يُصيبهمْ ولن يَعْدَمَ الميراثَ منّي المَوَالِيا يقولون: لا تَبْعُدْ ، و هم يَدْفِنونَني وأين مكانُ البُعْدِ إلاّ مكانيا! غَداةَ غدٍ يا لهفَ نفسي على غدٍ إذا أَدْلَجوا عنّي وأصبحتُ ثاوِيا وأصبح مالي من طَريفٍ وتالدٍ لِغيري، وكان المالُ بالأَمسِ ماليا فياليت شِعري هلْ تَغَيَّرَتِ الرَّحى رَحى المِثْلِ أو أَمْسَتْ بِفَلْجٍ كما هيا إذا الحَيُّ حَلُّوها جميعا، وأَنْزَلوا بها بَقراً حُمَّ العيونِ سَواجِيا وعِيناً وقد كادَ الظَّلامُ يُجِنُّها يَسُفْنَ الخُزامى مَرَّةً والأَقاحِيا وهلْ أَتْرُكُ العيسَ الغَوالي بالضُّحى برُكبانها تَعْلو المِتانَ القَياقِيا إذا عُصَبُ الرُّكْبانِ بينَ عُنَيْزَةٍ وبَوْلانَ عاجوا المُنْقِياتِ النَّواجِيا فياليت شعري، هلْ بَكَتْ أُمُّ مالكٍ كما كنتُ لو عالَوْا نَعِيَّكَ باكيا! إذا مِتُّ فاعْتادي القبورَ فسَلِّمي على الرَّمْسِ،أُسْقِيتِ السَّحابَ الغَوادِيا على جَدَثٍ قد جَرَّتِ الرِّيحُ فَوقَهُ تُراباً كَسَحْقِ المَرْنُبانيِّ هابِيا رَهينَةَ أحجارٍ وتُرْبٍ تَضَمَّنَتْ قَرارَتُها منّي العِظامَ البَوَاليا فيا صاحبي، إما عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ بَني مازنٍ و الرَّيْبِ أن لا تلاقيا و عَطِّلْ قَلوصي في الرِّكابِ فإنها سَتفْلِقُ أكْباداً وتُبكي بَواكيا وأَبْصَرْتُ نار المازِنِيَّاتِ مَوْهِناً بعَلْياءَ يُثْنى دونَها الطّرفُ وانِيا بعُودَي أَلَنْجُوجٍ أضاءَ وَقودُها مَهاً في ظِلالِ السِّدْرِ حوراً جَوازَيا بعيدٌ غَريبُ الدَّار ثاوٍ بقَفْرَةٍ يَدَ الدَّهرِ، مَعْروفاً بأنْ لا تَدانِيا أُقَلِّبُ طَرْفي حَولَ رَحلي فلا أَرى بهِ من عيونِ المُؤْنِساتِ مُراعِيا وبالرَّمْلِ منّا نِسْوةٌ لو شَهِدْنَني بَكَيْنَ وَفَدَّيْنَ الطّبيب المُداوِيا وما كان عهدُ الرَّمْلِ عندي وأهلِهِ ذَميما، و لا وُدِّعْتُ بالرّمل قالِيا فمنهنَّ أمِّي وابنتاها وخالتي وباكيةٌ أخرى تَهيجُ البواكِيا