الشعب المصرى، الذى هو أنا وأنت وكل من نعرفه ويعرفنا، يتمتع بقدر هائل من خفة الظل، ولا أتصور أن هناك شعبا على وجه البسيطة يمكن أن يتفوق علينا فى هذه الميزة الكبرى.. فنحن نعرف كل شىء، ولدينا تبرير لكل ما يحدث، وإجابة لكل ما يثار من أسئلة أو استفسارات.. لا أحد يسبقنا فى الفتوى، وليس هناك من يضاهينا فى العلم والفقه.. أما السياسة فنحن أهلها ورجالها دون منازع.. كلنا أهل ذكر وعلم، ولا تجد عندنا من يقول، ولو فى لحظة غفلة، لا أعلم.. مع أنه أثر عن بعض علمائنا قوله: من قال لا أعلم فقد أفتى.. وحيث يضحى الكل عالما وفقيها ومفتيا ومفكرا وفيلسوفا، يضيع العلم وتهدر معه أقدار الرجال.. يقول الشاعر المفكر الدكتور أحمد زكى أبوشادى:
إذا عرف الرجال حقوق بعض
لبعض نزهوا عن كل ضعف
فتنتظم البلاد بهم وتسمو
ويغدو الفرد معدودا بألف
تجد على ألسنتنا دائما ونحن نتحاور مع الآخرين هذه العبارات الأثيرة والمثيرة: لأ لأ.. أصلك مش فاهم.. لأ لأ.. أصلك مش مدرك.. لأ لأ.. أصلك مش متصور.. والمعنى الذى نريد أن نصدره لغيرنا هو أننا وحدنا الذين نفهم، وندرك، ونتصور كل شىء.. ألم أقل إننا شعب خفيف الظل؟ كنت مثلا ألاحظ حين تجمعنى جلسة مع بعض إخوانى، منهم الطبيب والمهندس والجيولوجى والزراعى والتجارى، وتثار مسألة طبية، فيسارع الجميع إلى الفتوى فيها، ما عدا الطبيب الذى يتم تجاهله بالكلية، كأنه غير موجود.. وقس على ذلك الكثير..
أذكر أنى دخلت مكتب أحد أساتذتنا الجيولوجيين فى صبيحة يوم ٥ يونيو ١٩٦٧ فرأيته قد افترش خريطة مصر وقام يشرح لأحد معاونيه من زملائنا ما يجب على الجيش المصرى أن يفعله، فالطائرات يجب عليها أن تقلع فى هذا الاتجاه، ورجال المظلات هذا هو وقتهم، والقوات البرية عليها أن تتحرك خلف كذا.. كان الرجل يدير المعركة من مكتبه! المهم أنه فى غمرة انهماكه كان يمسك بمكنسة يدوية ليشير بها إلى مواقع الدفاع والهجوم والكر والفر!
المضحك المبكى هنا أن الذى كان يتكلم فى كيفية إدارة المعركة الحربية هو أستاذ جامعى يعلم معنى التخصص، وأن لكل علم أهله ورجاله، وأنه لا يسمح لأحد فى حضرته أن يدلى بدلو فى شىء هو يعتبره فنه الذى برع فيه وأجاده، لكنه كعادة المصريين فى هذا الزمان، يعشق الحديث فى كل شىء.
من الأمثال الشعبية التى توارثناها من قديم عن الآباء والأجداد هذا المثل: «أعط العيش لخبازه ولو أكل نصفه» وذلك كناية عن احترام التخصص.. وفى مدينتنا الحبيبة دمياط، كان آباؤنا يعهدون بأبنائهم وهم ما زالوا بعد صغارا، إلى «المعلمين والأسطوات» الكبار لتعلم الحرف والمهن المختلفة.. وفى ظرف سنوات قليلة يصبح هؤلاء الأبناء صناعا مهرة، كأنهم مرجعيات، كل فى حرفته.. فى النجارة مثلا، هذا متخصص فى صناعة غرف النوم، وذاك فى أطقم السفرة، وهكذا..
وفى الحلوى، هذا خبير لا ينازع فى البقلاوة، وذاك صاحب الريادة فى الهريسة، وهكذا.. أنت إذن أمام مجتمع من المتميزين.. وقد سمعت من أصحابنا الذين زاروا جنوب شرق آسيا، أن الناس هناك يمثلون مجتمعا منتجا على قدر عال من التميز.. إن الإبداع قرين التخصص، ولا خلاف على أن الفوضى التى نعيشها لا يمكن أن تخلف ريادة فى أى ميدان.. لقد أوصانا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه»، لكن لا أحد يريد أن يسمع.
فى تصورى أن هذا ناشئ عن القهر السياسى الذى عانى منه الشعب المصرى طويلا.. فأن تسلب منك حريتك وإرادتك، وأن تستباح حرمتك وآدميتك، يضيع إحساسك بالقيمة الحقيقية لذاتك، بل يتلاشى عندك التقدير الموضوعى والمنصف لأى شىء، وساعتها سوف تكون أمام أحد أمرين هما:
إما أن تصاب بإحباط أو اكتئاب، حيث يغالبك شعور بالدونية تفقد معه القدرة على إنجاز أى عمل، أو العكس يجعلك فى بحث دائم عما يعوض ذلك بإثبات أنك أنت الأعلم بكل ما يجرى والأفهم لكل ما يقال أو يثار.. حاول مثلا أن تلاحظ الناس وهم يتحاورون، سوف تجد قاسما مشتركا أعظم بينهم يبدأون به حديثهم وهم يجيبون على سؤال أو يعلقون على ما يقال.. هذا القاسم هو: لا.. لا.. فى ظنى، هذه اللازمة، وليصحح لى علماء النفس إن كنت مخطئا، هى محاولة لإثبات ذات مفقودة أو قيمة مسلوبة..
إن الاستبداد بطبيعته يقوم على قهر الشعوب وإذلالها وتشتيت شملها، وسحق كل ما لديها من معان وصفات جميلة من ثقة واتزان وعقل وحكمة وعزة وإباء وشموخ، فضلا عن أنه يعمل على تصفية قدراتها على الابتكار والإبداع.. والشعوب بدورهها تحاول الانتقام من أنظمتها المستبدة، ومن نفسها، بالتسيب والإهمال والسلبية واللامبالاة والفوضى وفقدان الانتماء وعدم الولاء، وكل ذلك يؤدى إلى التخلف والضياع.
لست دارسا للعلوم السياسية على يد أهل العلم والاختصاص بالشكل المنهجى والتقليدى المتبع فى الجامعة.. صحيح قرأت عشرات من الكتب و مئات من التقارير والتحليلات فى شتى العلوم السياسية، ومارست العمل السياسى لعشرات السنين، لكنى أشعر فى كثير من الأوقات بحاجتى الشديدة لأن أكون طالب علم فى السياسة، وأن أجلس فى قاعات الدرس مع بقية الطلاب، أسمع وأناقش وأحاور، لكن يبدو أن الوقت لا يسعف، وكما يقولون ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.. وقد يقال إن الأستاذ العقاد رحمه الله لم يكن طالبا فى جامعة، ورغم ذلك ثقف نفسه بنفسه، وصار قامة كبيرة وموسوعة ضخمة، فلسفية وأدبية وسياسية وأشياء أخرى كثيرة، لكن أين نحن من العقاد؟
لقد كان فلتة نادرة قَّلما يجود الزمان بمثلها، كان استثناء، والاستثناء كما يقولون لا يقاس عليه.. لذا أنا أعتبر نفسى مجرد ناشط سياسى، أمارس السياسة من منازلهم، وفارق كبير بين أن تكون دارسا وأن تكون ناشطا.. وإن كنت أرى أن كلا النوعين مطلوب، الدارس والناشط، وأن كلا منهما فى حاجة إلى الآخر.. لكن من المؤكد أنى لو كنت دارسا لأصبح الوضع مختلفا، ولكى نتدارك هذا النقص علينا ألا نبتعد كثيرا عن أساتذتنا من أهل العلم والاختصاص.
أحسب أننا فى مصر لدينا كم هائل من التشريعات لدرجة تشعر معها أنك أمام غابة أو فوضى تشريعات ليس لها نظير فى العالم، فيها من التناقضات ما يدعو إلى الدهشة والذهول.. قال أحد العارفين، ممن يؤمنون بنظرية المؤامرة، إنه أمر مقصود من النظام المستبد الذى يستهدف وضع معارضيه فى حالة حيرة وارتباك من ناحية، واستدعاء القانون المناسب الذى يوافق هواه، فى هذه اللحظة أو تلك، من ناحية أخرى.. قل مثل ذلك فى اللوائح التنفيذية والقرارات الوزارية والإدارية عموما.. وإن نسينا فلا ننس الدستور، خاصة بعد الانقلاب الأخير الذى حدث عام ٢٠٠٧ فى ٣٤ مادة منه، والتناقضات المذهلة التى أحدثتها، فضلا عن شرعنة الاستبداد، مما يؤكد خفة ظل من فكر فيها وصاغها ووافق عليها..
ناهيك عن إهدار عشرات ومئات، بل آلاف من أحكام القضاء.. ألم أقل لكم إننا شعب، أو بالأحرى، دولة ليس لها حل؟ ولا يمل الاستبداد من اللجوء إلى الإجراءات الاستثنائية والتدابير الشاذة، فهى بالنسبة له كالهواء والماء، وهى هنا ممثلة أحسن تمثيل باستمرار حالة الطوارئ التى يقف عندها الدستور بمواده والقوانين بكل تناقضاتها عاجزة وحائرة.. فإذا أعيته الحيلة ولم يكن هناك بد، كانت العصا الغليظة فى حالة تأهب واستعداد كاملين..
ومن الطبيعى أن ينتقل هذا النهج إلى عموم الناس، فالذى لا يستطيع إنجاز حاجياته عن طريق القانون والمحاكم، يقوم بإنجازها عن طريق الوسائل غير التقليدية، وإلا فالعصا الغليظة هى الأسلوب المعتمد.. يحدث هذا فى كل شىء، فإذا حدث مثلا أن مارس الاستبداد عند القمة تزوير الانتخابات النيابية، أفضى ذلك إلى حالة تزوير عامة تنسحب على كل شىء.
إن الفوضى التى نعيشها فى شتى أمور حياتنا يستحيل معها حل أى مشكلة، فضلا عن حدوث أى نهضة مرتقبة.. لدينا فوضى فى السياسة والإدارة والتخطيط والتعليم والصحة والثقافة والإعلام والرياضة والتجارة والزراعة والصناعة والإسكان والنقل والمواصلات.. ناهيك عن المليارات التى نهبت من البنوك وهرب أصحابها إلى الخارج، ثم نهب المليارات مؤخرا بزعم علاج الفقراء!! وفى ظل هذه الفوضى سوف يستمر الغوص حتى النخاع فى العديد من الهموم والأوجاع، داخليا وخارجيا، وليست أزمة نهر النيل إلا أحد تجليات فوضى اللحظة الراهنة.
حكى لى أحد أصدقائى، وهو أستاذ بكلية الهندسة، أنه كان يستضيف أستاذا زائرا من اليابان، وأراد أن يرى الضيف معالم أسيوط، فأركبه معه فى سيارته الخاصة وانطلق يطوف به، وأثناء مروره بشارع المحطة، وهو بالمناسبة شارع رئيسى، إذ بالضيف يستلقى على قفاه من الضحك ويضرب كفاً على كف.. يقول صاحبى فاستغربت من تصرف الرجل وسألته علام يضحك، فقال: ألا ترى؟
لقد زرت بلادا كثيرة، لكن هذه هى المرة الأولى فى حياتى التى أرى فيها مثل هذا المشهد.. إن الشارع الذى نسير فيه يحمل جميع أنواع الدواب: جاموس وحمير وعربات كارو ومشاة وفتيان يركبون دراجات وسيارات تاكسى وميكروباصات وباعة جائلون.. إلخ، والكل ماض فى طريقه لا يبالى.. ثم أردف يقول: والغريب أن هناك جندياً للمرور وقف ينظم الحركة، وانطلق مستغرقا فى الضحك مرة أخرى..
لقد عاش صديقى هذا فى اليابان فترة ليست بالقصيرة، لكنه حين عاد واستقر زمنا ما عاد يستغرب ما يرى، وهكذا الإنسان إذا اعتاد على شىء ألفه.. بالطبع ليس هذا الشارع هو مصر، لكنه جزء منها، وجزء مهم يعكس حالة الفوضى أو ما يمكن أن نسميه «عبقرية الفوضى» التى تتميز بها مصر، والتى عبر عنها الضيف اليابانى فى لحظة تأمل مستغرب، أو استغراب متأمل.
لن أتحدث عن تلال القمامة وكمياتها وأحجامها وتنوعها وتوزيعاتها الجغرافية التى تصدمنا أينما ذهبنا أو حللنا، ولن أتناول مسألة الصرف الصحى، تلك الفجيعة الكبرى، وآثارها المدمرة على البشر والشجر والحجر، فهذه وتلك من مآسينا وعوادينا.. يقول شوقى فى نونيته الشهيرة التى نظمها فى منفاه يعارض فيها نونية ابن زيدون:
يا نائح الطلح أشباه عوادينا
نشجى لواديك أم نأسى لوادينا؟
ماذا تقص علينا غير أن يدا
قصت جناحك جالت فى حواشينا
والطلح واد بأندلس، بضاحية أشبيلية، حيث يخاطب شوقى حمام هذا الوادى ويتمثله شبيها به فى لوعته وغربته، لكن شتان أى شتان بين طلح أشبيلية ووادى النيل.. نسأل الله السلامة.