«قبل ذهابى إلى جنازة بشير الجميل، أبلغت واشنطن بما يحدث، وبأن الوضع فى غاية الخطورة، ثم ذهبت إلى الجنازة يوم الأربعاء، الخامس عشر من أيلول / سبتمبر ١٩٨٢ ثم عدت إلى سفارتنا حيث كنا نقيم، عندئذ بدأت تراودنا شكوك، كنا نرى إطلاق القنابل الفوسفورية ونسمع دوى المعارك، كنا نعرف أنه لم تتبق مجموعة مسلحة عقب انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية، بقى فى المخيمات بعض الكهول ورجال فى منتصف العمر، كان بعضهم مسلحاً ببنادق صيد ولكن لا يمكن اعتبار ذلك أمراً عسكرياً، لقد كانوا عزلا.
عندما دخلت عناصر ميليشيا القوات اللبنانية بدأت المذبحة، لم نكن نعرف ذلك فى بادئ الأمر ولكن أموراً غريبة كانت قد بدأت تحدث، عندئذ ذهبت مع باراك إلى تل أبيب حيث اجتمعت مع شارون ورئيس الأركان رفائيل إيتان وآخرين، عندها قال لنا إيتان إنه رأى التعطش لسفك الدماء فى أعين ميليشيا القوات اللبنانية.. هذه شهادة «موريس دريبر» موفد الرئيس الأمريكى إلى لبنان فى الثمانينيات على مجازر صبرا وشاتيلا التى ارتكبتها الميليشيات المارونية بمساعدة إسرائيل فى حق الفلسطينيين، نتذكرها على خلفية مشهد الخميس الماضى فى حق شاب مصرى طعنه أهالى قرية لبنانية حتى الموت ومثلوا بجثته، ونحن هنا فى حل عن الدفاع عن جريمة اقترفها المصرى وإنما نتأمل الصورة بكل تفاصيلها.
اللبنانى أيا كان انتماؤه فهو مواطن عربى ينظر إلى مصر بعين الريبة والشك، خاصة مايتعلق بالصراع العربى الإسرائيلى والذى تقع لبنان فى القلب منه، ومن ثم تتحرك مشاعره دونما توجيه إلى السخط والنقد للسياسات المصرية، وحرب تموز ليست ببعيدة عن الأذهان، ولتتذكروا معى كلمة الرئيس مبارك الشهيرة عن حسن نصرالله «البتاع» عند حديثه عن المواجهة بين حزب الله وإسرائيل.
اللبنانى شوفينى يرى الآخرين أقل منه، فهو عربى بنكهة أوروبية، يعتبر نفسه يفكر مثل الغربيين ويعيش وفق نمط حياتهم، ويتنفس ديمقراطية يراها الوحيدة فى المنطقة بجانب إسرائيل، فى جلساته يتحدث عن خصوصيته وتميزه بصيغة الأنا متصورا أن العرب هم الآخر.
اللبنانى يعيش فى دولة نشأت فى أربعينيات القرن الماضى عن طريق ميثاق وطنى حمل الأفخاخ والكراهية بين طوائفه ولم يستطع التفرقة بين المواطنة والانتماء إلى الطائفة والمذهب، فجاء نص الدستور «اللبنانيون هم مواطنون وأهلون فى ذات الوقت»، وأهلون تعنى أهل الرجل وعشيرته أى أن اللبنانى مواطن ومنتم أيضا لقرباه.
العداوات عند اللبنانى واقعية وحاضرة تنتظر من ينكؤها، وإذا لم يجد الآخر الذى يمقته، فهناك ضحية بديلة يمكنها أن تستقبل الغضب العارم فى النفس، وفى ذلك يقول الباحث اللبنانى الدكتور هشام بزى «عندما تبقى العداوات على حالها – يقصد الصراع المذهبى الطائفى فى لبنان - دونما انفراج فإنها تبحث عن ضحايا بديلة ولا تلبث أن تجدها دائما».
ويذكر «بزى» فى دراسة عن المذهبية فى لبنان أن الحروب اللبنانية تتضمن صورة موجزة عن العناصر الاجتماعية الثقافية الثلاث التى تنسب لأى شكل من أشكال الشرّ البشرىّ وهى «التشويه» و«الخطيئة» و«الذنب» فحين يلجأ المرء إلى تشويه صورة «الآخر» بأن يلصق به كل الموبقات ويحوله إلى شيطان رجيم يصبح من السهل ليس فقط تبرير قتله بل جعله يبدو أشبه بعمل الخير وبذلك تخلق ظروف تحرّر مرتكبى العنف من الشعور بالذنب».
من مثّل – بتشديد الثاء - بجثة الشاب المصرى نام هادئا مطمئنا لأنه انتقم من قاتل أجنبى فى وجهة نظره، وقرت عينه برؤيته معلقا وسط الحشود، وانعكست صورة الدماء على الجسد المسحول فى العقل الباطن الذى آمن بأن العنف اختيار وطريقة حياة، ومن ثم وجد شيئا بعيدا عن خلافات الداخل اللبنانى ليضعه تحت أسنانه، للتنفيس عن طاقته الداخلية التى فجرت الدماء دوما فى مجازر بدأت وامتدت منذ القرن التاسع عشر، فوقعت عام ١٨٤٠ بين الدروز والموارنة ثم تكررت بعد ٢٠ عاما، وتجددت أيضا عام ١٩٥٨ بين المسلمين والمسيحيين، وبعد أقل من ٢٠ عاما اندلعت الحرب الأهلية ١٩٧٥ – ١٩٩١ التى لايزال اللبنانيون يعيشون أجواءها.
فى تاريخ لبنان لابد أن تقف دائما أمام عناوين مثل خميس الفتنة والسبت الأسود والمجازر والمذابح والانقلابات. «بقينا سنة تقريبا محتجزين فى بيوتنا، نأمل دوما أن يتحسن الوضع، نفكر دائما أن مايجرى أمر مؤقت، وأن الحكومة ستمسك بزمام الأمور، علمنا أن حوالى ٤٤ ألف شخص وقعوا ضحايا، وجرح ١٨٠ ألفا وتشرد الآلاف».. والدة «أثينا» بطلة رواية «ساحرة بورتوبيللو» للأديب العالمى «باولو كويليو» تتحدث عن الحرب الأهلية اللبنانية.