د. محمد المهدي .
كثيرون هم الذين يعيشون حياة زوجية تتصف بأنها على "الحافة"؛ فكفتا ميزان تراكماتهما متقاربتان، وسلوك الزوجين ومن حولهما هو الذي يدفع إلى رجحان إحدى الكفتين، فإما أن يطلقا وإما أن يتجها إلى بعض التوافق.
أحيانا تظل الكفتان متأرجحتين وتظل الحياة الزوجية تحت التهديد لسنوات طويلة، وهذا يضع الطرفين في صراع لا يحسم، فمن ناحية تربط بينهما أشياء إيجابية تشعر كليهما بالراحة عند تذكر الآخر، ومن ناحية أخرى تبعدهما تراكمات سلبية قد تؤدي إلى الإصابة بالغثيان والصداع حين رؤية شريك عمره.
في علاقة كهذه نتوقع وجود مشاعر متناقضة من الحب والبغض والرضا والسخط والأمان والخوف، وفوق كل هذا حيرة لا تنتهي.
الذوبان الجميل :
وتتميز العلاقة الزوجية بأنها علاقة شديدة القرب معنويا وحسيا. فهي تعطي فرصة للاحتواء والذوبان الجميل كما تعطي فرصة للتربصات والعلاقات المؤلمة، وهي علاقة شديدة الخصوصية تعطي فرصة لحفظ الأسرار والإفصاح عن الذات دون قيود، كما تعطي فرصة لاستغلال
الأسرار وابتزاز صاحبها وإذلاله أو فضحه، وهي أيضا علاقة مستديمة تعطي فرصة لتراكم الذكريات الجميلة والمشاعر الحلوة، كما تعطي فرصة لتراكم مشاعر الإحباط والغضب والكراهية، وكونها علاقة حتمية تعطي إيحاء للطرفين بالارتباط الدائم والآمن في الدنيا والآخرة، وعلى الجانب الآخر يمكن أن تعطي إحساسا بالدخول في طريق مسدود مع شريك نعاني منه ولا نستطيع الفكاك من قيوده.
وهذه الخصائص يفترض أن تؤدي إلى نتائج إيجابية في حالة تحقيقها لمعاني السكن والمودة والرحمة التي وردت في توصيف هذه العلاقة في القرآن الكريم، أما إذا خرجت عن هذا الإطار فإن كل ما سبق سيتحول إلى مشكلات تتراكم حتى تصبح مزمنة أو مستعصية قد تصل إلى القتل أحيانا!.
التراكمات والارتباطات الشرطية :
التراكمات إيجابية كانت أم سلبية تحدث ما يسمى بالارتباط الشرطي، فحينما كانت العلاقة جيدة نجد الأحداث والذكريات الجميلة تجعل كلا الزوجين حين يلتقيان يشعران بالراحة والأمان؛ لأن ظهور أحدهما على شاشة وعي الآخر يفتح في النفس نوافذ يظهر من خلالها تاريخ ممتد من اللحظات السعيدة.
بينما يستدعي هذا الظهور مشاعر سيئة مرتبطة بتاريخ طويل من الصراع المرير والمعاناة المؤلمة في حالة العلاقة السيئة، وقد يصل الأمر عند بعض الأزواج أن يشعر بصداع أو غثيان حين يرى شريك حياته وكأن الارتباط الشرطي امتد من النفس إلى الجسد.
ويعد اشتياق الزوجين لبعضهما وسعيهما نحو التواجد معا علامة على ميل كفة التراكمات نحو الإيجابية ووجود ارتباطات شرطية سارة بينهما، والعكس صحيح، ويفسر لنا هذا اشتياق كثير من الزوجات لكلمة "وحشتيني" (اشتقت إليك) من الزوج؛ لأن هذه الكلمة البسيطة تعبر عن هذا التراكم الإيجابي للذكريات، وتدل على أن حضور الزوجة في وعي زوجها يفتح لديه نوافذ للسكينة والطمأنينة والحب.
التراكمات السلبية :
من الطبيعي أن يمر الزوجان بلحظات اتفاق ولحظات اختلاف، وما تتركه لحظات الاختلاف أو الخصام من أثر يجب أن يجد له مخرجا في لحظة عتاب أو موقف محاسبة لكي تتخلص النفس من هذه الذكرى ومن آثارها.
هناك أزواج وزوجات يملكون آلية دائمة للتخلص من هذه الآثار حتى تظل نفوسهم غضة ونظيفة وقابلة لتلقي التراكمات الأجمل، وهناك آخرون لا يستطيعون التخلص من مشاعرهم السلبية تجاه الطرف الآخر فتظل هذه المشاعر تتراكم.
وتبدأ القصة بشعور الطرف الضعيف بالإحباط في علاقته الزوجية؛ فهو لا يستطيع التعبير عن نفسه ولا يستطيع تحقيق أحلامه أو ذاته أو توقعاته في هذه العلاقة، وشيئا فشيئا (إذا لم ينتبه الطرف الآخر) يتحول الإحباط إلى غضب، وإذا لم يجد الغضب مسارًا يسلكه إلى الخارج فإنه يتحول إلى غضب مكتوم "الحنق"، ثم إما أن يتحول إلى رغبة في انتقام يوجه للطرف الآخر إما لفظيا كالنقد المستمر
والسخرية والشتائم.. أو جسديا كالضرب أو القتل، أو نفسيا كإهمال المعتدي واحتقاره والصمت العدواني تجاهه وعناده، أو إلى الذات في صورة رغبة في الانتحار أو في صورة أمراض نفسجسمية كارتفاع الضغط أو الصداع المزمن أو القولون العصبي والحكة الجلدية العصبية... إلخ، أو على شكل أمراض نفسية كالقلق أو الاكتئاب.
وأحيانا يتم تحويل الانتقام إلى طرف ثالث؛ فالأم المحبطة في علاقتها الزوجية أكثر قابلية لإيذاء أبنائها، وقد يحول عدوانها لأشياء ككسر فازة أو أي شيء في البيت، وقد يفعل الزوج الغاضب مثل ذلك أو أكثر، وبعض الناس يعممون الغضب فنجدهم في كل تعاملاتهم مع الناس يتسمون بالقسوة والعنف بلا مبرر واضح. وبعض الأزواج قد ينتقم بالخيانة، والبعض الآخر قد يسترد كرامته بمزيد من النجاح والإنجاز بهدف تجاوز إيذاء الطرف المعتدي.
أسباب زيادة التراكم السلبي :
وجد أن الأشخاص الأقل ذكاء وتدينا وثقافة وثقة بالنفس والأقل في المهارات الاجتماعية والأكثر فقرا، والاعتماديين السلبيين، والأكثر احتياجا للتقدير والتعاطف، يكونون أكثر عرضة لتراكم المشاعر السلبية في علاقاتهم الزوجية والاجتماعية؛ لأنهم يكونون في حاجة شديدة للآخر ولتقديره وفي نفس الوقت ليست لديهم المهارات الكافية للحصول على ذلك فيقعون في دائرة الإحباط الذي إن لم يجدوا له مصرفا أو لم يملكوا مهارات تصريفه تطور ليصل إلى الانتقام أو الأعراض السابق ذكرها.
والطرف الضعيف أكثر قابلية لتراكم مشاعر الغضب من الطرف القوي؛ لذلك يكون انتقامه مفاجئا ومدويا أحيانا؛ لأنه حصيلة تراكم سنوات طويلة تخرج العدوان كالبركان.
ويزيد من احتمالات التراكم السلبي أن يكون أحد الطرفين مستبدا كاتما لأي تعبير انفعالي من الطرف الآخر ومحاولا إلغاءه وقمعه تحت أي مسمى، وهنا يفقد الطرف المقهور أي فرصة للتعبير عن مشاعره فيضطر اضطرارًا إلى اختزانها.
وقد تلعب البيئة المحيطة دورًا مهمًّا في زيادة هذا التراكم حين يفقد الطرف المقهور خياراته ويجد نفسه في طريق مسدود؛ فالزوجة التي يظلمها زوجها ولا تجد مخرجا تضطر لأن تستمر معه إما من أجل الأولاد أو لأنها تخشى مواجهة الحياة كمطلقة، ويزيد الطين بلة حين
يستغل الطرف القاهر هذا الوضع وينفرد بالضعيف ويبالغ في ظلمه، ولا يجد الأخير ملاذا غير كتمان غضبه، خاصة في غياب طرف ثالث يمكنه تلطيف مشاعر العدوان والفصل في الخصومات وفتح مسارات للغفران والتسامح الذي إن غاب جعل كل خطأ أو حدث مؤلم مضافا إلى مخزون الأخطاء والأحداث المؤلمة السابقة دون وجود فرصة لتطهير النفس من هذه التراكمات.
كما أن عدم قدرة أحد الأطراف أو كليهما على استيعاب الخبرات الحياتية المؤلمة، يجعل كل مشكلة عادية تتحول لأزمة وتأخذ أكبر من حجمها وتستغرق أكثر من الوقت المتوقع لها، وتُحدث آثارا واسعة النطاق على الحياة الزوجية والنفسية. ويدخل في ذلك ما نسميه بالتقدير المعرفي للأحداث؛ فنحن لا نتأثر بالحدث كحدث مجرد وإنما نتأثر به حسب تقديرنا المعرفي له، فقد يواجه شخصان نفس المشكلة ولكن يتأثر كل منهما بحسب تقديره لحجمها وخطورتها.
آليات تخفيف التراكم :
إن عدم وجود آلية لإزالة التراكمات السلبية يجعل الحياة الزوجية أشبه بمدينة غاب عنها عمال النظافة وتعطلت فيها محطات الصرف الصحي، أو أشبه بسيارة سدت فيها ماسورة العادم، ومن آليات تخفيف التراكم:
1- العتاب : وهو يكفي لبعض الناس، خاصة حين يكون الخطأ بسيطا ومحتملا، والطرفان على درجة معقولة من النضج.
2- التعبير عن المشاعر: وذلك بأن تتاح الفرصة لكل طرف للتعبير عن مشاعره بشكل مقبول، وذلك لكي تصل الرسالة للطرف الآخر فيتوقف أو يعتذر.
3- وجود طرف ثالث : يسمع الشكوى ويفصل بين الطرفين ويعطي كل ذي حق حقه. وقد يكون هذا الطرف هو أحد المحيطين أو الله، يلجأ إليه المظلوم بالشكوى وينتظر منه الفرج أو القصاص من الظالم، والثقة في عدل الله تعطي راحة للمقهور وقدرة على الاستمرار.
4- السماح : أن تنسى الإساءة ولا تعاقب عليها ولا يبقى بداخلك غضب بسببها. وهو قدرة يمتلكها البعض فينسون الإساءات ويتعاملون بإيجابية مع الطرف المسيء بناء على اعتبارات إنسانية أو دينية، وهو علاج للذاكرة المرضية (الراغبة في الانتقام) والتي تعني عدم القدرة على تجاوز الحدث، والدوران في دائرة مغلقة عقليا وانفعاليا. د
ويساعد على السماح استيعاب الخبرة المؤلمة في المنظومة المعرفية، مع تصور إيجابي للكون وللحياة، وتصور واقعي للإنسان على أنه مخلوق يصيب ويخطئ وهو في كل ذلك ليس شيطانا ولا ملاكا.
فيتامينات الإيجابية :
ويمكن للزوجين دعم التراكمات الإيجابية في حياتهما من خلال :
1- توفير جو من السكينة في المنزل بحيث يشعر الزوجان بأنه أكثر الأماكن راحة واستقرارًا فيشتاقان إليه حين ابتعادهما عنه ويشعران فيه بالراحة.
2- التعبير عن مشاعر المودة والحب بكل الوسائل الممكنة كالكلمة الحلوة والنظرة الحانية واللمسة الرقيقة والحضن الدافئ والهدية المعبرة، وعدم كتمان هذه المشاعر أو اعتبارها وصلت لمجرد وجودها داخل نفس الزوجين.
3- المصارحة والعتاب وتصفية الخلافات في جو من التقبل، مع السماح بالتعبير عن الإحباط أو الغضب في حالة وجودهما.
4- الرضا بما يستطيع كل طرف أن يقدمه بحيث لا نكلفه ما لا يطيق.
5- الاهتمام بالعلاقة الحميمة وتهيئة أفضل الظروف لها بحيث تمنح الطرفين أقصى درجات السعادة الممكنة.
6- قضاء لحظات سعيدة في نزهات أو رحلات لصنع رصيد من الذكريات الجميلة بين الزوجين مع تسجيل هذه اللحظات بوسائل التسجيل الممكنة (صور فوتوغرافية أو فيديو أو غيرهما) مع استعراضها من وقت لآخر لتنشيط ذاكرة الأوقات السعيدة، وكأنه أرشيف للسعادة يفتحه الزوجان من وقت لآخر.
7- استمتاع الزوجين "معا" بلحظات تأمل للجمال أمام بحر أو مكان طبيعي أو سماع شيء تلذ له الأذن، أو اشتراكهما في بعض الأنشطة الروحية كالصلاة أو قراءة القرآن أو قيام الليل أو أعمال الخير بأشكالها المختلفة.
المصدر : موقع إسلام أون لاين .
|