د. فيصل بن سعود الحليبي .
تعجبني تلك الإطلالة الوردية التي يستشرفها الزوجان قبل حياتهما الزوجية، إنك ترى كلاً منهما يحلم بالورود وهي تتناثر على جنبات دروب حياتهما، تدغدغها الأمواه رائحة وغادية، وتنهل منها قطرات الندى كدموع فرحٍ في ليلة فرح ...
حقاً إنها لحظات حلوة، كم ودّ الإنسان أن تبقى له ولأحبابه.. لكن الإنسان والحياة، وما فُطر عليه كلٌ منهما من التقلب وعدم بقاء الحال ربما نغّصا على المتفائل حلمه، وعكّرا عليه صفو أمله.. وتظل الجنة التي وُعد المتقون هي دار الفرحة التي لا يكدّرها حزن، ولا يطرأ عليها تقلّب.
وأن نُقْدِمَ على حياتنا الزوجية بروح التفاؤل .. مطلب نفسي وإيماني مهم ، فإن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: "يُعْجِبُنِي الْفَأْلُ؛ الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ، الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ" رواه مسلم .
ولا صراع بين الأمرين: التفاؤل.. وحصول الأكدار.. فالمؤمن يستبشر خيرًا بالكلمة الطيبة، ويستعد للأقدار بيقين الإيمان.
ويبقى بين يدي الزوجين تقلّب هذه الروح التي بين جوانحهما، وتأثرها بشواغل الحياة وأوصابها ومثيراتها.. فهل استعدت النفوس لمثل هذا كله؟
تعب العمل.. والمرض.. والطبع.. وسوء الظن.. والوسواس.. والغيرة.. والأنانية.. والتدخل الخارجي في بيت الزوجية.. وَنَصَبُ تربية الأولاد.. والمال كثرة وقلّة.. .. أسباب لاستثارة روح الغضب لدى الزوجين، والنفس لن تستطيع أن تتخلّى عن كل تلك الأسباب إن استطاعت أن تتخلّى عن بعضها، ولكن ما الشأن في نتيجتها، وهي: الغضب؟
حلقة الوصل بين الإطلالة الوردية قبل الزواج.. وفترة العسل في أوله.. والغضب لأي سبب بعده.. هو أن نعرف أن كلاً من الزوجين يحب الآخر، ويأنس به، ويأمل في حياةٍ معه لا غضب فيها ولا اختلاف، وهذا أساس يغيب عن الذهن في حالة فوران النفس، ولذا ألتمس من الزوجين كخطوة أولى أن يحاولا استذكار الأيام الأولى من زواجهما في حال الاقتراب من حال الغضب أو بعد الوقوع فيه؛ فإن هذا سيخفف من وطأته على الروح، ويقلّل من آثاره على البدن.
وما أجمل أن يبادر الغضبان من الزوجين أو أن يذكّر أحدهما الآخر بما أمر به النبي- صلى الله عليه وآله وسلم - في مثل هذه الحال، فيتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم - وَرَجُلَانِ يَسْتَبَّانِ، فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وآله وسلم-: إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ؛ لَوْ قَالَ : "أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ". رواه البخاري.
فما أسهل هذه الكلمة على اللسان، لكنني أعلم أنها في تلك اللحظة لن تكون ثقلية عليه بقدر ما هي بعيدة عن ذهنه، ولا تحتاج سوى همسة ممن يواجه غضب صاحبه يذكره بها بكل لطف ورفق.
ولعل معرفة الزوجين لبعضهما من حيث طبيعة العمل أو الطبع أو الصحة سوف يعطي مساحة جيدة في سعة الصدر وطلب المعذرة والصفح وتحمّل بعض الغضب؛ فالمرأة ينبغي أن تعرف ما يتعرض له الرجل في عمله من تعب أو مواقف أو مسؤوليات تملأ عليه تفكيره حتى يضيق بها صدره، فلا يبقى له من الحلم ليرى خطأ ولو يسيرًا من زوجته أو ذريته، الأمر الذي يجعله في حالة طوارئ.. على مَنْ حوله أن يعذره فيها، ولا يؤاخذه على سرعة غضبه ونفور نفسه، وهذه المعرفة لدى الزوجة تمنحها الكثير من الطمأنينة وحسن التصرف، وأقل شيء سوف تتيقنه أن زوجها لا يكرهها، وأن غضبه ليس من خطأ فادح وقعت فيه، وإنما لأنه في توتر عارض سيمرُّ مرور الكرام فحسب، فتصبر ولا تعطي الأمر أكثر من حجمه الذي هو فيه.
والرجل كذلك، فإنه حينما يعرف ـ على سبيل المثال ـ ما تمر به المرأة من أعراض الضعف في دورتها الشهرية أو وهن الحمل أو آلام الولادة ونحو ذلك، فإنه يدرك أن تصرفاتها في مثل هذه الأحوال ستكون ممزوجة بشيء من العصبية وتقلّب المزاج، فيعذرها، بل وإن كان حكيمًا يجدها فرصة لمنح الحنان والعطف عليها!!
لقد أدرك النبي- صلى الله عليه وآله وسلم - كم تحمل أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- من غيرةٍ عليه من زوجاته رضي الله عنهن، فكان أوسع صدرًا لغضبها وغيرتها، ولو تعدّى الغضب بها من الشعور إلى العمل، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا أَتَتْ بِطَعَامٍ فِي صَحْفَةٍ لَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وآله وسلم - وَأَصْحَابِهِ، فَجَاءَتْ عَائِشَةُ مُتَّزِرَةً بِكِسَاءٍ وَمَعَهَا فِهْرٌ [أي: حَجَر]، فَفَلَقَتْ بِهِ الصَّحْفَة،َ فَجَمَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ فِلْقَتَيِ الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ: كُلُوا؛ غَارَتْ أُمُّكُمْ ـ مَرَّتَيْنِ ـ ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَحْفَةَ عَائِشَةَ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَأَعْطَى صَحْفَةَ أُمِّ سَلَمَةَ عَائِشَةَ". رواه النسائي وأصله في البخاري.
ولله در بعضنا في غضبه مع زوجه أو زوجته كيف يتفنن في القدرة على إنهاء حالة الغضب في سرعةٍ ولباقة؛ فإنك تراه قد أخذ على نفسه عهدًا ألاّ يبيت ليلة وفي نفسه شيء على حبيبته، أو أنك تراها حينما يعلو صوت زوجها عليها غاضبًا في حالة سكون وهدوء تهرول إلى كأس الماء البارد لتأتي به إلى زوجها مذكرة له بالبسملة!! أو أنك تجد من تسبب في ذلك منهما لا يتردّد لإنهاء الغضب أن يعترف بالتقصير واقتراف الخطأ، فترى الغضبان مع هذا التصرف الحكيم والرائق في منتهى الحيرة والحياء.. وربما تورّط كيف ينهي غضبه بطريقة تدريجية!
وخذ هذا المثال، وأتركُ لك الحكم عليه، فإن إحدى الزوجات تقول: أغضبت زوجي مرة، فنشب خلاف بيني وبينه، وحينما وصل إلى قمة غضبه عزم على أن يدعني ويخرج من المنزل، فناديته قائلة: إن أنوار المنزل سوف تُطفأ بعد قليل فلا تتركني بمفردي، فتعجّب قائلاً: ومن أخبرك بهذا؟ فقالت: إنك إن خرجت من المنزل لا يبقى لي فيه نور بعد نورك!!
وبالتجربة نلاحظ أن أكثر سنيّ الزواج غضبًا هي السنوات الأولى، مع أنها الأقرب من نشوة فرحة النكاح، والسبب بلا ريب أن الزوجين ما زالا في بداية التعرف على بعضهما من حيث التفكير والتعامل، ولذا فإن ما آمله فيهما هو أن يبذل كلٌ منهما جهده لمعرفة ما يثير صاحبه عليه، فيقطعه بكل وسيلة ما دام أن ذلك ممكن شرعًا وعرفًا، وأن ينظرا بعين الرحمة لأنفسهما وذريتهما، و بعين العقل لمستقبل حياتهما، ليحققا في سبيل التسامح والصفح معاني السكن والمودة والرحمة التي قال الله فيها : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). [الروم:21].
|