موقع المستشار - تحقيق : منى ثابت .
فكرة زواج المؤانسة للمسنين جديرة بالحفاوة والأخذ على محمل الجد, حيث أن فقدان شريك الحياة بعد رحلة زواج طويلة مرت بحلوها ومرها, هو ألم قد يعصف بالزوج أو الزوجة, فالبعض تعتصره الوحدة بعد أن خلا البيت من الدفء والصحبة, وبعد أن استقر الأبناء في جزر مستقلة بعيداً عن بيت الأسرة, والبعض تهاجمه الأمراض وتفترسه الهواجس وسط جدران باردة وحياة فقدت بهجتها.
الأمر الذي جعل مؤتمر الشيخوخة الذي عقد في أبوظبي مؤخراً يثير هذه الفكرة ويلفت لها الأنظار, ويسلط الضوء على أوضاع تلك الفئة من الناس, التي لم يعد ينشغل بهم أحد, لا الحكومات ولا مؤسسات المجتمع المدني, بل ولا الأبناء أنفسهم, الذين جرفتهم دوامة الحياة بعيداً وشغلوا بالمستقبل وطموحاته التي لا تنتهي.
والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان, هل مشاكل المسنين يمكن حلها من خلال " زواج الونس "؟ وما هي الصعوبات التي تواجه هذا الحل خاصة في مجتمعاتنا العربية؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه في السطور التالية..
بارقة أمل .
الدكتورة إنشاء عز الدين عمران أستاذة علم الاجتماع المساعد بجامعة المنوفية أكدت أنه ليس هناك شك في شرعية ذلك الزواج الذي يحقق هدفاً نبيلاً يلبي الاحتياجات الاجتماعية والإنسانية للمسن, وليس الاحتياجات البيولوجية فقط, وقالت إن هذا النوع من الزواج يمثل بارقة أمل لحياة هادئة وسعيدة تعيد للمسن القدرة على التواصل والعطاء والتكيف مع طبيعة المرحلة العمرية, بما يوفره من تناغم يشبع الروح قبل الجسد, وفي الوقت ذاته, فإنه يمثل أحد البدائل التي تمكن المسن من الاندماج في حياة اجتماعية جديدة, تخرجه من حالة العزلة والشعور بالاكتئاب التي تحول كبار السن إلى أشباح يائسة تنتظر الموت في كل لحظة.
وتصنيف الدكتورة إنشاء, إن الحياة وسط جماعة من أساسيات الصحة النفسية لمن فقد شريك الحياة, فالوالد أو الجد الذي يسعى للزواج في هذه المرحلة, إنما يبحث عن الصحبة والونس والرغبة في الشعور بأهميته لدى الآخرين واحتياجهم له, وليس نوعاً من الخرف.
وترى د. إنشاء أن الرجال والنساء في الاحتياج لهذا الزواج سواء, وعلى الأبناء الذين لا يملكون الوقت والقدرة على رعاية أبائهم وأمهاتهم أن يشجعوهم على الزواج, وألا يقفوا ضد رغبة الأباء في الارتباط بشريك جديد للحياة.
روشتة علاج .
وتؤكد د. إنشاء أن " رباط الونس " دعوة بلا سلبيات, وروشتة علاج للاستمرار في الحياة, وليس نوعاً من الترف أو السفه, وهو حق لأصحابه متى قرروا اتخاذ هذه الخطوة حماية لأنفسهم من سيطرة مشاعر الوحدة والاغتراب, والألم النفسي, التي تسيطر على كل شخص فرضت عليه الظروف أن يعيش وحيداً بعد وفاة شريك الحياة, وانصراف الأبناء كل في سبيله.
وإذا كان البعض يظن أن مراكز الرعاية ودور المسنين هي الأنسب لأصحاب هذه التجارب فالواقع يشهد بخلاف ذلك.
وترى أن أسباب المرأة تختلف عن مبررات الرجل في البحث عن شريك لاستكمال مسيرة الحياة, فالمرأة يدفعها الاحتياج للشعور بالأمان والحماية, بينما يبحث الرجل عن الونس والصحبة ولغة الحوار, ويحتاج غالباً لمن يدبر شئونه الحياتية ويلبي احتياجاته من طعام وشراب, ويجتمع كل من الرجل والمرأة في دافع واحد, وهو الرغبة في الاطمئنان إلى أن هناك شريكاً يعيش معه في البيت, تحت سقف واحد, وأن هناك شخصاً آخر يتنفس بجواره, سوف ينقذه إذا تعرض لأزمة صحية حيث أن الخوف من الوفاة أثناء النوم هاجس يسيطر على كل من يعيش وحيداً, وتزداد هذه المشاعر في السن المتقدمة, خشية أن يموت الشخص دون أن يشعر به أحد.
صعوبات وعقبات .
أما الكاتب والمفكر الإسلامي فهمي هويدي فيرى أن فكرة زواج المؤانسة للمسنين جديرة بالحفاوة والأخذ على محمل الجد, وهي حلاً مثالياً وصعباً في الوقت ذاته, لأن المجتمع العربي أصبح مستعداً في بعض دوائره لقبول فكرة " زواج المسيار " للمتزوجين فعلاً الذين يبحثون في الأغلب عن مزيد من المؤانسة, ويحاولون تلبية احتياجاتهم البيولوجية في الوقت ذاته, في حين أن كبار السن الذين هم أحوج إلى المؤانسة
خصوصاً في ظل انفراط عقد الأسرة الحديثة, لم يحاول أحد أن يخاطب إنسانيتهم ويوفر لهم الصحبة التي تساعدهم على أن يقضوا ما تبقى لهم من سنوات العمر في دفء وسكينة, وفي ظل انتماء وتفاعل حقيقيين مع المجتمع المحيط بهم, وغاية ما استطاعته بعض المجتمعات أنها وفرت دوراً للمسنين والعجزة, هي في حقيقة الأمر بمثابة قبور جماعية لأحياء يقفون جميعاً على أبواب الآخرة, ونادرة هي البلدان التي اعترفت بإنسانيتهم وتعاملت معهم باعتبارهم جزءاً من المجتمع يمكن الإفادة منه, كما أن لهم الحق في الاستمتاع بمختلف مباهج الحياة وفي حدود علمي, فإن كندا واحدة من تلك البلدان.
وأضاف هويدي : الصعوبة التي تواجه هذا الحل المثالي لها عدة أوجه, إذ في دول العالم الثالث بوجه أخص, فإن كبار السن يعانون من مظاهر كثيرة للضعف الجسماني بسبب تراجع الرعاية الصحية, وبالتالي فإنهم يحتاجون إلى تمريض بأكثر مما يحتاجون إلى مؤانسة, وفي ذات الوقت فإن الإنسان حين تكبر سنه يصبح قد تشكل, وغد أكثر استعصاء على التوافق مع الآخرين, الأمر الذي يسحب الكثير من رصيد السكينة والمؤانسة المرجوتين.
فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما .
من جانبه يؤكد فضيلة الشيخ عبد الخالق حسن الشريف من علماء الأزهر الشريف أنه مما لاشك فيه أن الإنسان إذا كبر سنه وكان سعيداً في زواجه قبل وفاة زوجته وكان العمر بينهما قد طال, يجد الرجل فراغاً كبيراً في حياته بوفاتها وتزداد هذه المشكلة مع عدم زواج الأولاد في بيت الأسرة وتباعد مساكن الأولاد بعضهم عن بعض, بل قد يصبح الكثير منهم خارج الدولة. أضف إلى ذلك نفور زوجات الأبناء من مراعاة الجد رغم ما يعتريه من أمراض شديدة
مثل الرعاش العصبي أو عدم التحكم في قضاء الحاجة أو الزهايمر, فكانت النتيجة أن النفوس ضاقت بهذا الذي كبر سنه ومن هنا تزداد المشاكل, ولا يجد هذا الرجل من يؤنسه, فزوجة الابن أو البنت في العمل ، وكذلك الأبناء ، أما الأحفاد فهم في المدارس أو أمام أجهزة الكمبيوتر وغيرها ، مما أدى إلى ظهور الاكتئاب النفسي لهذه الشريحة والفئة العمرية, ولذلك نجد النص القرآني يركز عليها في قوله تعالى : ( .. إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً) الإسراء : 23, فلفظ ( الكبر ) تعبير عن هذا السن الذي يجد فيه الرجل المشقة في المعيشة بسبب الفراغ والأمراض ، وللأسف فالكثير من الأبناء يقفون عائقاً أمام طلب هذا الرجل الزواج بامرأة تؤنس فراشه وتعينه على حالته التي صار فيها.
ويرى فضيلته أن الزواج في هذه المرحلة, حظ الجانب الجنسي منه ضعيف إن لم يكن زائلاً, ولكن الأبناء ربما من باب الغيرة أو باب الخوف على التركة يقفون حجر عثرة أمام إتمام هذا الزواج.
دعوة للجميع .
ويستكمل فضيلته إلى أننا في حاجة إلى إرشاد الأطراف كلها, فبالنسبة لكبير السن ندعوه أن يبحث عمن تناسبه في سنه, لا أقول مريضة مثله أو ذهبت قوتها, ولكن تكون صحيحة, تستطيع أن ترعاه وتعينه على باقي زمنه, وأن تكون هي أيضاً في حاجة لهذا الزواج.
ويدعو الشيخ عبد الخالق الشريف الأبناء ألا يقفوا عائقين لهذا الأمر فلا هم القادرين على رعاية هذا الذي كبر سنه ووهن عظمه ولا هم تاركوه يجد من يعينه على حاله وظروفه.
أما بالنسبة للمرأة ـ والكلام هنا لفضيلة الشيخ ـ فأمرها أهون من الرجل أولاً لأنها اعتادت الجلوس في المنزل في غالب الأحوال وثانياً أنه مع كبر سن الرجل تقل العلاقة بين الزوجين إلا في نوادر الأحوال, كما أنها بعد ذلك يمكن الاستغناء بما عندها من مال, إلا إذا كانت راغبة في الزواج حقيقة, فقد تصل المرأة لسن الخمسين أو الستين ومع ذلك هي في حاجة إلى الرجل, وعموماً فإننا نتوجه إلى المجتمع ككل ألا ينظر نظرة عيب وازدراء لرجل كبير أو امرأة كبيرة يتزوج أي منهما, لكن مثلاً حينما نجد امرأة كبيرة تتزوج شاباً في العشرين أو رجلاً في السبعين يذهب إلى زواج بنت العشرين فهذا يعتبر نوع من الخلل والاضطراب لكننا عموماً نتكلم عن الغالب الأعم.
وأرى والله أعلم أن هذا الزواج أفضل من ترك الأباء والأمهات في دور المسنين, وأدعو الأبناء إذا تزوج أباؤهم وأمهاتهم في هذا السن المتقدم ألا يتخذوا ذلك سبباً في عدم البر بهم والوفاء بحقوقهم وليعلموا أن الإسلام قد فرض عليهم حسن الصلة ودوام القيام بحقهم.
|