أ.د. محمد بن أحمد بن صالح الصالح .
النشوز: هو امتناع المرأة عن أداء حقوق الزوجية.والزوج المثالي: هو الذي يتدرع بالصبر والحلم إزاء ما يصدر عن زوجته من إيذاء أو قصور أو تقصير، ويتحمل ما قد ينشأ من تصرفاتها، ويعاملها باللين والتسامح والعفو والصفح مستنيراً بما جاء في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، قال الله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم) التغابن آية 14، وقال عليه السلام: "اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله" وذلك لأنه إن كره منها خلقا سره آخر، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يفرك مؤمنة مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها آخر"، ومعنى لا يفرك: لا يمقت ولا يسخط.
ولأن المرأة لا تسلم احيانا من المخالفات أو تجاوزات في التصرفات احيانا، وبذل لذلك حديث ابي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن خلقن من ضلع، وأعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته استمتعت بها على ما فيها، فاستوصوا بالنساء خيرا".
والصبر على الزوجة من خير الأعمال، ولون من ألوان القربة والطاعة، ومن أعظم الاسباب لبقاء الحياة الزوجية، واستمرار المودة والسعادة، لكن متى ظهرت من المرأة أمارات العصيان والتعالي والتمرد على زوجها، مثل ان تتثاقل إذا دعاها ولا تستجيب إليه إلا بتكره، وتخالف أمره وتمتنع من فراشه أو تخرج من منزله بغير اذنه، فللزوج إذاً أن يتبع الأسلوب القرآني في العلاج من خلال قوله تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً) - النساء:
34.فالمنهج الإسلامي لا ينتظر حتى يقع النشوز بالفعل وتعلن راية العصيان وتسقط مهابة القوامة، وتنقسم المؤسسة إلى معسكرين، فالعلاج حين ينتهي الأمر إلى هذا الوضع قلما يجدي، فلابد من المبادرة في علاج مبادئ النشوز قبل استفحاله؛ لأن مآله إلى فساد في هذه المؤسسة الخطيرة لا يستقر معه سكن ولا طمأنينة ولا تصلح معه تربية ولا إعداد للناشئين في المحضن الخطير، ومآله بعد ذلك إلى تصدع وانهيار ودمار للمؤسسة كلها، وتشرد للناشئين فيها، أو تربيتهم بين عوامل هدامة مفضية إلى الأمراض النفسية والعصبية والبدنية، فالأمر يؤذن بشر مستطير، ولابد من المبادرة باتخاذ الإجراءات المتدرجة في علاج علامات النشوز منذ ان تلوح من بعيد.
وفي سبيل صيانة المؤسسة من الفساد أو من الدمار أبيح للمسؤول الأول عنها أن يزاول بعض أنواع التأديب المصلحة في حالات كثيرة لا للانتقام ولا للإهانة ولا للتعذيب، ولكن للاصلاح ورأب الصدع في هذه المرحلة المبكرة من النشوز: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً).
وبيان الخطوات التي أرشدت إليها الآية الكريمة كما يلي:
1- الوعظ المتضمن النصوص الشرعية وبيان المصالح المترتبة على امتداد الحياة الزوجية:
فيلزم الزوج أن يذكر الزوجة بخطاب الوعظ وخطاب العقل والاقناع، ويخوفها بالله سبحانه، ويذكرها بما أوجب الله له عليها من الحق والطاعة، وما يلحقها من الإثم بالمخالفة والمعصية، وما يسقط بذلك من حقوقها من النفقة وسائر الحقوق، وما يباح له من هجرها، يذكرها بما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة من بيان منزلة الزوج وما له من حقوق، كقوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) (النساء: 34)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح).
وقوله: (لو كنت آمراً أن يسجد أحداً لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها).
وقوله صلى الله عليه وسلم (إذا صلت المرأة فرضها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها ادخلي أبواب الجنة أيها شئت).
وقوله عليه السلام (أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة).
ولنقرأ حديث أسماء بنت زيد بن عبدالأشهل حين جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه، فقالت: السلام عليك ياسيدي يارسول الله بأبي أنت وأمي، أنا وافدة النساء اليك، إن الله عز وجل بعثك إلى الرجال والنساء كافة، فآمنا بك وبإلهك، وبما جئت به، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، ومقضي شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معشر الرجال فضلتم علينا بالجمع والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج والعمرة بعد العمرة، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإن الرجل اذا خرج حاجا أو معتمرا أو مجاهدا، حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفلا نشارككم في هذا الأجر والخير؟
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله، ثم قال: هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مسائلتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا: يارسول الله، ما ظننا أن امرأة تهتدي الى مثل هذا، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليها فقال: أفهمي أيتها المرأة، وأعملي من خلفك من النساء أن حسن تبعل المرأة لزوجها وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته يعدل ذلك كله: فانصرفت المرأة وهي تهلل).
وإذا لم يبلغ الزوج الغاية ولم يتحقق له الهدف في إعادة المرأة إلى صوابها بالوعظ فإنه يعمل على استجاشة مشاعرها وإثارة عواطفها واستنهاض عزيمتها وتذكيرها بمكارم الأخلاق ومحاسن الفعال والمصالح العظيمة المترتبة على امتداد الحياة الزوجية، وببيان المساوئ والأضرار والمفاسد والشرور التي تنتج عن الفرقة بالطلاق على المرأة وعلى الذرية وعلى الزوج وعلى أسرتيهما بل وعلى المجتمع والآثار التي تمتد إلى البيئة من جراء تصدع الأسرة، وإذا لم يجد ذلك كله انتقل إلى علاج النشوز بالهجر.
2- الهجر ويأتي على أسلوبين: إذا لم يفلح الوعظ في علاج المشكلة انتقل إلى وسيلة أخرى في العلاج وهو الهجر، والهجر على أسلوبين:
الأول: هجرها في الكلام مدة لا تزيد على ثلاثة أيام، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال: يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام).
ولا ريب أن حق الزوجة في حسن الصحبة أولى.
الأسلوب الثاني: الإعراض عنها في المضجع بأن يوليها ظهره، أو يترك مخدعه، لعلها تعود إلى الصواب وتقلع عن التمرد والعصيان.
على ألا يطول هذا الهجر مدة تضر بها، أو تحملها على الوقوع في الزلة.
3- الوسيلة الثالثة : الضرب غير المبرح: إذا لم يفد الوعظ والهجر، بأن أصرت المرأة على إعراضها، ولم تتب إلى رشدها، فهناك إجراء ولو أنه أعنف ولكنه أهون وأولى من تحطيم الأسرة كلها بالنشوز (واضربوهن)، واستصحاب المعاني السابقة كلها واستصحاب الهدف من هذه الإجراءات يمنع أن يكون هذا الضرب تعذيبا وانتقاماً وتشفياً، ويمنع أن يكون إهانة يقصد به الاذلال والتحقير، ويمنع أن يكون ايضا للقسر والإرغام على معيشة لا ترضاها، وإنما يكون ضرب تأديب مصحوب بعاطفة المؤدب المربي كما يزاوله الأب مع أبنائه، وكما يزاوله المربي مع تلميذه، ومعروف بالضرورة أن هذه الإجراءات لا موضع لها في حالة الوفاق بين الشريكين في الأسرة العظيمة، وإنما هي لمواجهة خطر التصدع والانحلال، فهي لا تكون الا اذا كان هناك انحراف.
وحين لا تجدي الموعظة ولا يجدي الهجر في المضاجع لابد أن يكون هذا الانحراف من نوع آخر ومن مستوى آخر لا تجدي فيه الوسائل الأخرى وقد تجدي فيه هذه الوسيلة، وشواهد الواقع والملاحظات النفسية على بعض أنواع الانحراف تقول إن هذه الوسيلة تكون أنسب الوسائل لمنع انحراف نفسي معين وإصلاح سلوك صاحبه في الوقت ذاته".
وهذا الضرب يجب أن يكون ضرباً هادئاً هيناً، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح".
وقال العلامة القرطبي - رحمه الله -: "أمر الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولاً ثم بالهجران، فإن لم ينجحا فالضرب فإنه هو الذي يصلحها له ويحملها على الوفاء بحقه، والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين جارحة كاللكزة ونحوها فإن المقصود منه الإصلاح لا غير فلا جرم أنه اذا أدى إلى الهلاك وجب الضمان).
وعليه أن يحتسب الوجه والمواضع المخوفة؛ لأن مقصود الإسلام التأديب لا الإتلاف، لحديث الحكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال: قلت: يارسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: "أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت".
قال العلامة ابن عاشور - رحمه الله - "وعندي أن تلك الآثار والأخبار محمل الإباحة فيها انها قد روعي فيها عرف بعض الطبقات من الناس أو بعض القبائل، فإن الناس متفاوتون في ذلك وأهل البدو منهم لا يعدون ضرب المرأة اعتداء ولا تعده النساء أيضا اعتداء.. فإذا كان الضرب مأوذنا فيه للأزواج دون ولاة الأمور، وكان سببه مجرد العصيان والكراهية دون الفاحشة، فلا جرم أنه اذن فيه لقوم لا يعدون صدوره من الأزواج إضراراً ولا عاراً ولا بدعا من المعاملة في العائلة ولا تشعر نساؤهم بمقدار غضبهم إلا بشيء من ذلك".
وليعلم أن ضرب النساء منهي عنه من حيث الأصل، قال أمير المحدثين أحمد بن حجر - رحمه الله -: "وقد جاء النهي عن ضرب النساء مطلقاً، فقد أخرج أحمد وأبي داود والنسائي وصححه بن حبان والحاكم من حديث اياس بن عبدالله بن ابي ذباب: (لا تضربوا إماء الله)، وقد أخرج النسائي في الباب حديث عائشة: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة ولا خادماً قط، ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، أو تنتهك حرمات الله فينتقم لله).
وقد بوب البخاري - رحمه الله - باب ما يكره من ضرب النساء، واورد فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجلد أحدكم امرأته جلد العير ثم يجامعها آخر اليوم) قال عطاء - رحمه الله - لا يضربها وإن أمرها ونهاها فلم تطعه، ولكن يغضب عليها، قال العلامة ابن العربي - رحمه الله -: "هذا من فقه عطاء، فإنه من فهمه بالشريعة ووقوفه على مظان الاجتهاد علم أن الأمر بالضرب هاهنا أمر إباحة، ووقف على الكراهية من طريق أخرى في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبدالله بن زمعة: إني لأكره للرجل يضرب امرأة عند غضبه ولعله أن يضاجعها من يومه،
وروى ابن نافع عن الإمام مالك رضي الله عنه عن يحيى بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استؤذن في ضرب النساء فقال اضربوا ولن يضرب خياركم فأباح، وندب إلى الترك، وإن في الهجر لغاية الأدب". قال العلامة الطاهر ابن عاشور - رحمه الله -: "والمخاطب بضمير (تخافون): إما الأزواج فتكون تعدية (خاف) إليه على أصل تعدية الفعل إلى مفعوله نحو (فلا تخافون وخافون)
ويكون إسناد (فعظوهن) (واهجروهن) (واضربوهن) على حقيقته، ويجوز أن يكون المخاطب مجموع من يصلح لهذا العمل من ولاة الأمور والأزواج، فيتولى كل فريق ماهو من شأنه وذلك نظير قوله تعالى في سورة البقرة (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئا إلا أن يخافا الا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله)، فخطاب (لكم) للأزواج وخطاب (فإن خفتم) لولاة الأمور كما في الكشاف
قال: ومثل ذلك غير عزيز في القرآن، يريد أنه من قبيل قوله تعالى في سورة الصف (تؤمنون بالله ورسوله) إلى قوله (وبشر المؤمنين) فإنه جعل (وبشر) عطفا على (تؤمنون) أي: فهو خطاب للجميع لكنه لما كان لا يأتي إلا من الرسول خص به، وبهذا التأويل أخذ عطاء إذ قال: لا يضرب الزوج امرأته ولكن يغضب عليها،
قال ابن العربي: هذا من فقه عطاء وفهمه للشريعة ووقوفه على مظان الاجتهاد؛ لأنه علم أن الأمر بالضرب هنا أمر إباحة ووقف على الكراهية من طريق أخرى كقول النبي صلى الله عليه وسلم "ولن يضرب خياركم"، وأنا أرى لعطاء نظرا أوسع مما رآه له ابن العربي: وهو أنه وضع هذه الأشياء مواضعها بحسب القرائن ووافقه على ذلك جمع من العلماء قال ابن فارس: وأنكروا الأحاديث المروية بالضرب، وأقول: أو تأولوها".
المصدر:صحيفة الرياض ، العدد 14578 .
|