فتاتي والحياء... (1)
((فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ))
قصة واقعية:
حكت لي صديقتي: كانت تسير في الطريق فإذا بفتاة جميلة ترتدي استرتش ضيق، لا أعلم كيف ارتدته، سمعتها تصرخ، لماذا تصرخ؟
إنه انقطع وتكشف كل مستور، وهي لا ترتدي تحته أي شيء آخر!!!
وصرخ جميع من في الطريق: (غطوها.. غطوها.. أين أهلها؟! كيف نزلت من بيتها بهذا البنطلون؟!).
والفتاة تصرخ وتبكي.. تساءلتُ لماذا؟! وعلى ماذا تبكي؟!
لقد نُزع منها الحياء قبل أن تتفتق منها الملابس!!
وقالت أخرى:
رأيتُ الفتاة وهذه صفاتها ـ ومن لم تفعل ذلك ليست بفتاة عصرية أو متحضرة ـ ذات المكياج المتوهج، والمشي المتعوج، والسلوك المتعرج، الجريئة على محادثة الرجال، التي لا تثبت على حال.
قد عمدت إلى تدقيق الحواجب، وإضاعة الواجب.
لها عطر فواح، ودموع كدموع التمساح، وزميل في الصباح، وصديق في الرواح.
عزيزتي الفتاة:
اعلمي أن هذه الفترة من حياتك هي فترة تغيرات شاملة وسريعة في نواحي النفس والجسد والعقل والروح، وهي فترة نمو سريع في هذه الجوانب كلها، حتى قال عنها علماء النفس: (إنها فترة انقلاب كامل)، وقال آخرون: (هي مرحلة ثورة وتوتر).
ولكن عزيزتي الفتاة لا تنسي أثناء هذه التغيرات [الحياء].
وتساءلت في نفسي لماذا قل الحياء بين الفتيات؟
ربما يرجع ذلك إلى:
1ـ النشأة؛ فمن شب على شيء شاب عليه، يقول الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
ويقول آخر:
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولن تلين إذا كانت من الخشب
2ـ الاختلاط، وكثرة احتكاك الفتاة بالفتى في المجالات المختلفة كالجامعة والعمل.
3ـ التأثير الخارجي من مخالطة من قل حياؤهم أو تكررت رؤيتهم، سواء كان ذلك ناتجًا عن السفر إلى الخارج أو عبر وسائل الإعلام، أو غير ذلك؛ فإن الأخلاق حسنها وسيئها تكتسب بالمخالطة.
4ـ ولعل من الأسباب أيضًا: كثرة خروج الفتاة من بيتها، أو الصحبة الفاسدة، أو الغرق في المعاصي، وأقول أخيرًا إنني أرجع قلة الحياء عند الفتيات إلى ضعف الإيمان والجهل بمعنى الحياء.
تعالي معي عزيزتي الفتاة، لنقف أمام هذا المشهد القرآني الجميل الذي تجسده لنا الآية الكريمة في سورة القصص: ((فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)) [القصص:25].
(مشية الفتاة الطاهرة الفاضلة العفيفة النظيفة حين تلقى الرجال [على استحياء] في غير ما تبذل ولا تبرج ولا تبجح ولا إغواء، جاءته لتنهي إليه دعوة في أقصر لفظ وأخصره وأدله يحكيه القرآن بقوله: ((إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا)) [القصص:25]، ـ لم تقل له: أحب أن أتعرف عليك، ما اسمك؟ أنا اسمي كذا ـ، فمع الحياء الإبانة والدقة والوضوح، لا التلجلج والتعثر والربكة، وذلك كذلك من إيحاء الفطرة النظيفة السليمة المستقيمة، فالفتاة القويمة تستحي بفطرتها عند لقاء الرجال والحديث معهم، ولكنها لثقتها بطهارتها واستقامتها لا تضطرب الاضطراب الذي يطمع ويغري ويهيج، إنما تتحدث في وضوح بالقدر المطلوب ولا تزيد) [في ظلال القرآن، سيد قطب].
عزيزتي الفتاة المسلمة:
ما معنى الحياء؟ هل هو خلق مكتسب أم غريزي؟
هل يمكن لمن لا حياء عنده أن يملك من الحياء ما يردعه عن المعاصي؟
وأخيرًا كيف نغرس الحياء في نفوسنا؟
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة هناك قاعدة عريضة توضحها لنا الآية، أنه لابد من حاجز بين العبد وبين المعصية، وهذه الآية هي قوله تعالى: ((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [40] فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)) [النازعـات:40-41].
فتوضح لنا الآية شقين أساسيين هما:
1ـ خوف من مقام الله تعالى.
2ـ نهي للنفس وزجر لها عن هواها متى خالف أمر الله تعالى.
وهذا الشق الثاني يكون عن طريق زراعة موانع وبناء حواجز داخل النفس ترفع مستوى تحكم وسيطرة الإنسان على نفسه، ولذا كانت العناية الربانية ثم النبوية بهذا البناء عظيمة، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق)) [صحيح].
ـ ولقد روى ابن ماجه في سننه وحسنه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لكل دين خلقًا وخلق الإسلام الحياء)) [صحيح].
فما معنى الحياء إذن؟
ـ الحياء كما عرفه أهل العلم في اللغة أنه: (انقباض وانزواء، وانكسار في النفس يصيب الإنسان عند الخوف من فعل شيء يعيبه).
ـ والحياء مشتق من الحياة، ولذا قال بعض الفصحاء: (حياة الوجه بحيائه، كما أن حياة الغرس بمائة).
ـ كما عرفه علماء الشريعة بأنه: (خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق)، أو هو: (الامتناع عن فعل ما يُعاب).
ـ وأخيرًا وهذا مرادنا هنا هو: (نهي النفس عن القبيح ـ وهو كل ما يُغضب الله تعالى ـ).
ونتساءل الآن هل الحياء خلق مكتسب أم غريزي؟
الحياء نوعان؛ غريزي ومكتسب:
1- الحياء الغريزي: وهو الفطري الطبيعي.
2- والحياء المكتسب: هو الذي جعله الله تعالى من الإيمان وهو المكلف به [وهذا النوع هو مدار حديثنا]، ومن كان فيه غريزة من الحياء فإنها تعينه على الحياء المكتسب.
عزيزتي الفتاة المسلمة، لقد جاءت النصوص النبوية تؤكد على أن خلق الحياء من الإيمان في روايات كثيرة منها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان)) [صحيح].
وفي رواية أخرى: ((الحياء من الإيمان)) [صحيح]، وفي وراية ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) [متفق عليه]، وفي رواية أخرى ((الحياء خير كله)) [متفق عليه].
وعن عمران بن حصين: قال صلى الله عليه وسلم: ((الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة)) [حسن صحيح].
فلماذا جعل الحياء من الإيمان؟
قال القاضي عياض وغيره من الشراح [فتح الباري لابن حجر ، ( 17/300)]:
(إنما جُعل الحياء من الإيمان وإن كان غريزة؛ لأن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى قصد واكتساب وعلم ، وأما كونه خيرًا كله ولا يأتي إلا بخير فأشكل حمله على العموم؛ لأنه قد يصد صاحبه عن مواجهة من يرتكب المنكرات، ويحمله على الإخلال ببعض الحقوق.
والجواب: أن المراد بالحياء في هذه الأحاديث ما يكون شرعيًا، والحياء الذي ينشأ عنه الإخلال بالحقوق ليس حياء شرعيًا، بل هو عجز ومهانة، وإنما يُطلق عليه حياء لمشابهته للحياء الشرعي، وهو خلق يبعث على ترك القبيح، قلتُ: ويحتمل أن يكون أشير إلى من كان الحياء من خلقه أن الخير يكون فيه أغلب فيضمحل ما لعله يقع منه مما يذكر في جنب ما يحصل له بالحياء من الخير، أو لكونه إذا صار عادة وتخلق به صاحبه يكون سببًا لجلب الخير إليه).
عزيزتي الفتاة المسلمة:
عن أبي مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فافعل ما شئت)) [صحيح].
وفي شرح هذا الحديث في كتاب فتح الباري يقول: (إن الذي يكف الإنسان عن مواقعة الشر هو الحياء، فإذا تركه صار كالمأمور طبعًا بارتكاب كل شر، وقيل: هو أمر تهديد؛ أي إذا نُزع منك الحياء فافعل ما شئت, فإن الله مجازيك عليه، وفيه إشارة إلى تعظيم أمر الحياء).
فهل يمكن لمن لا حياء عندها أن تملك من الحياء ما يردعها عن المعاصي؟!!
أو يكف نفوس الحياء في نفس الفتاة؟!!
هذا ما سنعرفه في الجزء الثاني من المقال فتابعي معي.