أواصر دامعة
لازمة الطريق:
(أيها الفتي السالك درب النور، الطريق رحب يسع ذويك، فأمسك بلجم جيادهم، واحذر صيحة منك تنفرها، فإن كان فاقترب منها، وتحمل ما يؤذيك من رهج سنابكها، وامسح بالأعناق تأنس إليك، واستأنف بأحبتك المسير، واقطعه بحداء ونشيد، ترقب ثغورًا باسمة، وقلوبًا تهفو، وعيونًا تحنو، يغار منكم الود، وإذ بالربوة الخضراء تبرز من أغوار الأرض، فتفترشون بساطها الأخضر، تداعبكم نسمات الربيع، يشجي مسامعكم إيقاع السكون الرتيب، فتهمس في حنان (أنتم مني وأنا منكم).
أوهام علي الدرب:
هزهُ الإيمان فانبرى، ونزع عنه ثوب الماضي الرث، وطرح جهله بسر الحياة، وود لو اصطبغ العالم بلون حياته الجديد، بعد ما فار الإيمان في قلبه، طرق باب عرينه بالثوب الجديد، فاستقبلته الأبصار المحدقة المتسائلة.
كان من المفترض في حسبانه، أن هذه النقلة البعيدة في حياته سوف تحول محيط أسرته إلي حديقة غناء نقية الأجواء، لكنه سرعان ما أبصر الغيم تلبدت به سماؤهم، والصخر الحاد قد غزا مواطئ الأقدام، فبكت الأواصر الأسرية ذلك المناخ الصعب.
وكأني أراك أيها الشاب تومئ برأسك تصديقًا لما أقول، وقد حصرتَ تصوراتك لعوامل وجود ذلك المناخ في زاوية واحدة، وهي تلك المعوقات التي يصنعها ذووك والضغوط التي تمارس عليك للتراجع، أو تلك المخالفات الشرعية التي ضقت بها ذرعًا في بيتك، وأزكم دخانها أنفك، وهذه العوامل وإن كانت معتبرة وجديرة بالطرح والمناقشة إلا أنها أولًا شيء طبيعي لا يخرج عن إطار السنن الإلهية التي يتزين بها هذا الطريق ((أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين)) [العنكبوت:2-3]، ((وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون)) [الفرقان:20].
ثم إنها ثانيًا ليست العامل الوحيد ولا الأخطر في وجود ذلك المناخ، بل الأخطر منه موقفك أنت في مواجهة ما تكره، وكيفية التعامل معه!!
فلا تلق باللوم على الأسرة وتحملها المسئولية في ضعف الروابط الأسرية ووجود هذا المناخ السيئ، فإذا تفحصنا الواقع رأينا بعض الشباب تدفعهم حماسة غير راشدة إلى التعامل مع تلك المعوقات والمخالفات بقسوة وغلظة وعنف وجهل بمواضع الأمر والنهي، وصاروا يستعيرون من الماضي صور التعذيب والاضطهاد، والصبر وغربة الإسلام الأولى وعداوة أبي جهل.
وقد تعتمل في نفوسهم رغبة خفية في تحصيل لذة المحاكاة، وبعضهم تسيطر عليه تلك النظرة القاصرة المتردية للحياة، من تعليم وكسب وإعمار للأرض، وربطوا بين الالتزام وبين البطالة والراحة والإعراض عن شئون الحياة النافعة، مما أورث أهليهم حزنًا وغمًا، بالإضافة إلى الانطباعات السيئة عن الملتزمين عمومًا، وبعضهم يبالغ في التنطع، وصير أوهامًا ليست من الدين صيرها نسكًا كالتجهم وتهذيب ـ تعذيب ـ نفسه بالتجويع والحبس عن النوم والتبذل في الهيئة وغير ذلك من مظاهر الغلو وبعضهم وبعضهم.......
أخي الحبيب، وإن كنتُ حولت وجهة الخطاب عنك إلا أني لا أبرأك ولو من شيء واحد من هذه السلبيات، إذا فالذي يحتاج إلى تعديل المسار هو أنت، أنت الذي بيده الدفة، أنت الأقدر على تنقية الأجواء، ولئن كان في خطابي شيء من القسوة إلا أن جوهرها حرص عليك ومحبة لك، هي ما تجعلني أحاول تطويع القلم في خدمتك ورسم خارطة تعديل مسارك في محيطك الأسري حتى تصفوا الأجواء، وتستقر الأوضاع المتوترة.
سنتناول سويًا كل ما من شأنه أن يضعف هذه الروابط، أو يخلق واقعًا مزعجًا في المحيط الأسري، ولن تعدم الاستفادة إن شاء الله على أي حال، فإن كان الكلام يتفق معه واقعك فأكون قد أرشدتك، وإن لم يكن فالوقاية خير من العلاج ولتحمد الله على السلامة.
وفي جولتنا نعرض المشاكل وحلولها، نبدأها بمشكلة الغلو والتشدد وتعطيل أو إهمال شئون الحياة وتلك المفاهيم المغلوطة التي تسيطر على بعض الشباب مع بداية إلتزامهم، وأسباب ذلك، وأثره على الروابط الأسرية، ثم توجيه للشباب في هذا الشأن بتصحيح المفاهيم.
وقد يكون الشاب بمنأى عن هذا الخلل السلوكي ولكن يواجه بعض العقبات والعراقيل التي يضعها أهله أمامه لكي يتراجع، فنبين دوافعه إلى ذلك وكيفية تعامل الشاب مع هذه العقبات، وقد يكون الأمر ليس على هذا النحو، وأن الأمر ينحصر في المخالفات الشرعية التي ربما لا يعدونها في الأصل مخالفات، بينما تؤرق الشاب الذي قد يسيء التعامل معها فنبين كيفية التعامل مع تلك المخالفات، وقد لا يكون في واقع الأسرة شيء مما سبق، الشاب معتدل منضبط المسار والأهل متفاهمون لا يجدون غضاضة في قبول التحول الجديد في حياة ولدهم، بل يستجيبون لنصحه أو على الأقل لا يضايقونه بما لا يحب رؤيته، والأمور مستقرة والعلاقات وطيدة فهل ينتهي دورنا حينئذ؟
لا والله، فلم لا يستبد بنا الطموح ويكون التوجيه حينها للوصول إلى المعالي، ببيان الدور الذي يقوم به الشاب في الارتقاء بأسرته حتى تكون له قوة دافعة إلى الأمام ويكون منهم دعاة إلى الحق والخير، كل هذه الأمور سوف نطرق أبوابها ونجول في أروقتها إن شاء الله تعالى، فهلم نطلق لأنفسنا أشرعتها البيضاء، ونبدأ رحلتنا بزاد أراك بحاجة إليه:
منطلقات الرشاد
إنها الأسس التي ينبغي للشاب أن يبني عليها تعاملاته مع أسرته، ويستصحب معانيها، فإنها تمنحه بإذن الله رشد الخطا ونقاء التصورات، ووضوح الرؤى أسوق منهما:
1- الوكاء المحكم: اهتم الإسلام بالأسرة اهتمامًا بالغًا، وأولاها عناية فائقة ابتداء بالترغيب في الزواج حيث أنه أساس تكوين الأسرة نواة المجتمع، ثم وضع معايير الانتقاء الصحيحة كما في الأحاديث ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) [صحيح]، ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)) [حسن]، ومرورًا بتنظيم المعاملات بين الزوجين، ((خيركم خيركم لأهله)) [صحيح]، ((لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله لهم عليهن من الحق)) [صحيح].
وحفظ مكانة المرأة واستقلالها بملكيتها الخاصة، ونظم العلاقة بين الأبوين وأبنائهم من حقوق وواجبات، وشرع آداب الاستئذان والدخول، إلى غير ذلك من جملة صور العناية بالأسرة، فالرابطة الأسرية محكمة قوية ينبغي الحفاظ على قوتها وإحكامها.
2- لمعة في عينك: عين تلمع بعبرة من رافد نهر المحبة والشفقة، هذه هي الحال الواجبة مع الأهل حتى لو كانوا يمثلون عائقًا لك عن الالتزام ـ إن افترضنا ذلك ـ إنهم لا يبغضونك، لا يبغضون التزامك، لا يبغضون الدين، إنما لهم دوافعهم النبيلة وفق ما عندهم من رؤى ومفاهيم، إنهم ليسوا بفرعون وهامان وأبي جهل، إنهم مسلمون يحبون الله ورسوله والإسلام، الأصل فيهم الخير والضد عارض، فوجه سهامك نحو المؤثرات التي جعلتهم يستنكرون صبغة لم يألفوها.
3- اختيار وهمٌ وفرار: بعض الشباب يتساهل في إلزام نفسه بحتمية الاختيار بين التزامه وبين أهله إذا ما تعقدت الأمور قليلًا، يدفعه إلى ذلك قصر النفس والرغبة في الفرار من مواجهة الواقع ومشكلاته، أو يكون دافعه رغبة في رؤية الذات في سجل المواقف الإيمانية، فينجم عن هذا الاختيار عزلة معنوية أو مكانية.
والحق أن يمحو الشاب من تصوراته هذه الحتمية، حيث أن حفاظه على الرابطة الأسرية وتعايشه مع الواقع الأسري بالضوابط الشرعية، وقيامه بالنصح والتوجيه، كل ذلك من صميم الالتزام، وفي مجتمعاتنا الإسلامية يندر أن يكون هناك حالات يتحتم على الشاب فيها الاختيار، فإن وجد فلا يقرر الشاب من تلقاء نفسه، وإنما عليه الرجوع إلى الثقات من أهل العلم.
4- ميدان أنت فارسه: الأسرة ميدان عظيم من ميادين الدعوة، وأنت أيها الشاب فارس هذا الميدان، وما أيسر اقتحامه حيث أنك تملك مفاتيح تلك الشخصيات التي ستدعوها، ومناخ الأسرة أنت على دراية تامة بطبيعته، فما أعجبك من داعية تتفانى في الدعوة وميادينها البعيدة، وتسقط من حساباتك أقرب الميادين، مع أنه أحقها بالاختراق؛ قال تعالى: ((وأنذر عشيرتك الأقربين)) [الشعراء:214].
5- (إنك لا تهدي من أحببت): استصحبها في كل نصيحة تسديها لهم، في كل توجيه، في كل طريقة دعوية تسلكها معهم، فإنما عليك البلاغ، عليك الدلالة وعلى الله التوفيق، وإنما أنت في أجر مادمت في سعي، وذلك حتى لا يتملكك اليأس والإحباط إن رأيت إعراضًا أو نفورًا.
6- ظلك السرمدي: قد ينفك عنك ظلك بظلمة أو حجب عن الضوء، ولكن الظل الذي أعنيه لا ينبغي أن يكون بينك وبينه فراق، فهو من الثوابت التي لا يسوغ لك التفريط فيها تحت مظلة الوفاق، إنها القاعدة العظيمة التي وضعها سيد المرسلين: ((لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف)) [صحيح]، ولم يدع الدين هنالك مجالًا لتميع الأمور واختلاط المفاهيم، فبالرغم من أن الله تعالى أمر ببر الوالدين ولو كانا على الشرك إلا أنه وضع لذلك حدًا بارزًا واضحًا، فإن كان ثمة أوامر فيها مخالفة لأمر الله فالجواب الحاسم ((فلا تطعهما)) [العنكبوت:8]، فالتفريط في أمور الدين الواجبة بدعوى الصلة والوفاق هو وهم لا ينبغي.
أيها الميمون، مداد القلم لم ينضب، أرى الشوق يهزه لتنساب منه مشاعر المحبة المختزنة، تتجسد في ثوب الإرشاد، من أجلك أنت يا فتى الإسلام، ألقاك علي خير إن شاء الله تعالى، في الحلقة القادمة (جسر من حرير).
|