إذا تأملنا في قول النبي صلى الله عليه وسلم:" قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء" أدركنا أهمية الدعاء والتضرع إلى الله تعالى في صلاح الأبناء، إذ قلوبهم وقلوب العباد جميعاً بين يديه يقلبها كيفما يشاء، وهو سبحانه وحده الذي بيده هداية الخلق إلى صراطه المستقيم، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يدعو في اليوم الواحد أكثر من سبعين مرة قائلاً:" اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
ولننظر كيف كان الدعاء هو الحل لكثير من المعضلات والمشاكل التربوية عند سلفنا الصالح رضي الله عنهم جميعاً، فلم تكن أمور التربية تسير عندهم بلا مشكلات كما يتصور البعض، ولكن كان لديهم الكثير من الصعاب في عملية التربية ولكنهم ذللوها بالدعاء الذي:
إذا بذلناه للولد صغيراً.. ظهر أثره عليه كبيراً:
فعن معاوية بن قرّة قال:" لما ولد لي إياس، دعوت نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأطعمتهم، فدعوا، فقلت: إنكم قد دعوتم، فبارك الله لكم فيما دعوتم، وإني إن أدعو بدعاء فأمّنوا، قال: فدعوت له بدعاء كثير في دينه وعقله وكذا، قال: فإني لأتعرف فيه دعاء يومئذ" أي أنه يعرف ويجد فيه بعد ما كبر أثر دعائه له في هذا اليوم وهو صغير.
- حوّل الدعاء الولد المتمرد المستعصي على التأديب والتربية إلى شاب صالح:
وهو ابن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى (من كبار التابعين وساداتهم) حيث اجتهد والده في تربيته اجتهاداً كبيرا، وكان يأمل أن يكون صالحاً ورعاً تقياً ولكن الأمر صعب عليك فدعا الله تعالى قائلاً:"اللهم إني اجتهدت أن أؤدب علياً فلم أقدر على تأديبه، فأدبه لي".. إنها مشكلة الكثير من الآباء اليوم، أن يبذل الوالد الحاني كل ما يستطيع تقريباً في تربية ولده ولكن لا يحالفه التوفيق، ولكن الفضيل هنا لم ييأس ورفع أكف الضراعة لله تعالى، فكان التوفيق منه سبحانه إذ أصبح على بن الفضيل بن عياض إماماً كأبيه في العلم والزهد، فقال عنه الإمام النسائي:" ثقة مأمون"، وقال الحافظ أبوبكر الخطيب:" كان من الورع بمحل عظيم" ، وقال ابن المبارك :" خير الناس الفضيل بن عياض وخير منه ابنه على"، وعن سفيان ابن عيينة قال:" ما رأيت أحداً أخوف من الفضيل وابنه"
وأصبح الفتى عوناً لأبيه على التقى والزهد والورع، يخرجان معاً للصلاة والحج وأعمال الخير، يقيمان الليل ويصومان معاً، وهكذا أصبحت العلاقة بين الابن وأبيه إلى أن جاء اليوم الموعود، وفارق على بن الفضيل الحياة سنة:183هجرية
ولقد افتقده والده وحزن عليه كثيراً فها هو يحكى عنه بعد وفاته ويقول:" قال لي علي يوماً: أسأل الذي جمعنا في الدنيا أن يجمعنا في الآخرة ثم بكى، فلم يزل منكسر القلب حزيناً، ثم بكى الفضيل فقال: حبيبي يا من كان يساعدني على الحزن والبكاء، شكر الله لك ما قد علمه فيك. وهكذا ظل والده حزيناً حتى لحق به بعد أربعة أعوام، حيث توفى الفضيل سنة: 187 هجرية.
بالدعاء نقضى على مشكلات أبنائنا الدراسية:
سليم بن أيوب بن سليم عن طفولته فقال: أنه كان في صغره بالري، وهى مدينة من مدن فارس، وله نحو من عشر سنين، فحضر بعض الشيوخ وهو يلقن( يعنى :يحفظ الصغار القرآن) فقال لي: تقدم فاقرأ، فجهدت أن أقرأ الفاتحة فلم أقدر على ذلك لانغلاق لساني ( لأنه لم يكن يتكلم اللغة العربية) فقال: لك والدة؟ قلت: نعم، قال: قل لها تدعو لك أن يرزقك الله قراءة القرآن والعلم، قلت نعم، فرجعت فسألتها الدعاء فدعت لي، ثم إني كبرت ودخلت بغداد وقرأت بها العربية والفقه، ثم عدت إلى الري، فبينا أنا في الجامع أقابل مختصر المزني (يعنى يشترك مع غيره في مناظرة حول شرح كتاب مختصر المزني ويتحدثون باللغة العربية ) وإذا الشيخ قد حضر وسلم علينا وهو لا يعرفني، فسمع مقابلتنا وهو لا يعلم ماذا نقول، ثم قال: متى يُتَعَلّم مثل هذا؟ فأردت أن أقول: إن كانت لك والدة فقل لها تدعو لك، فاستحييت.!
فلماذا لا نقتدي بأم سليم بن أيوب في الدعاء لأبنائنا فيم أغلق عليهم فهمه، أو صعب عليهم حفظه من المواد الدراسية ؟ لنجعل الدعاء هو ما نستعين به على صعوبات الدراسة والامتحانات التي يواجهها أبناؤنا جميعاً.
دعاء الآباء سبب لمغفرة ذنوب الأبناء:
فلقد قصّ علينا القرآن الكريم خبر أبناء يعقوب عليه السلام وما ألموا به من ذنب، فلما تاب الله عليهم وندموا على ما بدر منهم في حق أخيهم يوسف عليه السلام، استعانوا على تمام توبتهم بدعاء أبيهم واستغفاره لهم، قال تعالى:" قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين، قال سوف أستغفر لكم ربى إنه هو الغفور الرحيم" قيل فى تفسيرها أنه وعدهم أنه سوف يدعو لهم ويستغفر لهم إذا جاء وقت السحر.
الدعاء عليهم على رأس قائمة الممنوعات التربوية:
فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أشد التحذير من الدعاء على الولد، فقد روى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r :" لا تدعوا على أنفسكم ، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعو على خدمكم، ولا تدعو على أموالكم، لا توافقوا من الله تبارك وتعالى ساعة نيل فيها عطاء فيستجيب لكم"- رواه مسلم/ كتاب الزهد والرقائق رقم: 5328 . وجاء رجل إلى عبد الله بن المبارك يشكو له عقوقه وتمرده، فقال له: هل دعوت عليه؟ قال الرجل: نعم، قال ابن المبارك: أنت أفسدته!.
وأخيراً..أعزائي الآباء والأمهات:
إن أخطاء أبنائنا تحتاج إلى صبر ودعاء، ولا نقصد بالدعاء أن يكون مرة واحدة أو مرتين، ولكن علينا أن ندعو الله تعالى لهم ليلاً ونهاراً، سرّا وجهاراً، ولا نيأس من رحمة الله تعالى ولا نستعجل الإجابة، فربما تأتى الإجابة بعد شهور وسنين من الدعاء العريض، روى الإمام الذهبي عن التابعي الجليل مورق العجلي أنه قال: " لقد سألت الله حاجة عشرين سنة، فما شفعني فيها( يعنى ما أعطاني إياها) وما سئمت من الدعاء" إذن علينا أن نقرع أبواب السماء دائماً بالدعاء لأبنائنا والتضرع بلا ملل أو كلل، فإن من أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له، ولنعلم أن الدعاء للأبناء يصلح أحوالهم، ويجبر كسرهم، ويعالج أخطائهم، ويحميهم من شرور الدنيا والآخرة، فهيا بنا نرفع أيدينا على الله تعالى نسأله أن يهديهم سواء السبيل وأن يجعلهم قرة أعين لنا في الدنيا والآخرة.