بتـــــاريخ : 5/15/2008 11:28:55 AM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1372 0


    كلمات… إلى روح أمي.. عائشة….

    الناقل : elmasry | العمر :42 | الكاتب الأصلى : أمينة شرادي | المصدر : www.diwanalarab.com

    كلمات مفتاحية  :
    ادب

    رحلت في غفلة عني وعن جميع من عرفوها وأحبوها. كان رحيلها كطعنة بالخنجر في الظهر. يومها امتلكني ألم حاد. مزق أحشائي ولوث بدني وصرت كالخرقة البالية. يومها عشقت الموت، عشقت الجنون. عشقت كل ما يجعلني خارج الزمن. مازلت أتلمس ذلك الخنجر في ظهري.

    رحيلك خنق البسمة في شفتاي صفع المرح في وجنتاي وأد الدمعة في عيناي. كنت لي كالمحراب التجئ إليه كل ما غص حلقي وانتفخ صدري أستشف منه الرحيق الحلو وأغسل روحي الدميمة.كم مرة قلت لك بصوت صامت يا لك من امرأة عظيمة. كم كنت أحب أن أحضر غذائي وأجلس إلى جانبك وأحدثك وأستمتع بكلامك القوي والجميل.سألت نفسي مرارا عن سر هذه القوة الروحية وأنت الآتية من براري المدن البعيدة. كنت تستلقين بعد طعام الغذاء سارحة بأفكارك القديمة واهتماماتك الدائمة. أحيانا كنت أسمع أصواتا تخرج متتالية تعلو تارة وتخبو أخرى. لا أفهم ما تقولينه. لكن أشعر بأن بداخلك إنسان يتلوى رغبة في البزوغ فوق الأرض الصلبة.لكنه محكوما بظروف عاتية.كنت مسالمة كالنسمة البيضاء، تردين بكلمات طيبة على كل من آذاك أو من شتمك. كنت تتوجهين بروحك الطاهرة ووجهك الصادق ويداك البيضاوان إلى رب السماء حتى يرفعك عنهم ويجعل لك درجات. كم كنت أنيقة وراقية تعطين بقلب الأم الطاهر وتسقين كل من حولك حليبا وتمرا. كم كنت أحب أوقات الشاي المسائية حيث تلتف كل الأسرة حولك وتنتظر كؤوسك المنعنعة ذات الرائحة الطيبة والبخار المتطاير سابحا في الفضاء كعصافير فصل الربيع. نقول كلاما صغيرا وكبيرا. نحتسي كؤوس الشاي اللذيذ. وأنت جالسة بطريقتك المعتادة تصبين الشاي وتحاولين إرضاء الكل. ما تزال مائدتك الصغيرة الحمراء مركونة مع أواني العهد القديم.إنها ذاكرتك الخالدة والحارسة لفرا شك وأوانيك. كلما سافرت بذاكرتي إلى طفولتي ومراهقتي أكتشف كم كانت جميلة وقليلة لأنك كنت لحظة من لحظاتها السامية. ما زالت حفرياتك هناك تناديني كلما مررت بالقرب من البيت القديم بسطحه المشمس الذي كنت تعشقين الجلوس بين حيطانه وأشجاره المتدلية من الجانب الآخر البعيد حتى تناجين شمس السماء الصافية وتنعم عظامك بخيوطها الدافئة. مرات عديدة كنت تقيمين صلاتك بين أحضان هذا النعيم الخالص.

    كنت كلما أدفع الباب اسأل عنك بصوت مرتفع وأناديك «حبيبتي"و يأتيني صوتك الرخو موجات متذبذبة من أعلى السطح، وأسألك هل لا تخافين من أشعة الشمس، ويكون جوابك بأن الشمس صديقتك وهي تمسح العرق الآسن عن جلدك. عشت حياتك بين التراب والأسمنت. كنت تحملين صفاء السماء في عينيك وبياض الثلج على جلدك. يوم تسقين يديك بالحناء تنحني كل نساء الحي إجلالا لهذا الجمال الرباني وتطلقن آهات الإعجاب. ويزيدك ذلك فخرا واعتزازا. أحيانا تصيبك عيونهن بسهام من الألم وأحيانا أخرى تحرسك عيون الطبيعة الخفية. كنت تسكنين غرفة واحدة واستحالت لفردوس على الأرض. كنت كالبذرة الخضراء التي حطت خطأ فوق رمال قاحلة.طلقت العنان لوديانك التي لا تنبض حتى صرت أنت الفتاة الآتية من وراء الصخور والأحجار، ملكة المكان وسيدة الجمال. أتذكر جيدا يوم قلت لي بأنك نادمة أشد الندم على عدم اهتمامك بالدراسة. حيث مضى جل وقتك في الزيارات والتسوق بدون جدوى. و استدركت قائلة "الذنب ليس ذنبي،لم ينبهني أحد لذلك مع أنني كنت سأتفوق بشكل كبير). وتصمتين بعيون تبحث عن الزمن الضائع. ساعتها لا أدري كيف أواسيك، لأنك فعلا كنت تحملين ذكاء لا أتوفر عليه أنا الآن.لكن بقوة روحك المرحة كنت تركنين هذه الأسئلة القاسية جانبا وتمطريني بابتساماتك الحبيبة إلى قلبي. كلما أغمضت عيناي تمر هذه الابتسامات كالنسمة الهادئة تحضن روحي الكئيبة وتسمو بها إلى خارج كل الممنوعات. لك ذكريات عن حرب التحرير. ساهمت بطريقة أغلب النساء اللائى كن لا يتوفرن على سلاح. ركضت حتى دمت رجليك. ألقيت بالحجارة على المستعمر، علا صوتك بين النيران وأصوات البنادق. فقد كنت فعلا ابنة الأرض الحرة التي ارتوت بالدماء الحرة. لقد أمضيت نصف عمرك في هذه المدينة المقاومة مدينة "وادي زم". وجاء يوم الرحيل وغير كل حياتك. امتلكت فضاءا شاسعا وهدوءا يحيلك إلى أيام الصبا والانطلاق. كنت سيدة المكان تنبض حياة وخفة، أسكبت زهورا على كل جنبات البيت الجديد وأعطيته من خيالك الجميل لونا خاصا يريح النفس المريضة.أتذكر يا أمي يوم قررت الخروج من دهليز الأمية والنوم الكثير، قلت لي في ذلك اليوم: ’أريد أن أعمل حتى أنتج.. وفعلا تعلمت أن تخيطين ألبسة صوفية لكل الأعمار وتبيعينها وتحصلين على مال.. ’كانت ثورة جميلة غيرت حياتنا العادية. كنت تكرهين الملل والركون إلى الجمود، وتكرهين النساء التافهات والضعيفات. صدقك وطيبو بتك وابتسامتك الرائعة، جعلوا من البيت قبلة للأصدقاء، للعائلة… كنت صبورة وكتومة، تحكى لك الأسرار وتخبأ عندك الأمانات… كنت كل حياتي الجميلة التي أفتقدها الآن.

    راح جسدك واستوطنتني روحك الطاهرة،وأنا بك ولك مستمرة…

    كلمات مفتاحية  :
    ادب

    تعليقات الزوار ()