ودليلي على ذلك سآخذه من سير الخلفاء الراشدين، سنعيش معهم مواقفاً كلها تأكيد للذات، هذه المواقف ليست متعلقة بهم وحسب، ولكنها متعلقة أيضا بأسرهم، وأقاربهم، ورعيتهم من المسلمين وغير المسلمين!؛ فمن عظمة الدين الإسلامي أنه لم يكتف بتأكيد المسلمين لذواتهم، وزرع الثقة في نفوسهم، بل جعل المسلمين يحترمون إرادة أصحاب الديانات الأخرى، واحترام ديانة الآخر ومعتقداته يكون دافعا له على احترام ذاته وخصوصا إذا كان أصحاب الديانات الأخرى أقلية في المجتمع المسلم!.
وهذه القصة الطريفة تشير إلى ذلك المعنى: أخرج ابن سعد عن أسبق قال: كنت مملوكا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأنا نصراني فكان يعرض علي الإسلام ويقول: إنك إن أسلمت استعنت بك على أمانتي، فإنه لا يحل لي أن أستعين بك على أمانة المسلمين وأنت لست على دينهم، فأبيت عليه، فقال: "لا إكراه في الدين". فلما حضرته الوفاة أعتقني وأنا نصراني، وقال: أذهب حيث شئت. أخرجه سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم بنحوه مختصراً. كذا الكنز (5/ 50). وأخرجه أبو نعيم في الحلية (9/34) عن أسبق الرومي مثله، إلا أن في روايته: على أمانة المسلمين فإنه لا ينبغي لي أن أستعين على أمانتهم بمن ليس منهم.
والقصة التالية تؤكد المعنى السابق وهو أن الإسلام احترم أهل الذمة في المطالبة بحقوقهم، حتى وإن كان هذا الحق مشكوكاً فيه، وحتى وإن كان الحق المتنازع عليه بين خليفة المسلمين ورجل متواضع الحال من أهل الكتاب، وذلك بدون غضاضة في نفس القاضي أو الخليفة الذي يطالب بحق له من أحد الرعية، وهو رجل متواضع الحال من بني الأقليات التي تعيش في كنف الأغلبية المسلمة، فهيا بنا نتعرف على تفاصيل هذه القصة الطريفة المعبرة عن سمو هذا الدين السمح الراقي:
يُروى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه افتقد درعا له كانت أثيرة عنده، غالية عليه.... ثم ما لبث أن وجدها في يد رجل يهودي يبيعها في سوق الكوفة... فلما رآها عرفها وقال:
هذه درعي سقطت عن جمل لي في ليلة كذا... وفي مكان كذا...
فقال الذمي: بل هي درعي وفي يدي يا أمير المؤمنين...
فقال علي رضي الله عنه: إنما هي درعي لم أبعها من أحد، ولم أهبها لأحد حتى تصير إليك....
فقال الذمي: بيني وبينك قاضي المسلمين...
فقال رضي الله عنه: أنصفت، فهلم إليه...
ثم إنهما ذهبا إلى شريح القاضي، وهو مضرب المثل في الفطنة والذكاء بين القضاة، فلما صارا عنده في مجلس القضاء، قال شريح لعلي رضي الله عنه: ماذا تقول يا أمير المؤمنين؟
فقال: لقد وجدت درعي هذه مع هذا الرجل، وقد سقطت مني في ليلة كذا وفي مكان كذا، وهي لم تصل إليه ببيع ولاهبة.
فقال: الدرع درعي وهي في يدي. ولا أتهم أمير المؤمنين بالكذب!!..
فالتفت شريح إلى علي، وقال: لا ريب عندي في أنك صادق فيما تقوله يا أمير المؤمنين، وأن الدرع درعك، ولكن لابد لك من شاهدين يشهدان على صحة ما ادعيت.
فقال علي: نعم... مولاي قنبر، وو لدي الحسن يشهدان لي...
فقال شريح: ولكن شهادة الابن لأبيه لا تجوز يا أمير المؤمنين...
فقال رضي الله عنه: يا سبحان الله!!! رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته!!!... أما سمعت أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة".
فقال شريح: بلى يأ أمير المؤمنين... غير أني لا أجيز شهادة الولد لوالده!!!..
عند ذلك التفت على إلى الذمي وقال: خذها فليس عندي شاهد غيرهما...
فقال الذمي: ولكني أشهد بأن الدرع لك يا أمير المؤمنين.... ثم تابع حديثه قائلا: يا الله!!!... أمير المؤمنين يقاضيني أمام قاضيه!!... وقاضيه يقضي لي عليه.... أشهد أن الدين الذي يأمر بهذا لحق... وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله...
اعلم أيها القاضي أن الدرع درع أمير المؤمنين، وأنني اتبعت الجيش وهو منطلق إلى صفين، فسقطت الدرع عن جمله الأورق فأخذتها.
فقال رضي الله عنه: أما وإنك قد أسلمت فإني قد وهبتها لك.. وو هبت لك معها هذا الفرس أيضا...
ولم يمض على هذا الحادث زمن طويل حتى شوهد هذا الرجل -الذي أسلم بعد أن انبهر بأخلاقيات الإسلام وبأخلاق ولاة أمر المسلمين– يقاتل الخوارج تحت راية علي رضي الله عنه مستبسلا حتى كُتبت له الشهادة!!!.
وحقيقة، فإن هذا الموقف يثير لدى من يسمعه في وقتنا الحاضر العديد من التساؤلات!!، مثل:
هل الفهم الصحيح للدين لدى أبناء مجتمع ما، يساعدهم على تأكيد ذواتهم؟
هل انتشار الأخلاقيات السامية بين أبناء أمة ما –مثل الإذعان للحق وحب العدل والصدق والتسامح الديني والوفاء– يساعد على تأكيد الذات لدى أبناء تلك الأمة؟
هل طبيعة النظم الحاكمة -من حيث الديموقراطية أو الشمولية، والرأسمالية أو الشيوعية، والنظم العلمانية أو الدينية مثلا- في البلدان المختلفة تؤثر على درجة تأكيد الذات لدى أبناء الشعوب التي تعيش تحت حكم تلك النظم الحاكمة المختلفة؟
هذه الأسئلة تبدو الإجابة عليها بديهية لدى الكثير من الناس، ولكنها قد تحتاج إلى إرادة فولاذية، وشجاعة أدبية، وقدر كبير من تأكيد الذات، وذلك من جانب الباحثين في مجالي علمي النفس والاجتماع؛ للإجابة عليها بصورة تخضع لمناهج البحث العلمي!!!.
ولكن قد يسأل سائل: هل أكد أمير المؤمنين ذاته عندما استسلم لحكم القاضي الفطن، بعدم أحقيته في الدرع، لأن القاضي رفض شهادة ابنه الحسن لوالده أمير المؤمنين، هذا الابن الذي يكفيه أنه سيد شباب أهل الجنة، وهو حي يرزق يمشي على الأرض، كما قال من لا ينطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم- في شأنه؟ وهو يعلم –رضي الله عنه- حق اليقين بل عين اليقين أنها درعه؟.
وهنا لابد من وقفة، فالمقام هنا أعلى من تأكيد الذات والانتصار لحق النفس!!، فهو رضي الله عنه أمير المؤمنين، والقدوة التي تقتدي الرعية به، وهو القائل: "من كرمت عليه نفسه هان عليْهِ مالُهُ"، وهو نفسه من أقر شريحا قاضيا للناس، فكيف يرفض حُكماً قضى به قاضيه الذي ارتضاه لنفسه وللرعية؟!!، وهنا تتجلى بصيرة صحابة رسول الله عليه وسلم في إدراكهم لأولويات الأمور، فكانوا رضي الله عنهم وأرضاهم يتنازلون عن أشياء مهمة في سبيل عمل ما هو أهم، ولقد أظهرت خاتمة القصة صحة موقفه رضي الله عنه، حيث جسد الآية الكريمة: "(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34)"
ولنتأمل معاً موقف القاضي شريح، والذي أظهر الروح الموضوعية للقضاء الإسلامي، والتي لا تنحاز أبدا للأحاسيس ولا للأهواء، بل يتبع ما لديه من قوانين وأحكام ومنهج معين يصدر القاضي على أساسه الأحكام التي يطمئن قلبه إليها بناءً على الأدلة المُتاحة، وليس بُناءً على أحاسيس هذا القاضي وإن كانت تلك الأحاسيس صادقة إلى حد اليقين، وإن كان حكم هذا القاضي لصالح رجل رقيق الحال من أهل الذمة يشك القاضي في صدق أقواله تمام الشك، ولكن خصمه الورع التقي خليفة المسلمين لا يملك الدليل المادي على ما يدعيه ضد هذا الرجل!!؛ فما أجمل احترام الإسلام لآدمية الإنسان بغض النظر عن وضعه المالي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الديني!!.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر؛ فقد سبق لشُريح بن الحارث موقف مشابه مع قمة العدل بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلقد اشترى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه - فرسا من رجل من الأعراب، وأعطاه ثمنه، وبعد أن ركبه رضي الله عنه ومضى ظهر عطب في ساق الفرس عاقه عن مواصلة الجري، فعاد به رضي الله عنه من حيث انطلق، وقال للرجل خذ فرسك فإنه معطوب!!...
فقال الرجل: لا آخذه -يا أمير المؤمنين- وقد اشتريته مني سليماً صحيحا..
فقال عمر: اجعل بيني و بينك حكما...
فقال الرجل: يحكم بيننا شُرَيح بن الحارث الكندي..
فقال عمر: رضيت به..
ولما سمع شريح مقالة مقالة الأعرابي، التفت إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه وقال:
هل أخذت الفرس سليما يا أمير المؤمنين؟
فقال رضي الله عنه: نعم
فقال شريح: احتفظ بما اشتريت –يا أمير المؤمنين– أو رد كما أخذت.
فنظر إلى شريح معجبا وقال: وهل القضاء إلا هكذا!!.. قول فصل وحكم عدل... اذهب إلى الكوفة فقد وليتك قضاءها!!....
لله درك يا عمر... يحكم شريح ضد مصلحتك!، ولصالح خصمك!،.... فتُعجِب بحكمه وتجازيه خيرا وتوليه قضاء الكوفة؟!!... رغم أن المدينة المنورة في ذلك الوقت تعج بالنجوم اللامعة من الرعيل الأول من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلماذا؟؟ أعتقد أنه حب الحق والعدل الذي علمهم إياه هذا الدين!!.. ولو كان هذا الحق في الظاهر ضد مصالحهم، فيقول الله عز وجل: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً" (النساء:58)، ويقول عز وجل: "(....... وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأنعام:152)، والعلاقة بين حب الحق والعدل وتأكيد الذات ملموسة، فلا تجد شخصا واثقا من نفسه، مؤكدا لذاته يستسيغ ظلم الآخرين له، بل نجد مثل هذا الشخص منفعلا لوقوع الظلم من الآخرين على من يعرفهم، بل وحتى عندما يقع ظلم ما على من لا يعرفهم، فنذكر هنا موقف عمر بن الخطاب الحازم العادل عندما اشتكى إليه رجل مصري سبق فرسه فرس محمد بن عمرو بن العاص والي مصر، فلطمه ابن والي مصر على وجهه قائلا: "كيف تسبق ابن الأكرمين؟!"، وهذا المصري كان مؤكدا لذاته، وهو الذي سمع بعدل الخليفة عمر بن الخطاب، وياله من موقف!!
فقد انتظر أمير المؤمنين عمر –رضي الله عنه- موسم الحج كي يكون الحساب لولاته على رؤوس الأشهاد، وكان -رضي الله عنه- قد بعث لعمرو بن العاص وابنه محمد أن يحضرا موسم الحج في هذا العام، وكانت عيونه في مصر قد أكدت له ما رواه المصري، وعندما رأى عمرواً أوسعه ضربا بالدرة على رأسه أمام الأشهاد، وعمرو يستصرخه: "الله الله فيَّ يا أمير المؤمنين، والله لم أدر بما فعله ابني يا أمير المؤمنين!".
فقال عمر رضي الله عنه: إنما استطال ابنك على الناس بسلطان أبيه، يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا!!!"، ثم استدار إلى المصري، وناوله الدرة قائلا: اضرب ابن الأكرمين!!.. وبعد أن ضرب المصري محمد بن عمرو، وشفى صدره من ظلم ابن الوالي له، أردف أمير المؤمنين قائلا والله لو درت بها على رأس أبيه ما منعتك!!
الله الله عليك يا عمر، يا من أتعبت بعدلك الحكام من بعدك.... ويا من احترمت آدمية البشر حتى وإن كانوا من غير جنسك وملتك!!!...
وهل هناك من عادل، معتز بدينه ثم بنفسه، مع تواضعه التام لله، ثم للمؤمنين كعمر بن الخطاب -رضي الله عنه و أرضاه-؟!!.....
هو عمر الذي أبى إلا أن يجاهر المسلمون بدينهم وبصلاتهم! وأين؟ في صحن الكعبة!!، وعلى مرأى و مسمع من عتاة الكفر في قريش، بعد أن كان الصحابة يستخفون عند لقاء النبي –صلى الله عليه وسلم- بدار الأرقم لمدارسة تعاليم دينهم الجديد! رضي الله عنهم أجمعين، وإنه لهو هو عمر بن الخطاب، والذي قرر أن يهاجر من مكة إلى المدينة، بعد أن سمح له الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة، فلم يستخف من كفار قريش، بل طاف على تجمعات قريش مجاهرا بهجرته، بل ومهددا لمن تسول له نفسه منهم بمنعه أو مطاردته قائلا: "من أراد منكم أن تثكله أمه، أو ييتم ولده فليلقني خلف هذا الوادي"، فأي طراز من الرجال هذا الرجل؟!!، هو رضي الله عنه مزيج من مكارم الأخلاق، والتي شذبها وهذبها حبيبه وقدوته الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- فهو رضي الله عنه كتلة من الشجاعة والقوة والثقة وتأكيد الذات مع العزة والإباء والشمم والكرامة، مع عدل دقيق يصعب على أدق موازين الأرض محاكاة دقته، ويحضرني هنا قول السيدة عائشة أم المؤمنين عندما رأت رجلا مستضعفا متماوتا... فتأذت من منظره وقالت: ما هذا؟... فقالوا أحد القراء... فقالت: قد كان عمر بن الخطاب قارئا، ولكنه كان إذا قال أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع".
ونستطيع إجمالا أن نطلق على أخلاقياته رضي الله عنه: "الأخلاقيات الإيجابية المفعمة بالحيوية".
ويُحكى أن أعرابياً وقف على عمر بن الخطاب فقال: يا عمر الخير جزيت الجنة جهز بنياتي واكسهنه، أقسم بالله لتفعلنه.
قال: وإن لم أفعل فماذا يكون يا أعرابي؟! قال: أقسم بالله لأمضينه.
قال: فإن مضيت يكون ماذا يا أعرابي قال: والله عن حالي لتسألنه ثم تكون المسألات عنه والواقف المسئول بينهنه إما إلى نار وإما جنه.
قال: فبكى عمر حتى أخضلت لحيته بدموعه، ثم قال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم، لا لشعره والله ما أملك قميصا غيره!
وعن سلمان الفارسي أن عمر قال له: أملك أنا أم خليفة؟ فقال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه فأنت ملك غير خليفة، فبكى عمر. وقال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله ما أدري أخليفة أنا أم ملك؟ فإن كنت ملكاً فهذا أمر عظيم، فقال قائل: يا أمير المؤمنين إن بينهما فرقاً، قال: ما هو؟ قال: خليفة لا يأخذ إلا حقاً ولا يضعه إلا في حق، وأنت بحمد الله كذلك، والملك يعسف الناس، فيأخذ من هذا ويعطي هذا، فسكت عمر.
وقال سيدنا عمر رضي الله عنه: إن هذا الأمر لا يصلح إلا بالشدة التي لا جبرية فيها، وباللين الذي لا وهن فيه.
وأخرج عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن عمر حج سنة ثلاث وعشرين فأنفق في حجته ستة عشر ديناراً، فقال لابنه: "يا عبد الله، أسرفنا في هذا المال".