أشارت الكثير من الدراسات إلى أن الحرمان ومعايشة خبرات الحرب تترك آثارًا نفسية على الأطفال لا تزول بانتهاء الحرب، بل تظلُّ كامنة وتتراكم لتفرز كثيرًا ردود الأطفال غير السوية. وربما تتضح لنا القيمة التربوية للانتماء لدى الأطفال، وهو ما أتى في دراسة أعدَّها دكتور محمد العربي محمد إسماعيل بكلية التربية جامعة الزقازيق -عن الانتماء الوطني وتقدير الذات لدى أطفال الأسرى والشهداء في مرحلة الروضة- إذ أثبت أن هناك علاقة موجبة بين الانتماء الوطني وتقدير الذات عند أطفال الروضة من الذكور والإناث، وأوصى الباحث بمساعدة زوجات الأسرى في رعايتهم لأبنائهم، وخصوصًا الذكور منهم، فقد يغيب عن ذهن كثير من الأسر معرفة أي أساليب التنشئة يُعتبر مناسبًا لتحقيق النمو المتكامل لأطفالهم؛ إذ يمكن أن تختار هذه الأسر بعض الأساليب التي تأتي بنتيجة عكسية تمامًا.
وأكثر من هذا فقد لا تدرك هذه الأسر أهمية معاملاتها واهتماماتها التربوية في تشكيل شخصية الأطفال، وهذا يتطلب زيادة وعي الأسر باتجاهات المجتمع وحضارته وتاريخه، أي بكل مكونات ثقافته؛ لأن بعض الأسر قد لا تعرف المحتوى الذي يمكن أن يقدَّم للأطفال لغرس حاجة الانتماء الوطني، كما أوصى الباحث بالعمل على التعاون بين المؤسسات التربوية الأخرى، مثل الروضة أو المدرسة والبيت في عملية التنشئة الاجتماعية السياسية وبناء اجتماعي قوي يمكن أن يساعد على بناء تقدير ذات إيجابي لدى الأبناء، وأن تعمل وسائل الإعلام على التعاون بين هذه الوسائل والبيت؛ نظرًا لاختلاف محتوى البرامج التي قد تتعارض مع أسلوب الأسر في تنشئة أطفالها، فقد تؤكد الأسرة على قيمة معينة، ثم تأتي برامج التلفزيون مثلاً وتهدمها لما لها من تأثير على المشاهد.
وأخيرًا أوصى الباحث بالإكثار من الأنشطة الترفيهية، والرياضية، والاجتماعية الهادفة والموجهة والجامعة لكل الأسر، وعلى وجه الخصوص أسر الشهداء أو الأسرى في تكامل مع علاقات الأسوياء، أو العائدين من الحرب.
الانتماء والصحة النفسية:
بينما وجد "جون نيل" في دراسته أن الأطفال الذين فقدوا أسرهم من جرَّاء الحروب يتصفون بعدم الميل إلى الصداقة، وعدم الرغبة في الانتماء إلى الجماعة. ويخلص "محمد عيد عبد العزيز" في دراسته عن "الولاء وسيكولوجية الشخصية" إلى وجود علاقة إيجابية بين الولاء للوطن والصحة النفسية للفرد، حيث إن الشخص الذي يتصف بالاضطراب النفسي غالبًا ما يكون ولاؤه ضعيفًا نحو وطنه.
وأكَّدت "نجلاء عبد الحميد" في دراستها للانتماء الاجتماعي للشخصية المصرية أن الولاء للموطن مرهون بالإشباعات المادية والمعنوية لأفراده، وأنها الأطر التي يستقي منها في التنشئة الاجتماعية بما فيها من لغة، وفكرة، وفن (الثقافة). مما لا شك فيه أن مرحلة الطفولة تُعَدُّ من أهم المراحل وأكثرها تأثيرًا في حياة الفرد المستقبلية؛ إذ يتوقف عليها تحديد المعالم الرئيسية لشخصيته من خلال ما يكتسبه من خبرات وقيم واتجاهات.
ومن المتفق عليه بين المشتغلين بعلم النفس أن الأسرة تلعب دورًا بالغ الأهمية في إعداد الفرد وتأهيله للقيام بأدواره ووظائفه داخل النسق الاجتماعي، حيث تمثِّل الأسرة أولى المؤسسات الاجتماعية التي تحتضن الطفل منذ اللحظات الأولى لخروجه إلى الحياة وخلال كافة مراحله العمرية التالية.
التطبيع الاجتماعي رقم "1"
يرى علماء النفس أن الأسرة تقوم بمجموعة من الوظائف الأساسية، مثل الوظيفة النفسية كالحب والشعور والانتماء، والوظيفة الاقتصادية، ثم وظيفة التطبيع الاجتماعي، إلا أن وظيفة الأسرة التربوية، وخاصة فيما يتعلق بعمليات التطبيع الاجتماعي والتنشئة الاجتماعية، ومنح الشعور بالحب والانتماء لا تزال هي الوظيفة الأساسية التي لا يمكن لأي مؤسسة أخرى للقيام بها، خاصة بالنسبة للسنوات الأولى في عمر الطفولة، والتي لا تتجاوز فيها دنيا الطفل حدود أسرته، والتي هي من وجهة نظر المتخصصين تُعَدُّ الفترة الخصبة الأساسية في نقل قيم المجتمع إلى الطفل، وتأصيل العمليات الخاصة بالتطبيع الاجتماعي والتي يصبح الفرد عن طريقها مستدمجًا للأدوار والاتجاهات والقيم والمهارات التي تشكل شخصيته.
ومن أهم عمليات التطبيع الاجتماعي والتي تقوم بها الأسرة تأصيل الانتماء، والتي تعني أن الفرد من طفولته المبكرة يحيا في ظلِّ مجموعة من القيم والأفكار والمبادئ التي تترسَّب في وجدانه، حتى تتحول لديه إلى وجود غير محسوس، ومن خلال ذلك يصبح الفرد منتميًا إلى المكان، وإلى الأسرة، وإلى الجماعة، وإلى المجتمع والوطن.
فقد الانتماء.. خطر:
وتعتبر الحاجة للانتماء من الحاجات الهامة التي تُشعِر الفرد بأنه جزء من جماعة معينة، سواء كانت هذه الجماعة (الأسرة - الرفاق - جماعة مهنية)، وأنه جزء من وطن معين، ويُولَد هذا الشعور الاعتزاز والفخر بانتماء الفرد لهذه الجماعة، ويُعَدُّ إشباع حاجات طفل ما قبل المدرسة وتقبله لذاته وشعوره بالرضا والارتياح أولى مؤشرات انتمائه للجماعة.
فالحاجة للانتماء من أهم الحاجات التي يجب أن تحرص الأسرة على إشباعها لدى الطفل لما يترتب عليها من سلوكيات مرغوبة يجب أن يسلكها الطفل منذ صغره وحتى بقية مراحل عمره، أما فقدان الانتماء فيعتبر من أخطر ما يهدِّد حياة أي مجتمع، وينشر الأنانية والسلبية، وفي المقابل يؤدي الانتماء إلى التعاون مع الغير، والوفاء للوطن والولاء له. ويرتبط بالانتماء بعض القيم، مثل: العطاء، والتضحية، والتعاون مع الآخرين، وهذا يلقي على الأسرة مسؤولية كبرى نحو التركيز على إظهار مواقف تاريخية تبيِّن بطولة قادة والزعماء في الدفاع عنه. وفي تقدير هؤلاء الأطفال لأنفسهم، وبشكل عام فإن للعلاقات الأسرية أثرًا إيجابيًّا في تكوين الشعور بالأمن وتطور مفهوم الذات الإيجابي عند الطفل.
في الطوارئ..
وحيث إن نسق الأسرة - مثله في ذلك - مثل سائر الأنساق الأخرى يكون رهنًا للظروف والمتغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فإنه بالتالي يكون عرضة للتأثر بعمليات التغير والأحداث التي تطرأ على المجتمع، مثل الحروب، فنجد أن تعرُّض الأسرة لأحداث طارئة وصدمية، يجعلها غير قادرة - لفترة - على القيام بدورها وتقديم الرعاية اللازمة لأطفالها، ومن هذه الأحداث، فقدان الأب أو غيابه عن الأسرة، وهو ما قد يؤدي إلى وضع اجتماعي ونفسي وتربوي له بالغ الأثر على الأطفال، وهو ما يضيف إلى المجتمع ومؤسساته مسؤوليات جديدة بصدد المحافظة عليهم، فنجد أنه يجب إنشاء جهات حكومية وأهلية تهتم بشؤون الأسرى والمفقودين بالدولة.
حيث إن مفهوم الطفل عن ذاته يكتسبه في مراحل النمو الأولى، حيث تلعب الانفعالات مع الأشخاص المهمين في حياته خصوصًا والديه، دورًا كبيرًا في ذلك ويتأثر مفهوم الذات إلى حدٍّ كبير بالعلاقات الأسرية القائمة بين الطفل ووالديه، فالفروق في الأجواء الأسرية وطرق التنشئة تحدث فروقًا بين الأطفال في مكونات الشخصية، وفي تقدير هؤلاء الأطفال لأنفسهم، وبشكل عام فإن للعلاقات الأسرية أثرًا إيجابيًّا في تكوين الشعور بالأمن، وتطور مفهوم الذات الإيجابي عند الطفل