الواقع يؤكد على أننا نعيش (أزمة تربوية) حادة في مجتمعاتنا العربية -ومنها مجتمعنا السعودي-، والمخيف أن هذه الأزمة تتفاقم دون وجود ما يدل على أننا نأخذ المسألة بالجدية الكافية، فلسنا نرى أي جهود ذات طبيعة تكاملية في مشهدنا التربوي الذي يحتم علينا أن نقوم بدراسات تشخيصية منهجية دقيقة وشاملة لواقعنا التربوي بشكل شفاف في ضوء التحديات الكبار التي نعيشها، لنخرج ب(كشف تربوي) يجلي لنا أين نقف وأين يجب أن نتجه وما هي الفجوة وكيف نردم تلك الفجوة وكم نحتاج من الموارد البشرية والمالية والمعلوماتية والتقنية؟ وليكن ذلك (الكشف) كل ثلاث سنوات مثلاً، ولتقم به مؤسسة علمية أو بحثية، وليدعم هذا المشروع بما يكفي من الباحثين الجادين والموارد المالية والمعلوماتية اللازمة، ولنعكس نتائجه في أنماطنا التربوية ومناهجنا الدراسية وبرامجنا الإعلامية.
وهنالك مؤشرات تجعلنا نقرر بأننا قد لا نكتفي بعدم الوعي أو بعدم الاعتراف بتلك الأزمة الخطيرة، بل نتجاوز ذلك إلى حد الغفلة أو التغافل عن حقيقة أن (التربية) هي قدرنا المحتوم الذي لا يسعنا أن ننفك عنه كأفراد، ولا أن نتخلّق كمجتمع متصف بالإيمان والعقلانية والإرادة الذكية والأخلاق والتسامح من غير الولوج في رحمه، فنحن جميعاً نربى ونربي، ننجح تارة في ممارساتنا التربوية ونخفق أخرى، نخطئ ونصيب، ونحن في ذلك كله نتحمل عنت التربية ومشقتها، ونقاسي آلامها وصعوباتها، مجتازين لا محالة سهولها وجبالها... ومن الخطأ الاعتقاد بأن التفوق التربوي هو نتيجة مضمونة نقطفها بمجرد ممارستنا لأي نمط تربوي، فالتفوق يكمن في الاصطباغ بنوع من الذكاء في تلك الممارسة في إطارنا الثقافي الحضاري.
والحقيقة أن ثمة ما يؤكد على ضرورة تبني الدعوة إلى جعل تربيتنا أكثر ذكاء، فمن ذلك ظهور اتجاهات ومفردات سلوكية غريبة في بيئتنا التربوية، مع قدر من الهزال الفكري والأخلاقي واللغوي والجمالي لدى شرائح عريضة من أبنائنا وبناتنا؛ فنحن نشاهد ونسمع عن ممارسات سلوكية رديئة في المدارس والأماكن العامة وغيرها؛ في وقت تتنوع وتزداد التعقيدات في (المعادلة التربوية)، فشمس الفضائيات الإعلامية -مثلاً- لا تكاد تسطع على أرضنا من غير جديد تقذفه في أدمغتنا وأفئدتنا في كل لحظة زمنية نعيشها!! وهذا (الجديد) -بجانب (القديم) والمتراكم- لابد أن ينال حظه وافراً غير منقوص في التأثير على عملية التربية سلباً وإيجاباً؛ والتأثير حاصل على (من ُيربي) و(من يتربى)... فمشاهدة الطفل لمباراة واحدة قد تكسبه نمطاً جديداً في التفكير أو سلوكاً جديداً، قد يظهر لنا وقد يبقى مستتراً عنا، فمثلاً قد يسلط المخرج الكاميرا على أحد المشجعين الذين لونوا وجوههم بأصباغ الدنيا، لتفاجأ بأنك مطالب في اليوم التالي بإحضار (صبغة) مشابهة لأبنك أو (قلم ليزر)، وقد تتخلق لدى أطفالنا طريقة معوجة في التفكير أو مفردات قيمية رديئة حتى ولو لم يطلب منك الصبغة أو القلم!
وبخصوص التربية الذكية التي ننشدها، فإنه يمكن القول بأن تلك التربية يمكن أن تتأسس على قاعدة فكرية تبدأ بالتعرف على أسرار (التربية الفعالة) وتمر بتعرية الخرافات التي تحيط في عملية التربية في عالمنا العربي، في بيوتنا ومدارسنا ومساجدنا وإعلامنا، حيث يتيح ذلك للمربين مدخلاً ذكياً وعملياً في ذات الوقت، يستطيعون من خلاله أن يحققوا أهدافهم التربوية الطموحة بكل كفاءة واقتدار، حيث تعد أسرار التربية بمثابة (أسنان المفتاح التربوي) الذي يلج في عقل التربية وروحها وجسدها، في حين يمكننا تشبيه تجنبنا للخرافات التربوية ببرامج الوقاية والتطعيم ضد الفيروسات والميكروبات والأمراض، وتنتهي بوضع برامج عملية مربوطة بقيم وإرشادات تربوية تضمن تحقيق الأهداف من جهة وعدم الخروج عن (أخلاقيات التربية) من جهة ثانية.
وتمتاز أسرار التربية بقابليتها للضغط في عدد قليل من المبادئ والقواعد والإرشادات والنصائح والتطبيقات التربوية، مما يجعلها سهلة لشرائح المربين باختلاف أوضاعهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والنفسية. وحتى لا يبقى حديثنا عن تلك الأسرار وأهميتها نظرياً، مما يجعل البعض غير مقتنع ولا مكترث بما أقول، يتوجب علي أن أورد شيئاً من أسرار التربية الفعالة.
فمن الأسرار التربوية ما يمكننا تسميته ب(البرمجة التربوية)، ولا نقصد بذلك الدعوة إلى (البرمجة الثقافية) أو (البرمجة الفكرية) التي تؤطر تفكير الإنسان وتعمل على استنساخه وسلبه تميزه واغتيال تفرده داخل إطارنا الثقافي، كلا، فهذا أمر مرفوض ونواتجه وخيمة؛ حيث يسهم بشكل كبير في إضعاف (الذكاءات المتنوعة) في المجتمع كما قد يولد نفوراً أو مشاكسة مضرة... إذن فنحن لا نذهب إلى شيء من هذا وإنما نروم البرمجة التربوية، والتي تعني -بكل بساطة- أن يكون المربي أياً كان ذا نفس (طويل) و(حازم) في غرس المكون التربوي الجيد في عقل المتربي ووجدانه، سواء أكان ذلك اتجاهاً أو قيماً أو سلوكاً، فلو تفحصنا أداءنا التربوي في بيوتنا ومدارسنا ومساجدنا، لوجدنا أننا في الغالب نعجز عن استصحاب حزم تربوي يكفي لغرس المكون التربوي المستهدف لدى أبنائنا وطلابنا، فالأب أو الأم في البيت لا يطيقون الصبر وتحمل تكاليف برمجة أطفالهم -مثلاً- على أداء التحية لهم، فالبعض يتطلع لجعل أبنائه يحيونهم ويقبّلونهم بطريقة وأوقات معينة، والسيناريو المتكرر هو حماس مؤقت لدى الأب والأم لأيام عدة، ثم ما يلبثون أن ينسوا أو يتناسوا أو ينشغلوا أو يتشاغلون، والنتيجة هي تبرم من عدم جدوى التربية وعدم قابلية الأطفال لكي يتعلموا سلوكاً حميداً أو مهارة جديدة؟
ويتكرر المشهد ذاته في المدرسة والجامعة، حيث يكثر الأساتذة من لوم الطلبة ورميهم بكل نقيصة تربوية، وما شعر أولئك أن الأولى بالملامة هم الإدارة والطاقم التعليمي، حيث إنهم فشلوا في برمجة طلابهم على النحو الذي ينشدونه، وفي هذا السياق أذكر قصة حقيقية وقعت لي إبان وجودي في بريطانيا، حيث طلبت المدرسة مني أن أحضر مع ابنتي ذات الأربعة أعوام في مرحلة الروضة بشكل يومي لمدة أسبوعين أو ثلاثة، نظراً لعدم تأقلم ابنتي مع المدرسة وكثرة بكائها، سعدت بتلك الفرصة التي تمنحني نافذة أطل برأسي منها على الممارسة التربوية في المدارس البريطانية، وبالفعل بدأت بالدوام الصباحي من التاسعة حتى الثانية عشرة لمدة تقترب من الثلاثة أسابيع، لم تكن معرفتي بأن المعلمة في الفصل تحمل شهادة الماجستير هي المفاجأة الوحيدة أو الكبيرة، بل كانت قدرتها الفائقة على برمجة طلابها؛
كانت محمّلة بكميات هائلة من الصبر ووقود لا ينفد من طول النفس، حيث تشرف على دخول الطلاب إلى الفصل، وكانت تأمر كل واحد منهم أن يضع صندوق الطعام -الفسحة- في مكان محدد وأن يعلق الجاكيت في موضعه، مع ملاحظة أن كل طالب منهم قد خصص له مشجب خاص وقد دون عليه الطالب اسمه بخط يده، ثم تأمرهم بالجلوس على الأرض لتجلس هي على الكرسي أمامهم وتبدأ بعملية تحضيرهم، وفي التحضير ذاته تواصل عملية البرمجة الذكية للسلوك حيث تقول لكل طالب -وهي تحضر- (صباح الخير يا....)، ليرد كل منهم (صباح الخير مس...).
أسبوع واحد أو يزيد قليلاً كان كافياً لكي تنجح تلك المعلمة الحازمة في برمجتها التربوية!! ونحن نرى في الكثير من مدارسنا وجامعاتنا وشوارعنا فوضوية وممارسات سلوكية لا تطاق... فهل نتهرب من دفع تكلفة البرمجة التربوية لمدة أسبوع أو شهر، ليكتب علينا دفع تكاليف الإخفاق التربوي والهزال التعليمي الدهر كله... لماذا تنجح جامعة عريقة كجامعة الملك فهد للبترول والمعادن في برمجة طلابها على الجدية والمثابرة واحترام الوقت وحسن استغلاله ومن الساعة الأولى لدخولهم إلى باحة الجامعة؛ في حين تخفق أكثر جامعاتنا وكلياتنا ومعاهدنا ومدارسنا في تحقيق ذلك حتى اللحظة الأخيرة من خروج الطلاب من حدود جدرانها؟!
لنفعل ما نشاء؛ ولكن لنعلم أن: المجتمعات لا تتقدم بثرواتها المالية وإنما بثرواتها البشرية... فالبشر بذكائهم وعَرَقهم هم من يصنع التنمية، وهم من ُتصنع التنمية لهم... فهل نقتحم فضاء التنمية البشرية وندفع كافة تكاليفها -التربوية وغيرها- لكي نعيش كما يجب أن نعيش!