بتـــــاريخ : 2/20/2009 6:50:28 PM
الفــــــــئة
  • طرائف وعجائب
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 924 0


    رسالة الاحياء

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : فتح الله كولن | المصدر : www.qudwa1.com

    كلمات مفتاحية  :
    استراحه القراء رسالة الاحياء

    لم نعرف حتى اليوم أيديولوجية نجحت في جمع البشر في ظلها زمنا طويلاً. بل لم نعرف أيديولوجية اكتشفت كل الضرورات اللازمة التي يتطلبها جمع البشر تحت سقف واحد. ومع الادعاءات الباهرة، لم تستطع الدول الغربية التي هيمنت على قسم واسع من الأرض في التاريخ القريب أن تحقق الأمان والحبور الدائم للعالم، ولا الشعوب الاشتراكية والشيوعية في الشرق، ولا "المحايدون" السواء في الوجود أو العدم، أو بوصف جمال مريج: "رجال الأعراف"!. إن الإخفاق في تحقيق الوعود زعزع أركان الثقة في المترقبين "المستلمين"، وزيادة على ذلك، فإن عجز "الْمَعْطِيّات" عن بلوغ العالمية، وقصورها عن احتضان البشرية كلها، ومخالفتها للطبيعة الإنسانية، قد أوقع الجميع في غثيان انعدام الثقة... بل في الريبة والشك في كل وعد من بعد! فتقف الإنسانية اليوم مع كل نظام يعرض عليها موقف الشك والقلق والاستهزاء.. لأنها باتت تصدق أن الأنظمة التي فرضت عليها حتى اليوم، لم تعمل كما ينبغي، بل عجزت عن العمل! فثم خلل إذن في الأنظمة كلها!. وكان هذا يقتلع شيئا من المحاسن التي غرستها الأنظمة، فلا يبقي في ذاكرة البشر إلا خيالاً بائساً ورؤى خائبة .

    إن نقص قطعة صغيرة في نظام ميكانيكي متكامل، يعطل عمل النظام ويركمه حطاماً. وهذه الإيديولوجيات برزت إلى الميدان بادعاءات رائعة، لكنها كانت عليلة بعلل وبيلة مثل التضاد مع الطبع البشري، والعجز عن ضم الفئات كلها إلى صدرها، والقصور في إنجاز وعودها، والضعف في الاستجابة للحاجات الإنسانية، والأنكى إغفالها قسما من القيم الإنسانية، بل تأجيج بعضها أهواء الحقد والبغض والغيظ بين البشر... ذلك كله قضّ أركان الأيديولوجيات كلها فتخلفتْ خرائبَ فكرية وأنقاضا، أو قُلْ هكذا حَدْسُ المجتمعات وظنُّها. ولذلك الجميع اليوم – إلا زمر قليلة – في تزعزع وخيبة أمل وترقب مريب وبحث عن مخرج خارق للأسباب .

    بناء على ذلك، أمتنا ابتداء، ثم الإنسانية جمعاء، بحاجة ماسة إلى فكر سامق يملأ إراداتنا ضياء وأعيننا نوراً وقلوبنا أملا، ويقِينَا من شر سقطات وانكساريات أخرى. نحن بحاجة شديدة إلى فكر وغاية مأمولة في أقصى الخيال، ليس فيها فراغات عقلية أو منطقية أو حسية، ومحصَّنة ضد نواقص كالتي ذكرناها آنفاً، وصالحة للتحقيق والتطبيق بأقصى درجة تسمح بها الظروف. إننا نشهد مرحلة يتغير فيها مركز العوالم الفكرية في الأرض ، وتزحف العلاقات الأساسية والدائمية من عوالم الأشخاص إلى عوالم الفكر، وتضطر البشر بعد التجارب الفاشلة إلى الحساسية في التمحيص. فان توفقنا في استثمار هذا الوضع العام باستراتيجيات متماسكة، وتنظيم التوتر (الانشداد) الميتافيزيقي في المجتمع، والنشاط الفعال المتراكم فيه منذ عصور، حول فكر واحد، فسوف تجتمع الإنسانية – باعتبار الكثرة العظمى – ليحوموا حول هذا المركز الجاذب، إن لم يكن من يومه، ففي القابل القريب .

    لكن ينبغي بادئ ذي بدء، تعيين الغاية المأمولة في أقصى الخيال. تعرضت أمم عديدة في الماضي، كما تتعرض في الحاضر، إلى هزات شديدة لتقاعسها في ربط سياساتها المعلومة والموجودة فعلاً، بفكر سليم، وقصر باعِها في النفوذ إلى قلوب البشر. صحيح أن هذه الحال أسطع ظهوراً في البلدان التي لم تستقر فيها الحضارة والديمقراطية استقراراً كاملاً. لكن الأمم التي ادعت لنفسها أستاذية العالم في الحضارة والديمقراطية، ليست أحسن حالاً في هذا الأمر. فمهما كان بهرج ظواهرها، ومهما زعمت دعاياتها، فإن عديداً من الدول التي تبدو عظيمة بترفها وبذخها وحشمتها، إنما تلهي في الواقع حشود الغافلين بالخدع الوقتية لحركتها في فلك البراغماتية، وتصمت كالبكم إذ تدعو الحاجة للحديث عن الغد، حيثما يستوجب الرجاء في مستقبل مأمول مغبوط أو حياة راقية... والأنكأ للجرح أنها تتمادى في تجويع القلب والروح والوجدان .

    فعلينا الآن – مع وضع هذه السلبيات نصب أعيننا – أن نتخذ قيمنا الذاتية أساسا لإنتاج سياسات ومشاريع مستقبلية فوق ما هم عليه، تتعقب غاية سامية توصل إلى أقصى ما في الخيال والمنى، حتى يتحقق الاستقرار في سياساتنا... وإذ يتحقق الاستقرار في السياسات، نتمكن من استخدام هاتين القوتين في الاتجاه عينه، من غير السماح للصِّدام بينهما. ونقول من غير التصادم بينهما، لعلمنا بأن نشاطاً أو حركة معينة، ومهما تمثلت بمشاعر مخلصة، قد لا تكون بنّاءة دائماً. إن النية جديرة بالتقدير باعتبارها بعداً معنويا في الأعمال الصائبة. لكن لا تحمل المعنى نفسه ألبتة إذا كانت وصفاً من أوصاف العمل الخاطئ. إن حركة من الحركات قد تكون بنّاءة أو هدّامة حسب أنماط عروضها. وإذ يفيد العقل والمنطق والحس قيمة في أي مخطط أو مشروع، من المهم جداً وجود تمثيل سليم ومتين له، إلى جانب انعدام الفراغات الحسية. وأحيانا، قد تبيد الأعمال بعضها بعضاً بـ "التعارض" و"التساقط" وإن كان كل عمل من هذه الأعمال خيراً وصالحاً لوحده وبذاته. عندما يحاول النمل أن ينقل مادة إلى خليته، ويتشوش بموجات الحس المؤقت أو باختلاف الأهداف في برنامجها الانسياقي المشترك، يسحب بعضها المادة إلى جهة وبعضها إلى جهة أخرى... فيبددون طاقتهم كلها ثم لا يتقدمون إلى الهدف. كذلك المجتمعات التي لا رسالة لها ولا غاية مأمولة بعيدة المرام، أو إن وُجِدتا، ولم تمتلك معهما جاهزية ذهنية تناسبهما، تجدها تتحرك باستمرار، لكنها لا تقطع شوطا، لأن قطع الأشواط يتطلب بدايةً تعيين مقصود رفيع يوقره الوجدان ويُرغّب فيه الانسياق الذاتي في نشوة كنشوة العبادة، ثم تفعيل منظومة بريئة من العيوب حسب معطيات الظروف والبيئة العامة، ثم توجيه الطاقات في الحلقات المستقلة عن بعضها إلى نقطة واحدة معينة، ويعني تطويع التراكم العلمي والتجريبي والطاقة المنغلقة، لأمر تلك الغاية المأمولة البعيدة المرام .

    لقد تكاثفت المساعي الفردية كلها إبان الكفاح الوطني (حرب الاستقلال) في اتجاه تحقيق تركيا المستقلة. هذا الفكر البسيط والميسور، لكن القويّ استطاع أن يحوز على التوقير من كل الفئات، فيملأ فراغات العقل والمنطق والحس، ويكثف الحركات كلها في نقطة واحدة. فكانت هذه القوة في خط الشروط العادية كافية لتحقيق الهدف المقصود. غير أن كل نصر وظفر يستجلب الفتور والرهو إلى جانب التوفيق والنجاح. لذلك، يصعب صعوبة شديدة الحفاظ على نقاء لون الفكرة من التغير بالانسلاخ، وإدامة وجودها وبحيوتها التامة. ونترك تقويم مدى نجاحنا في هذا الأمر للتاريخ... ونقول أن لا مفر للمجتمع <المعايش للظفر والنصر، من ارتخاء التوتر الميتافيزيقي والوقوع في دوائر الفتور الفاسدة، (1) ما لم يستمر إمداده بغذاء الأسباب الجديدة المحفزة نحو الأفكار والغايات السامية. ولا يصح أن نُرجع الارتخاء في هذا الانشداد والتوتر –حصراً وفي كل وقت وحال– إلى الفتور المصاحب للانتصارات في العادة، أو إلى نشوة النصر، أو إلى الانقباض والجزر المحسوس في طبع الإنسان في تقلبه من حال إلى حال. فأحيانا تولِّد أمورٌ شروخاً واسعة في حياتنا الفكرية، وفي حركتنا وعملنا الحركي، مثل تصرفات الزعماء والمرشدين التي لا توحي بالثقة فتُوجِد التذبذبَ والشك، أو ضعف قدراتهم وأهليتهم، أو ضيق أفق المثقفين أحيانا إلى درجة العجز عن رؤية مواضع أقدامهم، بله إبصارهم لمواقع نقل الأمة إلى ما بعد الآفاق، أو ضعف الإحاطة بواقع حال الأمة ونقص التوصيف، أو تقديم التفكير الميكافيلي والبراغماتي أمام القيم الدينية والملية. ونحن الآن في مواجهة سلسلة من الأزمات المختلفة الناشئة من بيئة مفعمة بهذه المحاذير جميعاً. وحالنا يوحي بإمكان انفلات الذات وإرسالها، والوقوع في تبعثر وتشتت يؤدي بنا إلى الانحلال والذوبان. ولا شك أن هذا يثير شهية العدو، ويخذل حماس الصديق. بل المهولُ هو احتمال أن نُصرَع ونسقط – حفظنا الله تعالى – إذا تماهلنا في سد الفراغات العقلية والمنطقية والحسية المتوسعة في حياتنا "الملية". وحتى نجنِّب أمتنا من الفظائع والفواجع التي لا مفر منها في حال سقوطنا، فمن الضرورة والحتم أن ننسلخ ونتزحزح تماماً عن التيه في انعدام الهدف، وقابلية "الاستعمار والاستغلال" ونفسية العيش تحت الوصاية، وهي الحالات اللاصقة بدول الصنف الثالث... فنتشبث بالسعي مستعينين بالله تعالى، ونستهدي التوفيق الإلهي في الوحدة "الملية" والتوافق "الملي"، ثم نركز على صيرورتنا الذاتية ونتعقب آمالنا وغاياتنا السامية .

    ومن الظاهر عيانا وبيانا، أننا لن نتغلب بمشاريع ذات قدرات معتادة على كل هذه السلبيات، في مرحلة عاصفة تواجهنا فيها مهاوٍ سحيقة متشابكة، وجسور منهدة وطرق منقطعة، وبأمة متعبة بمحن متنوعة لم نشهدها في تأريخنا إلا قليلا. إن مثل هذه الأحوال غير المعتادة، تستدعي همماً وحمية تتجاوز الهمة والحمية الإنسانية، وطاقة تعلو فوق ما هو معتاد. وقد تكون هذه الأحوال المدلهمة أحيانا ميلاداً تاريخيا للأمم، بمخططاتها، ومشاريعها، واستراتيجياتها، وعقولها الممتازة التي تنتج هذه المطلوبات، وممثليها الأبطال الذين عَفّوا عن أن يحيوا أعمارهم، فنذروها لإحياء غيرهم .

    ولذلك، نؤمن –ونحن في هذا الوقت على رجاء أن نكون أمة كبيرة- بضرورة منهج ومشروع بعقلية محترفة ومتخصصة، بل قبل ذلك، بضرورة إعداد أجيال تنشدّ إلى فكر يدعو أمتنا إلى العلياء. إنَّ تحقق هذا الفكر بدرجة معينة، وإنْ كان في دائرة صغيرة، وظهورَ نماذجه في آلاف الأنفس الذين تركوا بيوتهم ووطنهم كأمواج هجرة إلى أرجاء الأرض المختلفة، بروحية الكفاح الوطني (حرب الاستقلال)، وسعيهم في زرع فسائل الروح "الملية" في كل مكان، ووضعهم اللبنات الأولى "لثغور" تركيا المستقبل الكبيرة في جهات الأرض المختلفة، وعرضهم لروح عالمهم الذاتي ومعناه حيثما حلّوا، وكدّهم من أجل إبراز اعتبار أمتنا الموروث من أعماق التاريخ لتملأ مقعدها الشاغر اللائق بها في التوازان الدولي، ونجاحهم في كل ذلك بقدر معين، هي أمثلة شاخصة ومهمة، تُرينا ما يمكن أن تفعله الأجيال المأمولة التي تهب قلبها لفكر سامٍ .

    وإن هذه الكوادر "المحتسبة" التي لا تبالي بالجوع والعطش، لكنها تتدرع دوما بالإيمان والأمل والعزم، وكأنهم المعنيون بوصف محمد عاكف: "مستعينون بالله، متشبثون بالسعي، مشدودون إلى الظفر"، هؤلاء حلّوا بحملة واحدة، وبنفخة واحدة، معضلات تعجز دول كبيرة أن تحلها بأنشطة "لوبياتها" وصرفها الملايين على إعلاناتها. وينبغي أن لا يستهان بهذا "التكوين" الباهر، ولا يعلل بسلسلة الصُدَف، ولا يربط بمعزة الدول المهاجر إليها. بل السر في هذه الحركة الرائعة هو توجه القلوب المخلصة بوجهها إلى الله تعالى، ومَنّ الله تعالى بزيادة الإحسان على هذه الأمة التي تكتسي المعزة من بطون التاريخ. نعم، يناط النجاح في هذا العمل –كما في كل نجاح– بالهمة والحمية من الصدور الخافقة المخلصة، وبالوفاء من الأمة، وبالتوفيق من الله تعالى. إن الأبناء المضحين اللائقين لهذه الأمة الوفية، يهرعون أفواجا باسم وطن المستقبل الكبير إلى الغربة والحسرة والحرمان، وفي أيديهم مشاعل العلم والعرفان، كالذين يتحدون اليأس والعجز في أشد محن التاريخ، وكالحملات الباهرة المتدفقة في انبجاس فجائي، والمنبعثة بعد النثر بجلوات الغنى والوجود رغماً عن أنف الفقر والعدم، وكالمتقدمين إلى الموت في سرور وضحك، على وقع أناشيد الجيش الملية، رغما عن أنف التضييق والافتراء والاتهام مثلما يحصل اليوم. هؤلاء يوفون منذ سنوات من غير توان أو فتور، برسالة مهمة لحساب أمتنا وشعبنا وبلدنا، ونبع قوتهم التي لا تنفد هو إيمانهم، ووقود مشاعل عشقهم وحماسهم الذي لا يخمد هو فكرهم "الملي ".

    إن الذين يجهلون أهمية هاتين الحركيتين الحيويتين، ولا يعقلون القدرة التي يوجدها الإيمان والفكر في الإنسان فيتساءلون في شك ممزوج بالحقد والبغض أحيانا، وفي رفض غاضب متشرب بالهذيان أحيانا: "كيف يحصل هذا كله؟ ما مصلحتهم في هذا؟" فيفضحون عَدَمَ الغاية المأمولة عندهم .

    ومن المسلّم به، أن الفكر السامي نشيد يحرك الأجيال المأمولة، و "مولِّد طاقة" (داينمو) يشحن طاقتهم الدائمة، ومنبع فوار يمد عشقهم وحماسهم، وطفح مشاعر يرفع إلى السماء نداء مصيرهم. وبفضل هذا الفكر، تصل المساعي المتوسعة باطراد حتى التحول إلى حركة مشتركة، إلى جذور ومستويات مختلفة، وبطبع الحال إلى نسق مختلف، فيكون حتما عليها أن تجد مجرى لتيارها حتى إن اضطرت إلى اجتياح القمم، لمواصلة المسيرة .

    ففي عصورِ حيرةِ الإنسانية في الظلمات، كان أهم مصادر القوة لتلك الثلة من المجاهدين الأوائل المنبثقة من صدر الصحراء هو أيمانهم وغايتهم المأمولة في تفريغ إلهامات أيمانهم الفوارة في قلوبهم أبدا إلى صدور الآخرين، فبدلوا مصير الدنيا من النحس إلى السعد بحملة واحدة، وصاروا صوت الأمل ونَفَسه في ثلاث قارات بنفخة واحدة. وكانت "الحركية" عينها وراء الأمل العثماني الكبير، فهي التي استنهضت عشيرة من هضاب آسيا، ودفعتها للسير إلى الأناضول، لتقيم دولة عظمى... وأيضا هي التي كانت في عقول أبطال الكفاح الوطني (حرب الاستقلال). وكذلك جموع الهند الذين لم يبدُ على سيماهم أمارات الحياة في أواسط القرن العشرين، فحركهم إلى الحرية والاستقلال حماس عظيم كان أساس قوته إيمان ذلك الشعب وأمله، وفكرة أن يحيوا ويبقوا بذاتهم ومقوماتهم .

    لكن ينبغي أن تكون الغاية المأمولة في أقصى الخيال، التي تلهب الحماس في صدور الناس وتدفعهم إلى التحرك، غاية مأمولة بضوابط معينة، وأن ترتبط بنظام معين. فإن كنتَ مهندساً، ألا تُعِدُّ العدّة قبل البدء بإنشاء صرح، فتتفحص متانة عناصره وسلامتها، وانسجام آحادها بينها ومشاركتها في جماله ومظهره؟ وهل يتحقق الكمال من غير توافر التوافق والمواءمة والانسجام في الأجزاء كلها؟ إنّ الهمم والحملات الفردية، إنْ لم تنضبط بالحركة المشتركة ولم تنظم تنظيماً حسنا، ستؤدي إلى تصادم بين الأفراد لا محالة... فيختل النظام، وتنهض كل حملة في عكس اتجاه حركة أخرى، وتُنقص كل عملية من قيمة الناتج حتى يقرب من الصفر، كما في حاصل الضرب لكسور الأرقام ببعضها في الحساب. وكما أشرنا قبلاً، ينبغي أن لا تُطفأ جذوة طاقةٍ فردية ألبتة، باحتساب ضرر قد تسببه. بل على العكس، تجب العناية الرفيعة حتى لا تهدر ذرة واحدة من تلك الطاقة، وتوجَّه إلى مجرى الغاية المأمولة المعينة المعلومة، ويزاح خُلُق المصادمة في النفوس ويقر عقل التوافق بدلاً عنه، بل الأحسن أن يُطَبّع كل إنسان بهذا الطبع .

    وقد لا نغادر الصواب إن قلنا إن الأديان كلها جاءت لتثبيت هذا الفهم خاصة، ضمن أبعاد تبليغاتها الشاسعة. فقد فَرض كل دين ضوابطَ وأنظمة على القدرات الفردية، وصار "حركية" مهمة في مسيرة القوة الموجودة المنشدّة إلى حضارة جديدة وعمران جديد. فبإرشاد الدين، يوازن كل فرد حريته وفعالياته الشخصية، مع حركة المجتمع وفعالياته. فيتصرف حراً موفياً إرادته حقها من جهة، ومحافظاً على تكامل الحركة مع الآخرين من جهة أخرى، فينجح في تحقيق الأمرين معاً، كالنجم التابع في موقعه، يدور في فلكه حول مركز الجذب، وحول نفسه في عين الوقت. ولا يغترنّ أحد بحيوية الحركات ونشاطها كلاً على حدة مهما بلغت، إن لم ترتبط أجزاء التكامل والتوازن بمنظومة أقوى وأمتن. فربما لا تسند بعضها بعضاً في خط المقصود العام، بل تولد أحياناً نتائج أشد سوءاً من السكون والجمود. الواقع أن السكون والجمود، كذلك الفوضى في الحركة، كلاهما موت، ولكن على نوعين! والمحتوم على الأمم المتضعضعةِ نفوسُ أفرادها بمثل هذا الموت، أن تُغلَب وتُطرَد خارج ميدان التاريخ .

    ومن دوافع الميل إلى التحرك الفردي في الإنسان: الأنانية، وثقة كل إنسان بنفسه وقصور فهمه لحدود قدرته، وتشوش حدسه في نداء العناية الجهوري الصوت لروح التوحد والتجمع، وللفعاليات المشتركة، وللوفاق والاتفاق. كذلك، قد تقدِّم الشهرةُ والرفعة والطموحاتُ الشخصية والنوازع الأخرى الملاحظاتِ الفرديةَ إلى الصف الأمامي. وقد يظهر بمثل هذه الملاحظات منحوسون نسوا مقاصدهم وبيئتهم تماماً، وخنعوا لمطالب الأكل والشرب والنوم والطرح، بعدما كانوا في صف الخدمة (الدعوة) يهتفون: "في سبيل حب الدعوة!" ويلهثون بأنفاس تتقطع شهيقاً وزفيراً طلباً لرضا الله تعالى! وإن من ينسى المقصود، ويُضيّع الغاية المأمولة في أقصى الخيال، وليكن من يكون، سيسقط في شباك الأنانية، وتستبيح رغباته الجسمانية عشق وشوق الخدمة (الدعوة) فيه، وتنطفئ عنده مشاعر أن يحيى من أجل الآخرين .

    من هذه الزاوية، يمكن القول بان مسألتنا الكبرى التي تعلو فوق كل المسائل هي إلهاب جمرة الرغبة في إحياء الآخرين تارة أخرى في أرواح أفراد الأمة، وتجريد الملحوظات الغريبة المندسة بين "الأمة" وغايتها المأمولة، ومن بعده، تحريك طاقتها التي تبدو خامدة، وحثها على السير نحو فكرها التاريخي من جديد بإيحاءات رمزية مؤطرة تأطيراً جيداً، وبأنشطة وفعاليات منضبطة ومنظمة. ومن الضروري لمثل هذه الحركة تجديد معالم المساحات المشتركة التي تعد محوراً لحركة المجتمع المشتركة بكل شرائحه: بدوا وحضراً، ومثقفين وحرفيين، ومعلمين وطلبة، وخطباء وجماعة... مساحات مشتركة مثل: السعي لجعل أمتنا عنصراً مهما في التوازن الدولي، والعزم والإصرار على حمل الرسالة بلا فتور مهما كانت التضحيات، والتركيز على أولوية الفكر وموازنته مع الأحاسيس الملية، ومن ثم منع ظهور الفجوات العقلية والمنطقية والحسية في هذه الحركة، واحتساب عشق الحقيقة، وشوق العلم والبحث، وسائل للارتفاع العمودي إلى الله تعالى، وإمداد المجتمع بهذا الفهم دائماً .

    وبفضل هذا المقترب، نحن نؤمن بأن الأشخاص الذين يتقاسمون هذه الغاية المأمولة سيحافظون على حماسهم وتوقدهم، وستجرى الفعاليات والأنشطة الجماعية بانسجام ووئام، وسيستفاد من الزمان والإمكانات بأجدى وسيلة بالإيحاءات الرمزية السريعة، وستبقى أبواب التجدد مفتوحة أبدا بسبب السماح للتفكير بالتوسع .

    ولتحقيق هذا كله، لا حاجة إلى تلقين المسلم فهما جديداً للإسلام، ولا إلى إعادة تعليم الإسلام للمسلمين. فلا يزيد العمل المطلوب على تفهيم المسلم الأهمية الحيوية لما يعرفه عن الإسلام فعلاً، وقوة تأثيره، وديمومته الأبدية. لكن المؤلم حقا أن الأقوال في هذه المسألة مختلفة اختلافاً بيناً إلى درجة تلبد العقول... فهوى الرغبات يتقدمُ العقلَ ويقيم في ظل الخيمة الإلهية، والحس يصدر أحكاما من فوق عرش المنطق. ونحن نعرف هذا الانحراف في نفر من محترفي الإنكار والإلحاد والكفار المدمنين على التحرش بالدين، لكن قد يقع فيه أيضا بعض المتشدقين المحرومين من الحياة القلبية والروحية من الذين يحسبون أنفسهم متدينين. هذان الصنفان مختلفان فيما بينهما، لكنهما كفرسي رهان في الأضرار بالأمة والوطن والدين .

    الصنفان كلاهما لا يوقرون روح الدين، وكلاهما لا يتسامحان في التفكير الحر، وكلاهما مختوم على قلبيهما فلا يَعيِان المشاركة والتقاسم. رأس مالهما الأعز هو الفرية والزور والتشويه، وأجود فنونهم هو النميمة واللمز على من لا يحسبونه منهم... لا يهمهم إلامَ يلجؤون ولا على من يستندون، فالمهمّ أن يهضموا ويأكلوا من لا يستسيغون هضمه وطعمه. والحقيقة أن حرصهم وسعيهم في هذه المسألة عظيم وحثيث إلى درجةٍ أظن أنهم لو صرفوه فيما يليق لعمروا العالم كله .

    وبدهي في هذه الأجواء المظلمة الخانقة، وفي ميدان الذين لا يفكرون ولا يبصرون ولا يعلمون، أن تضنى حياة الفكر ويذوي عشق الحقيقة وترتخي وتيرة العلم والبحث... فان لم تكن كذلك، فلن تنمو وتتطور، فإن نمت وتطورت فلن تغادر الأحلام والفانتازيا. وإن حالنا المنكسر المسكين شاهد على ما نقول بألف لسان، وليس بلسان واحد .

    لكن الحال يقتضي في الواقع أن تكون عقلية شعبنا عقلية إعمار وإنشاء... وأن ننجو من متاهة فقر التفكير وغياب العقيدة الفكرية. حاجتنا ماسة اليوم إلى غاية مأمولة سامية بعيدة المرام، هي انبعاثنا "بمتلقيات" حضارتنا الذاتية وبثقافتنا الذاتية. ولا بد لأمتنا أن تصبر على أوجاعٍ وعذابٍ وزمان يجنن العاقل ويدع الحليم حيرانا، من اجل الارتقاء إلى العلياء كصرح سامق يتوطد على أركان القيم التأريخية لأمتنا. إن مراعاة سير تطور الحوادث ضمن طبائعها، تتعلق بسعة المعرفة بهذه الطبيعة. القرآن الكريم يخاطب سيدنا (صلى الله عليه وسلم) فيقول: (لو كان عَرَضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتّبعوك ولكن بَعُدتْ عليهم الشُقّة) (التوبة: 42)، فيُسَرّي عنه (صلى الله عليه وسلم) ويُوبّخ المتخلفين المتهاوين في الطريق .

    وفي الفهم الإسلامي، يُعَدُّ المقصود حاصلاً بنوال الهدف البدهي لكل حركة أو حملة، وهو رضا الله تعالى. فسواء بعد ذلك إن تحققت نتيجة الخدمات المقدمة باسم أمتنا بارتقاء وطننا إلى المكان اللائق في موازنة الدول، أو لم تتحقق. فان المؤمن يسعى لنوال رضاه تعالى في كل خدمة إيمانية وكل فعالية دعوية. فالأهداف الأخرى غير رضا الله إضافية،(2) فتستحيل إلى وسائل أمام الهدف الحقيقي .

    كلمات مفتاحية  :
    استراحه القراء رسالة الاحياء

    تعليقات الزوار ()