بتـــــاريخ : 11/22/2008 9:37:35 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1605 1


    في ضوء القمر

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمد عادل عبد الخالق | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    تعرفت على سلمى في الشركة التي نعمل فيها معاً. لم تكن فاتنة رغم أنوثتها ولم تكن مثيرة رغم نعومتها، ولم يكن فيها ما يشد الانتباه العابر أو يستوقف العيون الجائعة لجسد يضج بالشهوة. كانت تبدو لأول وهلة عادية في كل شيء، في ملبسها، في قوامها، في حركاتها وفي قسماتها. إلا أن ما جذبني إليها تصرفاتها الحكيمة مع الزملاء، وحساسيتها المفرطة التي تحاول إخفاءها بالانهماك في العمل، وحماسها في مساعدة الآخرين، وثقافتها الواسعة التي يجسدها شغف محموم بقراءة الأعمال الأدبية والفكرية القيمة.‏

    قلتُ لها ذات يوم وهي تعيد لي كتاباً استعارته مني:‏

    -سلمى، إني معجب بشخصيتك، أنت بحق فتاة مختلفة.‏

    أجابتني آنذاك وفي عينيها فرح مكبوت:‏

    -أنا فخورة بإعجابك، ولكن من الإنصاف أن أقول: إن كل ما أريده أن لا أكون أنثى فحسب بل إنسانة، أريد أن أكون مواطنة ذات دور، دور لا يختلف عن دورالرجل.‏

    ومع توالي الأيام والشهور توطدت العلاقة بيننا وأيقنت بأنها المرأة الحلم التي أبحث عنها. عندها عزمت على مفاتحتها بمشاعري مدفوعاً بإحساس وطيد بأنها تبادلني نفس المشاعر. وكانت تلك الرحلة مع سلمى إلى مصيف جبلي جميل. كنا آنذاك مجموعة من الزملاء والزميلات وكان ذلك في شهر حزيران المعتدل. نزلنا في فندق، فلقد كان مقرراً أن نقضي ليلة واحدة ثم نعود في اليوم التالي إلى المدينة.‏

    لم أفارقها منذ صولنا إلى المصيف، وعند المساء شجعتُ نفسي وقلتُ لها بصوت خفيض:‏

    -سلمى ما رأيك بنزهة ليلية على سفح ذلك الجبل؟‏

    -لوحدنا، وماذا يقول الآخرون؟‏

    -لا يهم، طالما نحن مقتنعون بذلك.‏

    -وكيف نسير في الظلام؟‏

    -نحن في منتصف الشهر، ستكون ليلة قمراء.‏

    ابتسمت بخجل وقالت لي بصوت متقطع:‏

    -كما تريد.‏

    كانت سعادتي لا توصف، وبعد فترة بدت لي طويلة جداً، تربع القمر بدراً في السماء. كانت سفوح الجبال مضاءة بلون فضي وقد غطتها أشجار الزيتون الفتية ودوالي العنب المستلقية على الأرض بتراخ، وكانت أصوات الجنادب تمنح الجو موسيقى عذبة. انطلقنا سوية في طريق جبلي صغير وقد خيم علينا صمت صاخب. وبعد مسافة قصيرة قلتُ لها مداعباً:‏

    -ها نحن في الجنة معاً.‏

    ضحكت ثم قالت:‏

    -ألا تعرف ما فعلته حواء بآدم؟‏

    قلتُ:‏

    -ما أحلى العودة إلى الأرض، انظري أي سحر رائع يلفنا.‏

    صمتت وكأنها تذوب في السحر الذي يهمي علينا.‏

    قلتُ لها وأنا أفكر ملياً بمصارحتها:‏

    -هل قرأتِ قصة "في ضوء القمر" لجي دي موباسان(1)؟‏

    التفتت إليّ وبسمة حلوة تكحل عينيها، ثم قالت:‏

    -لقد قرأتُ بعض القصص لموباسان، ولكني لم أسمع بهذه القصة، اروها لي فكلي آذان صاغية.‏

    اقتربتُ منها حتى كدت أن ألامس جسدها وبدأتُ السرد:‏

    كان الأب مارينان متعصباً بعض الشيء إلا أن ذلك لم يستطع أن يطمس سمو روحه وحبه للجمال. وكان مغرماً بمعرفة الغرض من خلق كل شيء. كان يقول لنفسه مثلاً: لماذا خلق الله الشمس؟ ويجهد نفسه كي يعرف الهدف من خلقها، كان يريد أن يعرف سر الله في الموجودات ولماذا خلقها. وكان يكره النساء ويعتبر المرأة سبب الخطيئة الأزلية.‏

    قاطعتني معلقة بروح خفيفة:‏

    -إذا كان البحث عن سر الموجودات له، فكره النساء عليه، مسكين، لقد حرم نفسه من الحب ففقد سداد الرأي، ما رأيك؟ هل توافقني؟‏

    أجبتها بتدفق:‏

    -بلا تحفظ.‏

    ثم تابعتُ: ولسوء حظه أو لحسن حظه كانت له ابنة أخت تعيش في كنفه، وكانت في ميعة الصبا، وعندما كانت تداعبه وتتودد له يدفعها بغلظة متخيلاً الشهوة التي تتقد في جسدها المسكون بالشيطان. لقد قرر أن يجعل منها راهبة.‏

    وذات يوم حدث الزلزال: أخبرته خادمته مساء ذلك اليوم وهو يحلق ذقنه أن ابنة أخته تغادر البيت سراً لملاقاة عشيقها، ثار ثورة عارمة، توقف عن الحلاقة، اتهم خادمته بالكذب، إلا أنها أصرت طالبة منه أن يتأكد بنفسه، فلقد غادرت الفتاة البيت منذ قليل إلى المكان المعهود. حطم كرسياً كان بجانبه بضربة واحدة، وبدأ يزرع الغرفة جيئة وذهاباً في سورة غضب محموم. وبعد فترة غادر البيت قاصداً المكان الذي حددته الخادمة. حينما خرج كانت السماء مزينة بالبدر كهذه الليلة تماماً، وكان ضوء القمر قد أحال تلك الليلة الصيفية إلى لوحة طبيعية يعجز عن رسمها كبار الرسامين. سار مسرعاً وسط الحقول، وكانت نسائم عليلة تهب بين الفينة والأخرى على وجهه فتكنس شيئاً فشيئاً من انفعالات الغضب، كما كانت أصوات الحشرات الليلية ونقيق الضفادع من نهر بعيد تضفي على الجو عذوبة تخفف من آلام كرامته الجريحة. وفجأة قفز سؤال عزيز على نفسه: لماذا خلق الله كل هذا الجمال في الوقت الذي نام فيه معظم القرويين؟ وألح عليه السؤال حتى كاد أن ينسى الغرض من خروجه في ذلك الليل الهادئ المنعش.‏

    قالت لي مقاطعة وهي ترمقني بعينين لم ولن أجد أكثر عذوبة منهما:‏

    -أسعفني، هل وجد الجواب؟‏

    قلتُ لها وعيناي تغرقان في عينيها ويدي تحط بهدوء على كتفها:‏

    -سنعطيه الجواب.‏

    قالت وهي تضع رأسها على كتفي:‏

    -نحن؟‏

    أجبتها بصوت متلعثم:‏

    -نعم نحن.‏

    -كيف‏

    تلاشت الكلمات، لم تعد الحروف تسعفني، أنّى لي أن أجيب ومشاعر مجنونة تسكرني، وددتُ لو أحتضنها، أقبلها، أن أطير بها.‏

    توقفنا عن المسير ووقفنا وجهاً لوجه، ورفعتُ يدين مرتعشتين تحتضنان وجهها الذي طالما حلمتُ به، بريئاً كوجه طفل وليد، معطاراً كمساكب ورد جوري.‏

    خيم علينا صمت عاصف، ثم استجمعتُ قوايَ وتابعت: حينما رآنا كان الجواب. لقد خُلق هذا الجمال من أجلنا، من أجل الحب، عندها قفل راجعاً خجلاً مما كان مقبلاً عليه من خطأ قد لا يغفره الله أبداً.‏

    سألت كحمامة وديعة: وماذا كان العاشقان يفعلان؟ قبلتها بكل ما اختزنته من شوق وحنان منذ تعارفنا وأحسست باستجابتها فسكرت. وبعد هنيهة قالت لي: هل تحبني إلى هذا الحد؟‏

    شعرت بحرارة أنفاسها تدغدغ وجهي وأجبتها بقبلة حملت كلمات ذابت في رحيق فمها: أكثر مما تتصورين.‏

    ***‏

    (1) أديب فرنسي يعتبر من أبرز كتاب القصة القصيرة في القرن التاسع عشر.

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()