بتـــــاريخ : 11/22/2008 8:15:46 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 959 0


    كل شيء على مايرام

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : علي عبد الأمير صالح | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    لا شيء يجري هنا. قطعاً لا شيء.‏

    في الثاني من شباط (فبراير)، كان الطقس شديد البرودة، الريح عاتية. ارتدى العمال معاطفهم السود، وتجمعوا في انتظار القفص الحديدي الذي سيهبط بهم إلى القاع. لم يكن الفجر قد انبلج، والنجوم مازالتْ تتألق في السماء.. دخل خمسة منهم في القفص. كان أحدهم يشعر بالتعب والنعاس لأنه ظل يسعل طوال الليل، ولم يغمضْ له جفن.‏

    كانت خليتهم تتكون من خمسة مخلوقات بائسة، مقهورة، شاحبة، هزيلة وذاوية. خمسة عمال يستخرجون الفحم بالجاروف،فيما تقوم خلية أخرى بسحب الفحم ومن ثم يضعونه في عرباتٍ صغيرةٍ تدفع بعدئذٍ في ممرات ضيقة.‏

    في خلال العمل الشاق تكون وجوههم ملطخةً بتراب الفحم، وأجسادهم مكسوةً بطبقةٍ لزجةٍ من القذارة، كانوا يبدون بوجوههم الداكنة السود، ووجناتهم الغائرة، وأفواههم المفتوحة، وألسنتهم الحمر المتدلية جراء التعب والإعياء ـ يبدون وكأنهم خارجون من القبور.‏

    لم يكونوا يتوقفون دقيقةً واحدةً عن العمل. تعوّدوا العمل الشاق. كانت نظرات رئيس العمال تطاردهم طوال الوقت، تحصي شهيقهم وزفيرهم. كانوا يتنفسون الهواء الفاسد والملوّث.‏

    كان رئيس العمال يستكثر عليهم فترة الاستراحة وتناول وجبة الطعام. ينظر إليهم شزراً وهم يفتحون الصرر ويتناولون شرائح الخبز والجبن المملح ويشربون‏

    المقبرة مظلمة يا مليكة. الليل موحش مثل عينيك. والنجوم أيضاً. إذ كان القمر الجميل يغازلها ويهمس ناعساً. يومياً أقبل إلى المقبرة. وفي كل مرة يخيل لي إنك جالسة على العش الندي. ترتدين ثوباً وردياً شفافاً كالماء. جالسة تنتظرين حبيبك، زوجك، بحارك. يومياً، يخيل لي إني أسمع صوتك العذب يحدثني عن جنة العمال.‏

    هناك، في الفردوس الأزرق، هل ثمة عصافير ناعمة مثل نهديك؟ هل يكثر الزهر الطري الرقيق الفوّاح مثل شفتيك؟.. هناك أيضحك الأطفال كالفجر ويملؤون الساحات كالطيور البيض؟ هه، حلوتي، هل تبدلتْ الأرض، الأرض حين ضمكِ رحمُها؟.. وهل ستلد أطفالاً لهم لون عينيكِ وسمرة بشرتك القمحية؟ هل ستصنع الأرض من كفيك ماءً عذباً يتدفق من‏

    القهوة المرة.‏

    فجأة يشعر أحدهم بالدوار والغثيان. يلقي بالجاروف جانباً. الألم يعصر صدره. يتلفت حواليه ويلاحظ زملاؤه المحدودبي الظهور، المتسخي الوجوه. تصعد الغصة إلى حلقومه، تزوغ عيناه، يفقد القدرة على الرؤيا، يشحب وجهه ويزرق، يتصبب العرق من جبينه ويسقط مغشياً عليه. يجيء رئيس العمال. يجس نبضه، ويلمس صدره. ثم يقول ببرود شديد: "خذوه إلى الخارج. حالة اختناق بسيطة. إنها بسبب الهواء الملوث.".‏

    يأخذه زملاؤه إلى الخارج محمولاً على نقالة. يبقون إلى جانبه. وقبل مجيء الطبيب أو سيارة الإسعاف يسلم الروح.‏

    لماذا يدفعونهم نهاراً إلى تلك الكهوف الحالكة الظلمة، ويدفنونهم ليلاً في الغرف القصديرية المهترئة؟‏

    لاشيء يجري هنا. لا شيء. البتة.‏

    الشمس تشرق كل يوم على أوروبا، وكل شيء على مايرام.‏

    هاهو ذا صديقنا الأدريسي، الشاب الضعيف البنية، يرتدي الأطمار الرثة. يجمع القمامة، قمامة الأثرياء.‏

    آه. لاشيء يجري هنا. الأثرياء يثرثرون ويعربدون. تجلجل ضحكاتهم الشيطانية. لاشيء يجري هنا، مطلقاً. الراقصة الحسناء المدمنة على الماريجوانا تتخفف من ثيابها. معذرةً. فالأثرياء ذوو المواهب الرائعة يتمتعون بحياتهم.‏

    كانا في مرسيليا، الفصل شتاء، الضباب يخيم على المدينة. هناك، صادفا الإدريسي، سألاه عن صحته، وعمله فأجاب بعد أن ضحك بمرح على جري عادته:‏

    رحمها ينابيعاً رقراقة مداوية.‏

    إيه، هل تبقين صامتةً، غافيةً، حزينةً، الشعر الناعم كالندى يوشح وجهك ولا يستبين منه غير العينين المليئتين بالوحشة والغربة؟ عيناك، كانا ينام فوقهما، ليلاً، ريش النجمات القزحي.. وبطنك كان يغفو فوقها طائر اللذة. إيه، هل تظلين صامتة، وأظل أنا مطعوناً في سويداء القلب؟‏

    هيا، مليكة، عروسي، شراع قاربي، وجزيرتي، هيا، انهضي. انهض كالفجر الأبيض، أتسمعين صوتي؟ ماذا؟ إذاً، هيا، برفق انهضي، انهضي واستلقي معي على العشب. استلقي على صدري فراشة مبرقشة الأجنحة. استلقي معي، فالندى سينثال فوقنا. ويغطينا بثوبه الشفيف الرائع.‏

    القبر عميق. نعم أعرف ذلك. أعرف مقدار حزنك، ورغبتك بالنهوض.‏

    "إنني أبحث عن عمل. يقولون إن في باريس مصانع كثيرة بحاجة إلى عمال. ربما نكون محظوظين فنعثر على مهنةٍ ما..."، وبعد مضي ستة أشهر، شاهداه في المقهى. التونسي في الحي اللاتيني. كان يتجاذب أطراف الحديث مع صديق له، دون أن ينفك عن فتل شاربه الأيمن. هو لا يزال يتسكع بين مقاهي الحي اللاتيني والأليزيه. لم يعثر على عمل. كان يلتقي كل مساء عاملاً مغربياً أوطالباً تونسياً، يشربان القهوة المرة، يتحدثان عن كل شيء، ثم فجأة تظهر تعابير الجد على وجهه. فيتحدث عن العمل والعمال، عن الأثرياء، رؤوس الأموال، أسهم الشركات، عمال مصانع (ليب) المضربين، عن ضاحية (سورين) حيث يقيم العمال العرب والفرنسيون والأجانب مهرجاناً مسرحياً.‏

    آه، لاشيء يجري هنا.‏

    الإدريسي يجمع القمامة في الفجر، في حين يكون الفرنسيون نائمين في أسرتهم الوثيرة الدافئة.‏

    كل مساء يعود لغرفته وقد أضناه التعب. يرتدي منامته. يدخن. ولما يراوده النعاس يصبح الفراش عشباً، وتختفي الغرفة وتصبح حديقة. يلقاها هناك. يعانقها. وينطرحان على الأرض المكسوة بالحشائش. تتنهد مليكة. يخفض بصره فيرى عنقها الرخامي الطويل. ينصت لأنفاسها السريعة. صدرها يعلو ويهبط. يتصورها طفلةً يتيمةً بائسةً. تتضور جوعاً. تركض في الشوارع والحارات، دامعة العينين، تبحث عن كسرة خبز، تصادف رجلاً عجوزاً بلحيةٍ بيضاء متموجة فيعطيها رغيفاً ويقول لها ناصحاً: "بنيتي، لا تذهبي إلى هناك،‏

    القذائف تنهال كزخ المطر." تذهب مسرعةً.‏

    تختبئ في إحدى الحارات.‏

    آه مليكة، لا تحزني، أرجوك، خذي عروقي، تسلقيها، تسلقيها بهدوء، تسلقي أسمع حفيف ثوبك، أجل، أجل، خطوة، خطوتان. هه؟ زلت قدمك؟ إذن كرري هادئةً واثقةً. تسلقي. ماذا؟ الحارس؟ الحارس نائم في كوخه القصديري. هو نفسه يكرههم. يكره الأثرياء القساة. الحارس أخبرني إنهم أرادوا نبش قبرك. أرادوا اقتلاع عينيك بأظافرهم. ياه، أنت حزينة يامليكة، وربما خائفة أيضاً. ماذا؟؟ نعم.. نعم.. سنهرب الليلة نقتحم الشوارع فجراً. نرفع علمنا. نسير بقبضات مضمومة. ووجوه متوترة.‏

    هيا تسلقي عروقي وانهضي. لقد أخطأنا تماماً. أخطأنا وغادرنا وطننا. وطن الفلاحين الفقراء. غادرنا وطننا مثلما غادر الفجر حبات الندى ولم يتبادلا التحايا والقبلات.‏

    المعتمة الحقيرة، تنزوي في منزل رطب. تلتصق بجدار إسمنتي. تندهش ترى أحرفاً عربية منقوشةً على الجدران. ترى النيران. النيران تندلع في المنازل القريبة. تصعد السلم الخشبي. وفي الشرفة تجد بندقيةً معبأة بالرصاص.‏

    فجأةً تكتشف أنها قد كبرت ويمكنها استعمال البندقية. يشرأب عنقها. تلمح الجنرال يطلق النار على عمال باريس. تسمع هدير العربات التي يجلس فيها زبانية فرساي المنتفخي الأوداج. في الضواحي البعيدة عوائل تحمل أمتعةً وبطانيات وأدوات منزلية، تخوض في المياه الآسنة. يواصل الناس الزحف. ثياب الذل تقطّع أزرارها بحنق. يملأون بنادقهم بالرصاص. يجهزون المدافع. تنطلق القذيفة الأولى، الثانية، الثالثة. يبدأ المعترك الباسل. يسقط الجنرال في مستنقع قذر. تمتلئ أفواه زبانية فرساي بالوحل. يحتظرون وحيدين، يعود الهدوء لخندق (سان سيمور). تظهر ممرضة شابة تحمل بيدها سلة ملأى بالورد الأحمر، لفافات الشاش ومحلول الميكروكروم. يسألها الناس عن هويتها فتقول: "أنا عاملة متخفية بزي ممرضة". تعود العوائل المهاجرة إلى منازلها. تشرع الأبواب والشبابيك. ويرى مليكة مغتبطةً ووجهها يضحك بمرح لا نظير له. يختفي كل شيء. لا طائرات. لا عساكر. لا أثرياء. ويفيق من الحلم. فيرى باريس تغتسل بمطر الفجر.‏

    ماذا هناك؟‏

    آه، لا شيء. الأمور هنا، دائماً على مايرام.‏

    ذات يوم مضت مليكة إلى طبيب الأمراض النسائية واستلقت على سرير الفحص. قال لها الطبيب الشاب بعد أن فحصها جيداً: "الأمور جيدة، قلب‏

    خذي ذراعي، تسلقي عروقها، أو شرايينها أو أعصابها. تسلقي. نعم، نعم، أشم رائحتك. خطوة رائعة. خطوتان. ثلاث. علام تصرخين ياعروسي؟ آه. ماذا؟ دبابة فرنسية؟ ماذا؟ تريد سحق ذراعي؟ دعيهم يفعلون. لتذهب ذراعي إلى جهنم. لكني أريدك. أريد عينيك، زنديك، شعرك، نهديك، وزهر الساقين، أريد صوتك هادراً في طرقات فرنسا. أريد يديك تحملان راية العمال. ماذا أسمع؟ أتبكين يا مليكة؟ تبكين في مدن الضياع والغربة؟‏

    مهاجرون نحن. جئنا نبحث عن الذهب. لكننا خسرنا. خسرنا ذهب حياتنا. ذهب شبابنا. ذهب عرسنا. في الباخرة كنا فرحين مثل طائرين يحلقان في السماء. أول مرة. وحين قلت لك بأنني سأبني لك منزلاً من زهر الحدائق. ضحكتِ ورمتني عيناكِ بنظرة حلوة..‏

    الجنين يعمل بصورة منتظمة، لا تتعبي نفسك كثيراً، تجنبي الإرهاق والسهر والأدوية والأشعة السينية.". ولما رجعت أخبرت زوجها أن الأمور حسنةً إلا أن الطبيب نصحها بتناول الأغذية الغنية بالفيتامينات، والخلود إلى الراحة ومراجعة العيادة عند بداية كل شهر من أشهر الحمل، وأسبوعياً في خلال الشهر الأخير.".‏

    حدثتْ زوجها باسمةً: "ذات يوم، إبان سنوات الطفولة، جلستُ على حافة السرير الأبيض، كانت أمي يومذاك راقدةً في الفراش بعد سويعات من الولادة، سألتُ أمي: ماما من أين يجيء الطفل إلى الدنيا؟ أتدري ماذا قالت؟ حسناً، قالت: إنه يأتي من السرة، فسألتها من جديد: كيف يا ماما؟ أجابت: إنهم يفتحونها بمفاتيح من ذهب. وهذه المفاتيح لا يملكها إلا الأطباء والممرضات". وبعد صمت قصير قالت: "أتدري ياعزيزي بأنني أتخيل الرحم حديقةً واسعةً، فيها طيور بيض وأراجيح وأحواض مياه يسبح بها الوز. وفي ركن من أركان الحديقة مهود من خيزران وخوص، بها أفرشة مطرزة، وموشاة بزهور جميلة وورق أخضر، يرقد فيها أطفال حلوين، مغمضي العيون. ينتظرون الساعة التي يسمعون فيها صوت البستاني صائحاً بهم: هيا، أيها الأطفال، كفى نوماً، هيا أفيقوا وغادروا الحديقة بسرعة، فهم بانتظاركم: الأب والأم والجد والجدة والناس الآخرين هيا ياحلوين وبدون ضجيج.".‏

    الوقت يمضي. بعدها يؤلمه وذكرياتها تقض مضجعه. في الأسبوع الماضي دهمه المرض، وارتفعت حرارته، فلزم الفراش أربعة أيام، كان يضع الكمادات الباردة على جبينه ويبكي بحرقة. كان يذكر تلكم الأيام، حين كانا ينصتان لأصوات الفئران وهي تقضم خشب السقف. كانا يسكنان في شقة صغيرة.‏

    عندما هبطنا إلى أرض الذهب، تصورنا نحن المهاجرين المغاربة بأننا ربحنا الذهب. ولسوف نحول عمرنا إلى ريحانة دائمة. ريحانة لا تذبل. لكن، واحسرتاه، الأثرياء، سحقوا الريحانة بأحذيتهم اللامعة. سرقوا جهد سواعدنا. وعندما غضبنا وقررنا الإضراب دفعوا بالخنجر خفيةً واغتالوا زهرةً من الربيع. ربيعاً كنا نحن المهاجرين وأنت الزهرة. في حلكة الليل. ساح دمك، دم الزهرة، فوق الحشائش. كان دمك مملكة للغزل الليلي. مملكة شعبها كلماتي، همساتي، قبلاتي، ضحكاتي، آمالي، هواجسي، أسراري.مملكة كان دمك والملكة أنتِ. احتضنت الأرض مملكة الغزل وتوجت الملكة.‏

    دافئ حضن الأرض، أليس كذلك؟ ودافئ حضنك‏

    لو قيض لطفلنا أن ينام فيه. لولا ذاك الحادث الدموي لنام‏

    على زهر حضنك. حشائش حضنك‏

    تتألف من غرفة واحدة ومطبخ صغير في الغرفة سريران وكرسيان ودولاب وطاولة واحدة للطعام.‏

    كانت شقتهما في الطابق الأول. وبإمكانهما مشاهدة مايجري في الزقاق. في إحدى المرات سرق غلام قطعة من كبد البقر فلحقه القصاب وبيده سكين طويلة أمسكه من ياقة قميصه وانهال عليه بالضرب والتقريع.‏

    أسفل شقتهما كانت هناك مجموعة حوانيت تبيع اللحم والخضار والأواني المنزلية وكانت تتناهى من الأسفل أصوات الباعة، ضجيج السوق، صياح القصابين وهم ينصحون الصبيان بالكف عن متابعة حركات هر يتخاصم مع كلب على عظم ملقى في عرض السوق. كان شارل قصاباً بديناً، أصلع الرأس كالبيضة، يبغض الكلاب بغضاً شديداً، يصيح بصوته الأبح مهدداً الكلب الذي يزعجه: "انتظر، أيها الوغد، سوف أفقد أعصابي يوماً ما، فأمسكك بقوة وأحز عنقك بهذه السكين.‏

    انتظر، أيها الأحمق! انتظر وسوف أريك. سكينتي هذه ستتلوّن بدمك. كن واثقاً، بأنني سأذبحك من الوريد إلى الوريد. انتظر وسوف أريك!"..‏

    كانا يستحمان في المطبخ. يقوم أحدهما بتجهيز الماء الساخن. كم يكون جسدها رائعاً بعد الاستحمام.‏

    ذات مرة قال لها: "حين أنظر إلى جسدك البديع الآن. أتذكر الأميرات الرشيقات في الحكايات التي روتها لي جدتي في دارتنا العتيقة في فاس. كم كانت تحكي لي عن حوريات البحر والجنيات.".‏

    "يالك من جميلة!".‏

    "يالك من زوجة صغيرة ناعمة!"..‏

    نعناع حضنك. وسأكون فرحاً به. سأجن به. سأطير به. ونحلق معاً. نحلق إلى وطننا الذي غادرناه. سأمد يدي وأقطفه من حديقة حضنك. مثلما يقطف فلاحونا البرتقال. سأعانقه.سأزرعه بين ضلوعي. أزرعه مدينةً من وطننا، ناسها قلوبهم صافية. لو أنه ولد لجلسنا معاً في الأرجوحة. والريح الخضراء تهب. تهب وتهز الأرجوحة. وتندفع هذه في الأثير. آنذاك نهبط كالملائكة، كالشعراء، نهبط مملكة العشاق، مملكة الفقراء، إذ تمسح أصابعهم الخشنة. العرق الذي يبلل جباههم ووجوههم. تقبض أكفهم على الخناجر المسمومة التي تروم اغتيال الفرح والشعر والعمال.‏

    ونحن في دارتنا في مملكة الفقراء. يأتي صوتك عذباً شجياً: ياحبيبي، هل نزرع في راحتيه زهرتين من الوطن؟ طيب، لنسأله أولاً، ياجوهرتنا‏

    أتخيلك يامليكة شابة تخطر على الرمل، الوقت أصيل، الساحل يكاد يخلو من الناس. وأنا أمتع عينيّ بمنظر جسدك وخصرك الرائع وشعرك الأسود يطير في الريح.‏

    كل شيء على مايرام.‏

    الفرنسيون يصطافون في سان تروبيز والكوت دازور. يقرؤون سارتر وكامو ولورنس. يحتسون الروم، والويسكي، والبراندي. يأكلون الكافيار. وبكلمة واحدة:‏

    كل شيء على مايرام.‏

    هل كانا يحلمان بالفردوس؟‏

    أجل. أجل.‏

    كانا يركبان عربة يجرها حصانان قويان. العربة تطير. تشق كتل الغيم. الريح الوديعة تهب. تلاعب عرفي الجوادين. شعر مليكة يتطاير. يلف ذراعه القوية حول عنقها. يضحكان بمرح طفولي يحدقان مندهشين إلى الأبراج العالية والشرفات السامقة. يجيلان البصر هنا وهناك. آ. عاملات النسيج يركبن الحافلات، إنهن، إذاً ذاهبات إلى العمل. آ. تلك هي جنائن بابل المعلقة... انظري يامليكة صيادو اللؤلؤ الكويتيين يأكلون التفاح في حقول بعلبك. لكن ماذا يجري هناك؟ هو ذا السيرك المصري يزور حقول البطاطس في الجزائر.... يلتفتان للوراء.. يشاهدان مئات العربات. عربات يركبها عمال من كل الأقطار.. أنحن في حلم، عزيزي؟ ماذا هناك في الوادي الفسيح. انظري هناك. عمال سودانيون‏

    يرقصون على أنغام الطبول الأفريقية. أتسمعين‏

    جيداً؟ إنهم ينشدون للحب والشباب والمطر..‏

    ما أروعه من مشهد.. شيوخ مرحون ينشدون مع‏

    أبنائهم وأحفادهم. وهم منفرجو الأسارير..‏

    يا لؤلؤاً ولد من محارات أمه. يامن تكون وتبرعم وأزهر وأثمر من لهيب القبلات. أتحب هاتين الزهرتين البديعتين من وطن والديك، من وطن حبيبيك؟ سنزرعهما في كفيك. سنزرعهما كي تبقى تحمل في كفيك الطيبتين تاريخ الوطن، ذكرى الوطن. يهتز رأسه بالإيجاب ويشرق وجهه بالفرح.‏

    ما زلتِ صامتة يامليكة. ماذا؟ تبكين؟ عزيزتي، كنا نحتفظ معنا بحفنةٍ من تراب الوطن. ولكن مذ غبتِ عن ناظري، عن كفيّ المعروقتين مذ غابت شفاهك الطرية عن أصابعي الراعشة، غابت حفنة التراب. أذكر يا مليكة أنها كانت في قفاز بدلة العرس الأبيض. الحفنة ضاعت‏

    يامليكة. وضاع ثوب العرس. عزيزتي وطننا لا يضيع..‏

    لا يضيع.. ماذا سيحصل لو ولد طفلنا هنا؟ حتماً‏

    كانوا سيسرقون بسمته، ضحكته، براءته، مثلما‏

    موفورو الصحة، اسمعي يامليكة. تصفيق حار. وزغاريد النسوة في الحقل. يالصوتك الرائع يا فيروز! يالكلماتك الجميلة!‏

    يجن الليل. يجدان سريراً كبيراً لامعاً برمانات نحاسية. سريراً بفراش وثير وشراشف موصلية. فراش ناعم, وسائد وردية من ريش النعام. يرتميان على السرير، ويقبلها في ثغرها. تطوّق الغرفة الغصون الكثيفة والقناديل المضاءة.‏

    في الصباحات الجميلة يعتليان هودجاً مزيناً بالقطن الملوّن وسعف النخلة العربية. يدخلان مدناً واسعة بدروب زرق وشرفات وردية، مدن الأطفال والعمال المتعبين. مدن السوسن الأبيض والمطر الناعم والحقول الخضر ومدارس الموسيقى وأندية الرقص الشعبي. يمضيان تحت الشرفات، تنهمر عليهما الأزهار الملونة. قلائد اللؤلؤ الطبيعي. ترمي إليهما الحسان المناديل البيض، والخواتم الذهبية، الملاءات المطرزة، العمائم الملونة، تنهال عليهما الطاقيات المزركشة، الشالات الدمشقية، الخلاخيل الهندية، الجلابيب المغربية، يزدحم الشارع بالناس الفرحين. يرقصان، ينشدان. النساء المغربيات يرقصن (المكونه).‏

    تنبسط أذرعهن. ترتفع سيقانهن، يقابلهن صف من الرجال. يختلطون بنظام أنيق. يتأملون وجوه أخوتهم ورفاقهم. يتذكران النقابين القتلى. يتذكران‏

    سرقوا البرتقال الذهبي من أيدي فلاحينا البؤساء.‏

    ياعروسي. هأنذا أخلع ثيابي. أتعرى مثل شجرة خريفية. ألتصق بالأرض الآن. اسمعي خفقان قلبي. اسمعي عزف الأصابع. الأصابع التي نامت باسترخاء على كمثرى صدرك. عزيزتي، أتسمعين موسيقى القلب؟ هي موسيقى عذبة، شجية، رائعة، هأنذا أدوزن أنغام عذابي، وغربتي وحيرتي في ليل فرنسا.‏

    أنت تبتسمين يامليكة. ألمح وجهك ألقاً. رائعة أنتِ حين تبتسمين حين تلتقط أذناك نبض القلب. تعري مثلي يامليكة. ارقصي لي. ارقصي لي رقصة أخيرة، ارقصي لي رقصة من وطننا. رقصة النصر أو الخلاص.‏

    محبوبتي. أنت بعيدة عني، أنت في أسفل الحفرة، والدبابة تريد سحق ذراعي، لكنك تصرخين. وتأبين أن تمر الدبابة فوقها، عروسي، بعد أيام سنقوم بإضراب شامل وربما يسددون إلى صدورنا نيرانهم، سوف يتجمع رجال البوليس. يجهزون السيارات والدراجات النارية. ويئز الرصاص. يشمخ العلم في السماء. والآن عانقيني يا مليكة. عانقي غضبي. عانقي قلبي. عانقي رائحتي. نعم.. نعم.. الحارس نائم. والمقبرة مظلمة. الحشائش ندية رائعة. الليل أخرس مثل فمك. عانقيني مرة وإلى الأبد. عانقيني مرة واحدة‏

    أقاربهم ورفاقهم في فاس. يرفعان عيونهما إلى أعلام الدول في المروج والبساتين. يمرح أطفال ترافقهم طيور السنونو وتغرد لهم عنادل الفردوس.‏

    آه. معذرةً، ماذا يجري هناك؟‏

    لاشيء، البتة، كل شيء على مايرام. الشمس تشرق كل صباح على أوروبا.‏

    والأمور هادئة. حتى الموت والجريمة لا يثيران الدهشة. كل شيء ساكن وهادئ وجميل ورومانسي. توجد خلافات بسيطة بين العمال وأرباب العمل سرعان ما تزول ويعود كل شيء إلى حاله.‏

    أربيل 1979.‏

    طوال الأبدية كلها:‏

    مليكتي الغالية. إني موقن بأنك ستنهضين معي الآن. وفي الغد نرفع رايتنا. ربما سيهاجموننا بالرصاص.وسوف تخترق رئاتنا وأفئدتنا رصاصاتهم. رفاقنا سيأخذوننا إلى هناك. إلى تلك الحديقة التي التقينا فيها على انفراد أول مرة. وسيجاور جسدي جسدك أيام وليال معدودات، وسينصهران معاً. ويصبحان ورقة خضراء لها شكل القلب.وسوف تكبر الورقة وتتسع مثل ضحكة طفل.وستحملها الريح الباردة الخضراء.وتهبط في كف مغنٍ ظل يغني في ليل الجوع والحزن والأنين إلا أنه لم يهاجر

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()