بتـــــاريخ : 11/21/2008 6:58:49 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1031 0


    حالة خاصة من النعاس

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : نجلا أحمد علي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    أسيادي الأفاضل:‏

    فجرَ هذا اليوم أفقتُ على صراخ أمّي. كنائمٍ صُبّ على رأسه ماء، وأفقدتني المفاجأة صوابي، فقد داهمت النّوبة -في وقت حرج- أمي المصابة بداء عُضال.‏

    غادرت البيت إلى الطابق العلوي، وجّهتُ عدّة لكمات لباب بيت الطبيب بدل أن أنقره، فانبعثَ الجيران إلى الرّواق مستطلعين كموتى يوم الحشر.‏

    عاينَ الطبيب أمي وأعطاها مسكّناً، وناولني أنا وصفة، ثم انصرف الجميع متثائبين راجين لأمّي السلامة.‏

    إلى هنا، يبدو لاعلاقة لاستيقاظي المبكر بحالة النعاس التي باغتتني.‏

    سادتي:‏

    ولأنّ الوقت كان مبكّراً لشراء الخبز، فقد صنعت شاياً لي ولأمّي واحتسيناه معاً. ولم يخلُ الأمر من بعض مواساة ووعود بشفاء عاجل مثل: (سلامتك.. هذا دواء جيّد.. اشربي الساخن ينفع..)‏

    أيضاً قمتُ بلملمة البيت، وتسوية فراشي فيستحيل العودة إليه في ظرفٍ كهذا. في السادسة، تركت أمّي في عهدة الجيران وذهبت إلى (البرّاكة) فاشتريت ربطة خبز مع وقف التنفيذ، أي مع وقف الدفع لمطلع الشهر، فمن عادة الموظف الحكومي المشرف على بيع الخبز أن يثق بقدرتي وأمي على إيفاء الدّين فيقرضنا الخبز على حذر. ولم أنس التعريج على السمّان لاستدانة خمس بيضات وكيلو غرامين حليباً، فمن عادتي وأمي عند غياب الحواضر أن نستهلك بيضتين مع الشاي عند الفطور، ومثلهما عند العشاء، وبهذا لاتتعدى حاجتنا أربع بيضات، لكنّ الحياء يدفعني لشراء خمس راجيةً الله أن لايطول غياب أقربائنا عنا فيطول معه اشتهاؤنا للزيتون والزعتر أو مشتقّات الألبان التي يُحضرونها معهم أحياناً إذ يعرّجون علينا في المدينة.‏

    بعد ذلك كان عليّ فتح النوافذ، وكنس البيت، فملازمة أمّي الفراش لم تسمح بشطفه. وفي السابعة أطلّت الشمس بحدة منذرةً بنهار حار بعد ليل مؤرق حبست فيه الحرارة العالية (الأوكسجين) عن صدورنا، ممّا جعلني أسرع بغسل الملابس والبيّاضات التي لابدائل لها، ونشرها على السطح قبل أن يسبقني إلى ذلك الجيران أو تحتدّ الشمس أكثر. وعليَّ أيضاً إنهاء تصحيح الاختبارات الخطيّة للتلاميذ قبل الثانية عشرة ظهراً، أي قبل بدء الدوام المدرسي، وهذا ماعكفت عليه وأنا أجلس إلى جوار أمي تحسّباً للطوارئ، وأحياناً أترك عملي لأسندها من مرفقها فأقودها إلى المطبخ أو الحمّام. أو لأراقب الساعة فأناولها كأس ماء وحبّة دواء.‏

    في الساعة التاسعة ارتديت ملابسي على عجل لصرف الوصفة الجديدة من السوق، ولم أخط قيد شعرة قبل أن أترك أمّي أمانة في عنق الجارات.‏

    في الشارع واجهتُ أمرين لايُطاقان: كثافة الزحام وحرارة الشمس. واضطّرتني قلّة المال أن أقطع الشارع العام وأصل السوق راجلةً، حيث ابتعت دوائي وصدمني ثمنه الباهظ... وصدمت كذلك رغبتي في العودة إلى البيت بسيارات الخدمة المنتشرة، التي تصل خلال دقائق إلى أبعد نقطة في المدينة فترحم الناس من سيلان العرق، وسياط الحرّ.‏

    ها أنا أتابع سيري باتجاه حي (المينا)، عليَّ قبل العاشرة أن أصل دار المالك، وأدفع له أجرة بيته الذي نسكنه، إذ ترتّب علينا تأخير لايغتفر هذه المرّة.. وبعد أخذ وردّ لم أسلم خلاله من غضب ولسع كلام، ودّعت الرجل وسرت تحت الشمس من أقصى حي شمال المدينة إلى أقصى حي شرقها.‏

    لعلّي الآن لا أحسد على وضعي: فأنا أشعر بدبيب حبّات العرق فوق جبهتي، وتحت ذقني وإبطيَّ، بل أشعر بتكثّف قطراته تحت الجلد، وانبجاسها خلال المسام خلف أذني وأعلى الفخذين وأسفل ظهري، مما تسبّب بلزوجة ونتانة ولّدت فيَّ استياءً.‏

    حاولت تناسي الأمر وأنا أجدُّ السير بين شوارع مزحومة وأرصفة مأهولة، ولاشك أنّ النشاط الناجم عن مشيٍ سريع قد أحيا روحي، واستدعى انتباه الناس لي سيّما وأنا أنسلّ بخفّة بين السيارات الواقفة بأمر من شارة المرور. وإن كان عليَّ أن أشعر بالحرج من ذلك.. فعلى الآخرين بالمقابل أن يتفهموا الدافع الأليم الذي جعلني أسير كالمجانين تحت شمس حارقة فيما هم يركبون (التاكسي).‏

    إنني الآن أشاطر "ألبير كامو" أحاسيسه حين وصف الجزائر الحارّة في (الغريب) فقال أنها (بلدٌ تقتل فيها الشمس الأسئلة).. فسخونة رأسي لاتسمح بالتفكير إلاّ بعودة سريعة للاطمئنان على أمي، والتقاط الأنفاس قبل خوض معركة جديدة: (أربع ساعات ونصف من شرح الدروس لثلاثين تلميذاً).‏

    وحتى الآن.. يبدو لا علاقة لكل ماحدث في حالة النّعاس التي باغتتني.‏

    فرغم مسيرة صباحية شاقة بددت نصف وقتي، وصلت في الحادية عشرة والنصف فوجدت أمي على خير حال، وقد بارحت الفراش مما شجّعني على أخذ حمّام سريع أنساني مشقّتي وآلام ساقيَّ، وردَّ إليَّ الحياة.‏

    ودخلت الصف بذهن يقظ، وغبطة قلّما أحسّها تأتّت عن كفاح دام من الفجر إلى الظهر.‏

    مضت الحصة الأولى على خير. وحتى بداية الحصة الثانية... يبدو لاعلاقة للجهود التي بذلتها في شرح بحث (النسبة والتناسب) في حالة النّعاس التي باغتتني.‏

    معذرةً، سادتي الأكارم... فسأكفّ قليلاً عن الكتابة إليكم لأواصل الكلام... ربما مع نفسي.‏

    ***‏

    أذكر تماماً رغم صدمتي بما جرى، أنها كانت حصة (أخلاق وتهذيب) وكان الدرس: "يوم الحساب".. فشرعت أوضّح معنى (أن يظلّ الله العباد في ظلّه يوم لاظلّ إلاّ ظلّه) ففي هذا اليوم نميّز فئتين من الناس: من خفّت موازينه، ومن ثقلت موازينه، وفيما كنت أتحدث وعيون الأطفال مشدودة إليّ حتى لتكاد تنفر من محاجرها، إذ برأسي يثقل شيئاً فشيئاً تحت سلطان خدر لعين زحف إليه من حيث لا أدري مما أرغمني على الجلوس والتملّص من الكلام بصرف انتباه الأولاد إلى قراءة الدرس بالتناوب، واستخلاص العبرة منه وسط دهشة وخيبة.‏

    استندت بمرفقيّ إلى الطاولة. حاولت شقّ أجفاني والتظاهر بمراقبة مايجري، لكنّ نعاساً طاغياً أذبل عينيّ، فأمال رأسي، فأحنى ظهري، وأخيراً لامست جبهتي سطح الطاولة، واختفى وجهي بين ذراعيّ.‏

    أعتقد أنّ همس التلاميذ تحوّل إلى صياح... وكان عليّ رفع رأسي لنهرهم وإعادة الأمور إلى مجراها، لكن منعني قرب حلول الفرصة، وطغيان نعاسي وأعتقد أنّ يداً غضّةً أو أكثر ربّتت برفق على ظهري أو هزّت كتفي...، بل أظن أنّ أحداً نفحَ أنفاسه في أذني ليسرَّ لي بأمر... أو أنني كنتُ أحلم.‏

    لكنَّ ما أيقنتُ منه حين أفقتُ من نومي على قرع الجرس وماصاحبهُ من ضوضاء... وجود أشخاص ثلاثة داخل حجرة الدرس برفقة المدير. وحين أجلفتُ ووقفتُ احتراماً، كان الوافدون قد مسحوني من فوق لتحت بعيون محمرّة وغادروا كالبرق.‏

    دُعيتُ إلى الإدارة لحسابٍ عسير... حاولتُ بحياء شرح أسبابي فبتر المدير استعطافي وقاطعني بحدّة، مشيراً إلى الإهانة التي يُلصقها معلم (بلا ضمير) بسمعة مدرسة وشرف مهنة، مُلمّحاً إلى غضب مندوبي الوزارة مني، واحتمال فرض إجراء صارم بحقي.‏

    ***‏

    تقصّيتُ أسباب نومي أثناء رجوعي إلى البيت. فلو لم تمرض أمّي لكانت قاسمتني وزر الحياة في يوم صاخب كهذا. فإذْ تذهب في السادسة لشراء الخبز واللبن والبيض... يُتاحُ لي قسطٌ كافٍ من النوم فأنهض في السابعة لإعداد الفطور وغسل الملابس بارتياح وهدوء.‏

    وفيما يصحبُها الجيران لاحقاً لتسديد إيجار البيت... أجلسُ إلى أوراقي فأقوِّم الاختبارات على مهل. ويبقى معي (بحبوحة) وقت قبل بدء الدوام، فلا أُضطّر لشيّ جلدي وتسخين دماغي بشمس حاقدة... إذ يبدو واضحاً لي الآن أنّ مانلته من تعب تسبّب في خَوران عزيمتي، وإضعاف قواي الجسمية والذهنية، وأدّى إلى نومي في الصف،... وتلك سقطةٌ لاسابق لي بها.‏

    ***‏

    لكل حصان كبوة كما يقال. فهل يفهم السادة الأفاضل أنّ ماجرى هو كبوة من كبواتي؟ فيرفعون اليد عني ويتفضّلون بقبول اعتذاري؟!‏

    أمامَ سخط المدير وتعنيفه أجدُ نفسي مضطرة لتحليل أسباب حالة النعاس التي باغتتني على أنها حالة (خاصّة) وذلك بشرح الظروف الاستثنائية التي أدّت إليها، مما جعلني فور دخول الدار أُمسك قلماً وورقة وأخطُّ مايلي:‏

    أنا الموقّعة أدناه العاملة (س) من الفئة الثانية أعرض مايلي:‏

    أسيادي الأفاضل:‏

    "فجر هذا اليوم أفقتُ على صراخ أمّي، كنائمٍ صُبَّ على رأسه ماء... وأفقدتني المفاجأة صوابي، فقد داهمت النّوبة -في وقت حرج- أمّي المصابة بداء عُضال...‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()